مع كلّ انتخابات تُجرى في إيران، فإنَّ السُلطة الإيرانية تحرص على تقديم نفسها للعالم الخارجي كدولة «ديمقراطية» تمارس الانتخابات الحُرَّة النزيهة. لكن عند النظر في ممارسة السُلطة للانتخابات وهندستها، والنظر كذلك في تنظير مؤسِّسي وفلاسفة «الحكومة الإسلامية»، فإنَّنا سنجِد فلسفة ومقاصد أخرى نصُّوا عليها. والانتخابات المقبلة؛ للبرلمان ومجلس الخبراء، المزمع إجراؤها في مارس القادم، لها أهمِّية خاصَّة لنُخَب الحُكم بطهران، لسببين رئيسيين؛ الأول: خشية النظام من المشاركة الضعيفة لأسباب عدَّة، منها: سياساته في الانتخابات الماضية من استبعاد مئات المرشَّحين المحسوبين على «المعتدلين» و«الإصلاحيين»، والتي تسبَّبت بعزوف واسع عن المشاركة في التصويت، وقد انتهجها أيضًا في هذه الانتخابات بتصفية مئات المرشَّحين، كذلك قد ينأى قطاع من الناس عن التصويت؛ بسبب ما تعرَّض له المحتجُّون منذ مقتل مهسا أميني في سبتمبر 2022م. والثاني: هو استعداد النظام وترتيبه لمرحلة ما بعد المرشد الأعلى علي خامنئي، ومن ثمَّ تكمُن أهمِّية هذه الانتخابات (البرلمان ومجلس الخبراء) بالنسبة له.
وفي هذا التقرير، سنرصد بعض مقولات فلاسفة ومُنظِّري «إيران الإسلامية» حول الفلسفة الحقيقية للانتخابات، ومقاصدها في أطروحاتهم ورؤاهم، وهل يروْنَ أنَّ ثمَّة هناك اختيارٌ حقيقي للشعب، أم أنَّه اختيارٌ صوري، وما هي سياسات مجلس صيانة الدستور في هندسة الانتخابات، وأهداف النظام برُمَّته من إجراء الانتخابات وحرصه عليها في مواعيدها.
أولًا: السياق والبيئة المذهبية
ينبغي أولًا أن نُدرك أنَّ ثمَّة اختلافات كبيرة في الفقه السياسي الشيعي المعاصر، حول شرعية «الاختيار والانتخاب»؛ فالأصل عند الجماعة الشيعية التقليدية هو «النصب» و«التعيين» من الله، أمَّا «الاختيار» فيُنظَر إليه في الفقه التقليدي الشيعي بوصفه مسألةً من لُبِّ التدبير السُّنِّي. والخميني على أنَّه ملتزم بالإرث التقليدي الشيعي، لم يخرُج عليه حتى وفاته، إلّا أنَّه أضاف إليه، أو مَركز في منظومته الفقهية نظرية ولاية الفقيه المُطلَقة؛ وبالتالي أضحى يستمِدُّ نظرية «النصب» من الإرث التقليدي الفقهي والكلامي، ويستمِدُّ ولايته على الجماعة الشيعية، من نظرية ولاية الفقيه المُطلَقة. المفارقة أنَّ التقليديين الانتظاريين يقولون بالنصب والاختيار، ويعنون بذلك الإمام المعصوم، أمَّا في فترة غياب المعصوم فلا عصمة لفقيه، ولا نصب ولا تعيين، وإنَّما سكتت جماعةٌ منهم، وامتنعت عن المشاركة السياسية، واعتمد آخرون المشاركة بناءً على حق الاختيار والانتخاب حتى ظهور المعصوم. بيْد أنَّ الخمينيّ في فلسفته السياسية، استمرَّ في القول بالنصب والجَعْل، حتى في زمن غياب المعصوم.
