قدّمت وزارة الخارجية الإيرانية تقريرها الدوري حول المفاوضات النووية في 12 يوليو 2021م للبرلمان، وأبدت أملها أن تُستكمل المفاوضات المتعلقة بإحياء الاتِّفاق النووي بعد تَسلُّم حكومة إبراهيم رئيسي السلطة، ولا شكّ أنّ نقل سلطة المفاوضات لرئيسي ستُلقي بظلالها على عملية المفاوضات، ولا سيّما في ظلّ سماته وموقعه في النظام وولائه للمرشد، فضلًا عن مواقفه المتشدِّدة، إذ يتسلّمُ رئيسي مِلفّ المفاوضات بعد أن قطع المفاوضون شوطًا مُهمًّا وحسموا عديدًا من القضايا، وبقيَت مسائلُ حساسة بحاجة إلى إرادة سياسية وقرارات صعبة سيكون على عاتق حكومة رئيسي تحمُّل المسؤولية بشأنها.
في هذ السياق يتناول هذا التقرير ملامح الاتِّفاق والخلاف الراهن بين إيران والولايات المتحدة بعد ست جولات من محادثات فيينا، وكذلك الفرص المتاحة أمام حكومة رئيسي بعد نقل مِلفّ المفاوضات إليها، بالإضافة إلى مستقبَل محادثات فيينا في ظلّ حكومة رئيسي، وكيف يمكن أن تتعاطى حكومة رئيسي مع قضايا الخلاف الأساسية.
أولًا: محادثات فيينا وحدود الاتِّفاق والخلاف الأمريكي-الإيراني
انعقدت ست جولات من المفاوضات في فيينا بدايةً من أبريل 2021م، شهدت توافقًا حول عددٍ من القضايا الأساسية، وأعطت مؤشِّرًا على وجود فرصة كبيرة لإحياء الاتِّفاق، فحسب وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فإنّ المفاوضات قد قرّبت الجانبين من “إطار اتِّفاق محتمل لرفع العقوبات”، وأنه قد اتُّفق على شطب “أكثر من ألف شخصية اعتبارية وحقيقية وكذلك المؤسَّسات التي تخضع لإشراف مكتب المرشد من قائمة العقوبات الأمريكية، فضلًا عن رفع جزءٍ مُهِمّ من العقوبات النِّفطية والمصرفية، كما سيُشطَب الحرس الثوري من قائمة الجماعات الإرهابية”، وفي المقابل ستعود إيران إلى التزاماتها النووية، وسيعود مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران إلى 3.67% كحدٍّ أقصى، وستكون إيران مُجازة “للاستفادة من 6104 جهاز طرد مركزي (آي آر1) كحد أقصى”، أما أجهزة الطرد المركزي المتطورة فيجبُ إعادتها إلى المخازن.
مع ذلك تَعثَّر التوصل إلى اتِّفاق نهائي؛ لأنه لا تزال عِدّة قضايا سياسية حساسة بلا حلّ، هذه القضايا تُبرِزُ حدود الخلافات بين الولايات المتحدة وإيران. فمِن جانبها ترغب إيران في إلغاء العقوبات كافةً أولًا وقبل تنفيذ إيران التزاماتها، لكنّ الولايات المتحدة لم تكُن مستعدة لإعطاء إيران هذا الامتياز، وتُصِرُّ على رفع العقوبات خطوةً بخطوة، ورفع العقوبات النووية فقط.
كما ترغب إيران في الحصول على ضمانات بعدم خروج الحكومة الأمريكية الحاليَّة أو أيّ حكومة قادمة من الاتِّفاق النووي، لكن يقول الأمريكيون إنَّ القواعد والإجراءات الداخلية لا تسمح بتقديم أيّ ضمانات في هذا الصدد، ولا تضمن القوانين الدولية بقاء الولايات المتحدة في الاتِّفاق.
وفي الحقيقة لم تذهب الولايات المتحدة إلى مفاوضات فيينا من أجل العودة لإحياء الاتِّفاق النووي وحسب، لهذا عبّرت خلال الجولتين الخامسة والسادسة من المفاوضات عن رغبتها في تضمين بندٍ بشأن محادثات لاحقة تتعلقُ ببرنامج إيران الصاروخي وسلوكها في المنطقة، كما طرحت تحديد إطار عمل لأجهزة الطرد المركزي الإيرانية المتطورة، ومخزون اليورانيوم المخصَّب بنسبة 20 % و60 %، في حين أنَّ إيران ترغب في الاحتفاظ بالتطورات التقنية الخاصة بأجهزة الطرد المركزي، ولا توافقُ على إضافة أيّ بنود إلى الاتِّفاق النووي.