إذن، فالخميني والولائيون الإيرانيون لا يروْنَ للشعب حق الاختيار الحقيقي في نفس الأمر، ولا يمركزون الأُمَّة في العمل السياسي؛ وبالتالي فإنَّ الأُمَّة والعامَّة غير فاعلين، وهذا ينعكس على الانتخابات من غير شكّ؛ ونبيِّن ذلك بشيء من التفصيل:
1- نبْذ الديمقراطية والاختيار: لا يؤمن مؤسِّسو «إيران الإسلامية» بالديمقراطية، ولا بالاختيار، ولا برأي الأغلبية. وقد انتقد الطباطبائي الديمقراطية الغربية ورَأيَ الأغلبية في غير موضع من مصنَّفاته الفلسفية، مثل كتابه «مقالات تأسيسية في الفكر الإسلامي». على أنَّ الطباطبائي لا يؤمن بولاية الفقيه المُطلَقة بقراءتها الولائية الأخيرة، والتي استبعدت أيّ صورة لرأي الناس بشكل مُطلَق. بيْد أنَّ «فلاسفة النظام»، والمفارقة أنَّهم من تلامذة الطباطبائي والخميني في نفس الوقت، يرفضون مبدأ الانتخابات من أساسه؛ بمعنى أن تكون الانتخابات حَكَمًا بين المتنازعين، أولًا لأنهم لا يؤمنون برأي الأكثرية، وثانيًا لأنَّ الولاية المُطلَقة تضاد الانتخابات، كما ذهب مصباح يزدي والحائري، وغيرهما.
في نفس الوقت، فإنَّ الانتخابات تُجرَى ولم تُعطَّل في إيران؛ وبالتالي فإنَّ تنظيرات النُّخَب الدينية قد يُقال إنَّها مجرَّد تنظيرات فلسفية صِرْفة لا تُعوِّل عليها الحكومة الإيرانية! وقد أجاب عن ذلك آية الله مصباح يزدي نفسه، بقوله: «إنَّ اللجوء إلى الديمقراطية والقبول برأي الأكثرية، هو لرفع الاختلافات في حدود ضيِّقة، لكنَّها لا تمتلك دائمًا شرعية ترجيح كل أكثرية على كل أقلِّية». أي أنَّ الانتخابات هي أقرب إلى الطقوس والتشريفات، منعًا للحرج الذي قد يُمارَس على «إيران الإسلامية» دوليًا، وهو ما أشار إليه بعض «الإصلاحيين» أخيرًا، في سياق الاستنكار من إجراءات السُلطة في مسألة الانتخابات.
2- في مواجهة النجف: تؤمن النجف أو جناحٌ عريض منها بنظرية «مقبولية المؤمنين»، وذلك ما قرَّره النائيني «مُنظِّر الثورة الدستورية»، في كتابه «تنبيه الأمة»، ولا تزال مرجعية السيستاني تؤمن به وتروِّج له. لكن الولائيين الإيرانيين لم يؤمنوا بتلك النظرية، ولم يجعلوا للفرد حق التدخُّل في إضفاء الشرعية على الحكومة؛ فالحقل العام ليس من شأن الشعب. بل يذهب مصباح يزدي إلى ما هو أكبر من ذلك، عندما فرَّق بين «الشرعية»، و«المقبولية»، فقد تتأسَّس عنده حكومة «شرعية» لكنها غير مقبولة من الشعب، وقد تتأسَّس حكومة «مقبولة» لكنها غير شرعية. أي أنَّ شرعية الحكومة والبرلمان والمؤسَّسات ليست نابعةً من الشعب، بل من الولي الفقيه مباشرةً، وشرعيته مُستمَدَّة من الله لا من الناس. وتلك النقطة جوهرية في الخلاف المستمِرّ بين قُمّ والنجف، وتجلَّى في فترة مرجعية الخوئي في النجف، والخميني في إيران، ولا يزال هو المهيمن على أُسِّ الخلاف بين الحوزتين؛ فالإيرانيون يريدون إخضاع النجف لولاية الفقيه الإيراني، والنجفيون لا يزالون يقاومون ويريدون استقلاليةً كاملة عن حكومة طهران، يروْنَ أنَّها ميزة تاريخية لهم، فضلًا عن اعتقادهم بالدولة الشورية الدستورية، وهو ما يرفضه الولائيون الإيرانيون، بل أراد الخميني التخلُّص من الإرث الدستوري للثورة الدستورية بأكمله.
ثانيًا: هندسة الانتخابات ودور مجلس صيانة الدستور
إذا كانت الانتخابات في إيران، في حقيقتها وفحواها، هي مجرَّد طقوس وتشريفات لرفع الحرج عن الحكومة في الغرب وأمام العالم، وفقًا لكثير من الفقهاء والفلاسفة؛ فإنَّ مهام وصلاحيات عمل مجلس صيانة الدستور، تجعل الانتخابات بالفعل أقرب إلى كونها مسألةً طقسية أكثر منها مسألةً واقعية، فيقوم بإفراغ العملية الانتخابية من مضمونها، عبر استبعاد مئات المرشَّحين في الانتخابات.
ولم يقتصر الأمر على استبعاد من يُسمِّيهم المجلس «أعداء الثورة»، أو حتى «أعداء الحكومة الإسلامية»، بل أضحى يستبعد المرشَّحين الذين يُخشَى فوزهم، لإفساح الطريق لمرشَّحين مؤهَّلين وفقًا لمعايير المجلس، وهو ما تمَّ مع استبعاد الرئيس السابق حسن روحاني من المنافسة على عضوية مجلس الخبراء، وما حدث كذلك من رفْض مجلس صيانة الدستور لأهلية رئيس الكُتلة السُنِّية في البرلمان الحالي، ومنعه من الترشُّح للدورة المقبلة، دون بيان سبب قرار عدم الأهلية، وعندما سُئِل بعض أعضاء مجلس صيانة الدستور عن عِلَّة عدم بيان سبب رفْض الأهلية، أجابوا بأنَّه لا يُوجَد قانون يسمح بذلك. والواقع أنَّ مجلس صيانة الدستور لا يسعى فقط لفلترة المرشَّحين، وهندسة الانتخابات، وتفريغها من مضمونها بقبول أوراق ترشيح أولئك الذين يدينون بالولاء للثورة والدستور وفكر المرشد فقط دون غيرهم، بل إنَّهم في حقيقة الأمر يمارسون ضغوطًا على جميع أعضاء المجالس المُنتخَبة بالامتناع عن ممارسة أيّ معارضة حقيقية أو انتقاد نُخَب الحُكم، وإلّا فمن يُقدِم على ذلك لن يجِد نفسه في الانتخابات اللاحقة، ولو كمجرَّد مرشَّح. وثمَّة لمحة أخرى متعلِّقة باستقلالية مجلس صيانة الدستور، حيث ذهب بعض المرشَّحين ممَّن رُفِضت أهليتهم إلى تدخُّل أطراف خارجية، مثل روسيا في قرار رفض أهليته؛ بسبب انتقاده الدائم لسياسة موسكو، وهذا إنْ صحَّ فإنّه يزيد من الفجوة بين مجلس الصيانة والنُخَبة الثقافية والدينية، التي تريد مساحات للمعارضة أو للعمل المستقِلَ، وإن لم يكُن صحيحًا فإنَّه دالٌّ على مدى الصورة الذهنية، التي وصلت إليها سُمعة مجلس صيانة الدستور، وهو يتحمَّل جزءًا من ذلك؛ بسبب سياساته الإقصائية وتحوُّله إلى آداة من أدوات الدولة، وهو ما انتقده آية الله منتظري من قبل. إذن، لم يترك مجلس صيانة الدستور حرِّية الحُكم والاختيار للناس، بل استبق العملية الانتخابية بغربلة المرشَّحين؛ حتى ينتخب الناسُ من بين أولئك المرشَّحين الموثوقين من مجلس الصيانة فقط، وهو ما يتّسِق تمامًا مع تنظير المؤسِّسين للثورة والدولة.
وهُنا لفتةٌ أكثر أهمِّية؛ فمجلس صيانة الدستور بانتهاجه تلك السياسة، كأنَّه يخشى من عرْض أفكار النظام على الناس بصورة مباشرة للتصويت عليها، فلو أنَّ مجلس الصيانة قبِلَ جميع المرشَّحين وترك للناس حرِّية الانتخاب، لكانت الانتخابات بمثابة استفتاء على شرعية النظام؛ لأنَّ الناس قد يذهبون إلى التصويت لمعارضي النظام ومنتقديه ممَّن يرفض مجلس الصيانة أهليتهم، وهو ما تخشاه نُخَب الحُكم. ومن هُنا يمكن القول إنَّ النظام لا يريد اختبار شرعيته وشعبيته، منذ قيام الثورة حتى اليوم، وفي الواقع لم يتِم ذلك فعلًا، منذ بداية الثمانينات حتى اليوم. لكن وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ النُّخَبة الدينية حريصة على حثّ الناس للذهاب للانتخابات؛ للحفاظ على صورة النظام، ورفْع الحرج عنه، فهي تريد الجمع بين «متناقضين»؛ وهُما: مشاركة الناس، وتفريغ الانتخابات من مضمونها في نفس الوقت.