كان فريق رئيسي شكَّل لجنةً لدراسة التقدم في المفاوضات، وتوصلوا إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ فريق المفاوضات الإيراني بقيادة عباس عراقتشي في فيينا كان ضعيفًا، لهذا مع توقف المفاوضات أصبحت الكرة في ملعب إيران وعليها أن تتعاطى بإيجابية مع المطالب والشواغل الأمريكية، أو الإصرار على موقفها، إذ كانت حكومة روحاني تُبدي مرونةً بشأن بعض القضايا، لكن مع نقل مِلفّ المفاوضات لحكومته، فإنَّ المفاوضات ستصبح اختبارًا مُهِمًّا لهذه الحكومة.
ثانيًا: أسباب نقل مِلفّ المفاوضات إلى حكومة رئيسي
لا يمكنُ فصل قضية محادثات فيينا عن النزاع والتنافس الداخلي بين الفصائل في إيران، ظهر ذلك من اللغة المُسيَّسة لرسالة وزارة الخارجية للبرلمان حول التقرير الثاني والعشرين الخاصّ بالمفاوضات النووية وتسريبها للإعلام، التي تضمَّنت توصيةً بنقل مِلفّ المفاوضات إلى حكومة إبراهيم رئيسي، ويؤكد ذلك طلب النائب السابق في البرلمان علي مطهري من الرئيس الأسبق حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف تَرْك توقيع اتِّفاق فيينا لحكومة رئيسي، لتتحمَّل مزايا وعيوب الاتِّفاق كاملة.
بالأساس أُثيرَ جدلٌ بعد انتخاب رئيسي وكان بعض التقديرات يرى أنه إذا أُنهِيَ الاتِّفاق في ظلّ حكومة روحاني، فإنَّ حكومة رئيسي سوف تتحررُ من الأعباء التي قد تفرضها هذه العودة، كما ستمتلكُ القدرة على المناورة في حالة أيّ إخفاق، لكن إذا تُوُصّل إلى اتِّفاق مع تولِّي حكومة رئيسي المسؤولية، فإنَّها ستتحمَّل مسؤولية هذه الاتِّفاقية مع كل مزاياها وعيوبها بوصفها الموقِّعة عليها.
في النهاية حُسمت المسألة، ويبدو أنَّ داخل النظام ولدى المرشد تحديدًا رغبةً في إعطاء رئيسي امتياز توقيع الاتِّفاق وتحصيل مكاسبه المتوقَّعة، وفي هذا السياق تلقت حكومة روحاني إشارةً بأنَّ دورها في المفاوضات قد انتهى، هذه الإشارة قال روحاني إنه تلقاها في مارس 2021م.
مع انتقال مِلفّ المفاوضات إلى حكومة رئيسي، تظهر فرصةً أمام حكومته لرفع العقوبات بصورةٍ عاجلة، فستّ جولات من المفاوضات والاتِّفاق حول مسوَّدة نهائية وضعت إطارًا للعودة المتبادلة إلى الاتِّفاق، ومنحت حكومة رئيسي الفرصة للوصول إلى صفقةٍ سريعة فور تشكيل الحكومة، ليُحقِّق أول وعوده الانتخابية بعدم تحوُّل المفاوضات إلى عملية استنزافية.
لن يواجه رئيسي تحديَّات داخلية في ما يتعلق بالعودة إلى الاتِّفاق النووي، ولا سيَّما في ظلّ الإجماع الداخلي بشأن أهمية إحياء الاتِّفاق النووي، وهذا قد يساعده على اتخاذ قراراتٍ سياسية شديدة الحساسية، إذ إنها ستكون بموافقة النواة الصلبة داخل النظام.
كما توفر العودة إلى الاتِّفاق فرصةً مُهمَّةً لحكومة رئيسي من أجل رفع العقوبات القصوى، وإعادة تأهيل الاقتصاد ومعالجة الأوضاع المعيشية المتردية على يد حكومته، وامتصاص الغضب الشعبي المتنامي ومنح «المتشدِّدين» شرعيَّةً شعبيَّة واسعة، بل تغيير صورته شخصيًّا بعد الشكوك المتزايدة في شرعية وصوله إلى منصب الرئاسة، فضلًا عن توجيه ضربة إضافية إلى الخصوم والمعارضين. ويمهِّدُ، تحقيق الاستقرار الداخلي وتخفيف التوترات مع الخارج، الطريقَ نحو عمليَّة انتقال سياسي سلس في حالة رحيل خامنئي.