1– حثُّ الناس على المشاركة: تخشى النُّخَبة الحاكمة نفرة الناس من المشاركة في الانتخابات بفعل سياسات مجلس صيانة الدستور، لكنّهم يخشون في الوقت ذاته استيلاء خصومهم السياسيين من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» على البرلمان ومجلس الخبراء إذا لم ينتهجوا سياسة الإقصاء عبر مجلس الصيانة. وبالتالي، لاقت سياسة مجلس صيانة الدستور قبولًا من النُّخَب الدينية الحاكمة، ومن المرشد نفسه، فقد حاولوا التغطية على الإقصاء، الذي يمارسه مجلس صيانة الدستور، وهو ما انتقده غير واحد من رجال الدين، فاتّهموا دُعاة المقاطعة بأنَّهم يخونون الثورة والوطن، مع أنَّ مقاطعة الانتخابات في العمليات الديمقراطية هي فعلٌ سياسي في المقام الأول، وحقٌّ من حقوق الناخب. ومع ذلك، فقد وصفَ المرشد الأعلى علي خامنئي دعوات المقاطعة بأنَّها «عمل عدائي…، يتعارض مع الإسلام». وفي خطاب آخر، قال خامنئي إنَّ أعداء إيران يحاولون «خلق اليأس، وجعْل الناس متشائمين حيال المشاركة والتصويت».
2- تفريغ الانتخابات من مضمونها: شنَّت بعض القُوى السياسية انتقادات لاذعة لمجلس صيانة الدستور، متّهِمةً إيّاه بتفريغ الانتخابات من مضمونها، وقد عبَّر حسن روحاني عن غضبه إزاء محاولات هندسة الانتخابات وصوريتها، قائلًا: «إذا شعر الناس بأنَّ مشاركتهم في الانتخابات سيكون لها التأثير على حياتهم، فسيفعلون ذلك، لكنَّهم لن يشاركون إذا شعروا أنَّ مشاركتهم من عدمها سيان». واعتبر روحاني أنَّ التنوع الفكري شرطٌ مهمّ في الانتخابات، وليس مجرَّد عدد المرشَّحين، وحذَّر من وصول قناعة لدى الناس بأنَّه لا فائدة من صناديق الانتخابات؛ لأنَّه حينئذ «ستقع الكارثة، إذا تمَّ تجاهل صناديق الاقتراع، وسنشهد حينها اضطرابات دموية. ويجب أن نعرف أنَّ هذا النظام لا بديل له، والسبيل الوحيد هو إصلاح النظام».
لكن النظام لم يُلقِ بالًا لتهديدات، أو نصائح، حسن روحاني، وغيره من الساسة ورجال الدين، فالنظام يرى ذلك حقًّا من حقوقه، ويرى أنَّ سياسته تتّسِق تمامًا مع المقولات الفلسفية والفقهية لمؤسِّسي الدولة ومنظِّريها بخصوص صورية الانتخابات، باعتبارها مجرَّد شيء تشريفي طقسي، ومتّسِقة كذلك مع الولاية المُطلَقة، التي تعطي المرشد الحقّ في تعطيل الواجبات والفرائض، «إذا اقتضت المصلحة ذلك»، وهو ما بيَّنه الشيخ حيدر حب الله، عندما ربَطَ بين صورية الانتخابات والولاية المُطلَقة للمرشد؛ فـ«شرعية المرشد تأتي من الله ومن المعصوم، لا من الصناديق؛ وبالتالي تصرُّفاته أيضا في كافَّة الأمور، لا تخضع لرأي العامَّة، ولا ينبغي لها».
ثالثًا: أهداف النظام ورسائله
قد يُقال بعد ذلك: ما أهداف النظام من الانتخابات، إذا كان لا يؤمن بها كوسيلة للتغيير، أو للتحكيم بين المتنازعين في الشأن العام؟ ثمَّة أهداف للنظام من وراء انعقاد الانتخابات بصورة دورية، والحرص عليها في مواعيدها المحدَّدة سلفًا، فعلى الرغم من أنَّها انتخابات صورية ومُهنْدَسَة، إلّا أنَّ حرْص النُّخَبة الحاكمة على إجرائها في مواعيدها دون تأخير أو تملمُل، يحيلنا إلى الأهداف الكامنة والخفية.