مع ذلك، لن يدخل رئيسي المفاوضات بلا أوراق ضغط لتقليل تكلفة العودة إلى الاتِّفاق النووي، ويلاحَظ ذلك منذ انتخابه في الموقف الإيراني المتصلب بخصوص المِلفّ النووي وتخفيض التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتظلّ هذه الإجراءات مفهومة في إطار تكتيكات التفاوض وتعزيز أوراق الضغط قبل العودة إلى فيينا، بجانب أوراق ضغط أخرى على الصعيد الإقليمي تتعلق بمِلفّ الحرب في اليمن والاستقرار في العراق وسوريا.
ثالثًا: مستقبل محادثات فيينا في ظل حكومة رئيسي
رغم أجواء انعدام الثقة، ورغم أنَّ رئيسي يمثِّل وجهة النظر الراديكالية للنظام الإيراني، وقد أُسندت إليه مُهِمَّة الرئاسة تحديدًا ليكون مسؤولًا عن عملية إعادة تأهيل النظام والحفاظ على أيديولوجيته وتوجهات السياسة الخارجية المُعادية للغرب والولايات المتحدة تحديدًا، فإنَّ رئيسي ليس في موقعٍ يسمحُ له بإحداث تغييرات جوهرية على الموقف الأمريكي في المحادثات، وسيكون هو و «المتشدِّدون» الأطراف الأكثر تضررًا في حال فشلت هذه المفاوضات.
ورغم سياسة الابتزاز النووي يرى الأمريكيون أنَّها ضمن الإجراءات التي يمكنُ التراجع عنها بسهولة، ومن جانبه يدرك رئيسي وجود خطوط حمراء دولية على امتلاك إيران سلاحًا نوويًّا، ومِن ثَمَّ فإنَّ تسريع إجراءاتها للضغط والمناورة للعودة إلى الاتِّفاق النووي بلا تنازلات قد يكون خطرًا كبيرًا على النظام نفسه، لأنَّ فشل المفاوضات قد يعكسُ سلوك إدارة بايدن بصورة أكثر قسوة من سلوك إدارة ترامب، كما يدرك رئيسي أنَّ قوىً إقليمية قد تتحرك بمفردها لمواجهة هذا التحدي، وهذه القوى بالأساس تعمل على عرقلة هذه المفاوضات وإعادة إيران إلى العزلة والعقوبات.
مع العودة الاضطرارية إلى المفاوضات حيث لا بديل لإيران إلَّا العزلة والعقوبات، نجد استحقاقات وتنازلات مُهمَّة مطلوبًا من حكومة رئيسي أنْ تقدِّمها إذا أرادت إحياء الاتِّفاق النووي ورفع سيف العقوبات المُصلَت على النظام، ولا بد أن توازن بين الصعوبات التي يمكنُ أن تواجهها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، والعودة إلى الاتِّفاق النووي وَفق الرؤية الأمريكية المطروحة والامتيازات التي ستحصل عليها.
فخلال الجولة السادسة من مفاوضات فيينا طلب الأمريكيون إضافة وثيقة جانبية تتضمَّنُ قيودًا على تطوير الصواريخ ذات القدرة على حمل رؤوس نووية، ووافق روحاني على مناقشة هذا، لكن رئيسي رفض الفكرة نهائيًّا، وهو أمرٌ متوقَّع في المستقبل أيضًا، لأنَّ قضية الصواريخ ينظر إليها النظام على أنها سيادية غير قابلة للتفاوض، وهي مسألة لم ولن تقدِّم فيها أي حكومة إيرانية تنازلاتٍ تُذكَر، ومِن ضمن ذلك أيضًا المطالب الأمريكية والأوروبية بإجراء محادثات لاحقة تتعلق بسلوكها في المنطقة، فلو كانت إيران تريد الانصياع لهذه المطالب لوافقت على مطالب الولايات المتحدة خلال فترة ترامب.
وعلى أسوأ التقديرات فإنَّ موافقة الولايات المتحدة على العودة إلى الاتِّفاق النووي القديم نفسه في ظل تشدُّد حكومة رئيسي والرغبة في السيطرة على برنامجها النووي، لن تكون بوابةً تمهِّد الطريق لنجاح ٍكبيرٍ لحكومة رئيسي كما تتوقع، ولا سيَّما إذا كان رئيسي يظن أنَّ بإمكانه مواصلة سياسات إيران نفسها، فبعد توقيع الاتِّفاق النووي في 2015م لم تتخلَّ الولايات المتحدة عن عقوباتها، بل أضاف الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما نفسُهُ بعض العقوبات، وكان عدم التزام إيران رُوحَ الاتِّفاق سببًا لانهياره كليةً في 2018م، وهو سيناريو قابل للتكرار.
يتصل بذلك تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في الكونغرس بأنَّ إدارة بايدن ستحافظ على قدرٍ كافٍ من العقوبات، بمعنى الحفاظ على أداة الضغط الاقتصادية على إيران، وبالأساس صيغت عقوبات إدارة ترامب بطريقةٍ لا تمكّنُ إيران من الاستفادة من مجرد إحياء الاتِّفاق النووي، فهيكل الاتِّفاق تَضرَّر إلى حدٍّ بعيد ولا يمكنُ العودة إليه دفعةً واحدة بصيغته المعزولة عن بقية القضايا.
في حال عدم توافق الأطراف على تضمين آلية لتسوية معالجة أنشطة إيران الإقليمية المزعزِعة للاستقرار وتهديداتها الصاروخية، فإنَّ الاتِّفاق سيُفَرَّغُ من مضمونه مرةً أخرى، وقد يدفع بعض القوى الإقليمية إلى اتخاذ إجراءات أحادية قد تضرّ بمركز الولايات المتحدة نفسها وتهدِّد مصالحها، وتستنزف قدرات إيران وتجعلها في حالة مواجهة دائمة غير قادرة على تَحمُّل تكلفتها على المدى البعيد ولو رُفع بعض العقوبات.
إضافةً إلى ذلك، تتوافر للأمريكيين فرصة لوضع «التيار المتشدِّد» في النظام الإيراني في الزاوية، ولا سيَّما بعد هيمنتهم على مفاصل السلطة كافَّةً بفوز رئيسي، ففرصة الحصول منهم بصورةٍ مباشرة على اتِّفاقٍ جديد غير قابل للنقد الداخلي ممكنة، وفي حالة عدم حدوث ذلك توجد فرصةٌ أخرى من خلال إبقاء حملة الضغوط القصوى، وتأليب الرأي العامّ ضد «المتشدِّدين» وضد المرشد، وربما قيادة إيران نحو تغييرات عميقة في ظلّ تدهور شعبية النظام التي تأكدت مع تدنِّي المشاركة الشعبية إلى أدنى حدودها منذ الثورة في انتخابات 2021م الرئاسية، وفي ظلّ الاحتجاجات الواسعة التي تشهدها مدن إيران، فضلًا عن تفاقم الأزمات كأزمة المياه والكهرباء، وهو وضع شبيه بوضع الشاه عشية الثورة في عام 1979م.
خلاصة
في النهاية يمكن القول إنَّ نجاح مفاوضات فيينا سيتوقفُ على المرونة التي سيُبديها الإيرانيون بالأساس، ويبدو أنَّ صيغة الصفقة التي توصلت إليها حكومة روحاني، بمشاركة البرلمان ومجلس الأمن القومي واطّلاع المرشد والمؤسَّسات الأمنية والعسكرية في إيران وفي مقدمتها الحرس الثوري، هي الصفقة المتاحة أمام رئيسي، وأنَّ قراراتٍ حساسة بشأن أنشطة إيران العدائية بحاجة إلى قرار سياسي، وأنَّ إظهار بعض التشدد الظاهري هو من أجل الحدّ من المطالب الأمريكية والعودة إلى الاتِّفاق بلا تنازلاتٍ كبرى، وإظهار صلابة في الموقف أمام الرأي العامّ الداخلي، حيث تحتاج حكومة رئيسي إلى الاتِّفاق أكثر من حاجة حكومة روحاني إليه، والأرجح أنَّ عودة الاتِّفاق النووي مؤكدة، لكن وَفق شروط جديدة ستقبلها حكومة رئيسي، أو ستُضطرُّ إلى مواجهة ضغوط داخلية وخارجية مكثَّفة.