1- التأثير في الغرب: يُدرِك الإيرانيون مفاتيح الغرب، ويرسلون رسائل إلى الغرب والأمريكان بأنَّ النظام الإيراني نظام ديمقراطي، قريب من النظام الغربي في فلسفته وتشكُّلاته؛ ولذا تؤكِّد إيران على الفلسفة الميتافيزيقية والتدبيرية، كوجه من أوجه قوَّتها الناعمة، وهي تُدرِك أثر ذلك في العقل الغربي، باعتباره أمرًا مشتركًا بينهما. وللغرب مصالح في إيران ومعها، فهو وإن أدرك صورية الانتخابات الإيرانية، إلّا أنَّه ينظر إليها، على الرغم من ذلك، كدولة يأمل في بناء علاقات معها، إذا ما تمَّ تعديل سلوكها ليتماشى مع «المبادئ الوستفالية»، حسب هنري كيسنجر؛ وبالتالي، ينظر الإيرانيون للانتخابات على أنَّها تُرمِّم صورة الدولة في الغرب، وتشكِّل، أو تساهم في تشكيل الانطباع العام والصورة الذهنية لدى الدوائر الغربية. وهو ما يقرِّرهُ المنظِّرون الولائيون كثيرًا، فيؤكِّدون على ضرورة الانتخاب وصوريتها في وقت واحد، فضرورة إقامتها لرفع الحرج عن «إيران الإسلامية» في العالم، حتى لا تتعرَّض لضغوط أو تشويه وانتقادات، وصوريتها حتى لا تكون مخالفة لأُسُس الولاية المُطلَقة، التي تهمِّش العامَّة في الاختيار لصالح الولي الفقيه، والتي تجعل أحكامه «الولائية» مقدَّمة على الأحكام «الأولية» و«الثانوية».
2- تعزيز الشرعية: حيث يروِّج النظام لنفسه في الداخل والخارج لشرعية على أساس الانتخابات، فيواجه خصومه الداخليين من «الإصلاحيين» و«المعتدلين» وغيرهم، باعتباره نظامًا شرعيًا ذا مصداقية ومقبولية من أغلبية الإيرانيين. ويسعى كذلك للحصول على شرعية خارجية بين الجماعة الشيعية، باعتبار «لا محدودية ولاية الولي الفقيه»، و«شمول الولاية» لتشمل جميع المؤمنين في العالم الإسلامي، وذلك ينعكس على صورة النظام وهيبته في مواقعه الإستراتيجية، مثل العراق وسوريا ولبنان. لكن الشرعية التي يعتقدها النظام، غير الشرعية التي يعتقدها العامَّة، فالنظام يرى أنَّ شرعيته الحقيقية مُستمَدَّة من السماء، بينما يرى العامَّة والعالم الخارجي أنَّ الشرعية مُستمَدَّة من الناس والانتخابات، وهُنا يكمُن الخلاف بين الشرعيتين؛ بسبب اختلاف الأُسُس، التي ينطلق منها ويؤمن بها كل فريق.
3- المقارنة مع خصومه الإقليميين: حيث يُروِّج النظام كثيرًا إلى أنَّ إيران هي الدولة الوحيدة، التي تجري انتخابات في المنطقة، ويقارن نفسه بالدول العربية، لا سيّما الدول الخليجية. لكن نُخَب الحُكم في طهران، تتجاهل الحقائق أو تتغافلها المتعلِّقة أولًا بمدى مصداقية الانتخابات الإيرانية، ومدى قُدرتها على تغيير السياسات والإستراتيجيات للدولة، وتأسيس مؤسَّسات رقابية تأخذ على يد النُّخَبة الحاكمة ومساءلتهم إن لزِم الأمر. وثانيًا، تتغافل عن اختلاف صورة ومضمون العقد الاجتماعي بين «إيران الإسلامية» وبين الدول المجاورة، خصوصًا دول الخليج العربي، وفي القلب منها المملكة العربية السعودية، فالعقد الاجتماعي في دول الخليج والمملكة العربية السعودية استقرَّ وارتضاه الناس منذ مئات السنين، وانعكس ذلك على النهضة السعودية الجارية وعمليات التحديث في كل القطاعات، والتفاف الناس حول القيادة، أي ثمَّة تطبيق والتزام من الجميع بالعقد الاجتماعي المستقِرّ والمُتعارَف، والذي تلقَّاه الجميع بالقبول وانعكس على معدلات الإنتاج والصناعة والبنى التحتية وقطاعات التعليم والصحة؛ وبالتالي على القوَّة الناعمة والصورة الذهنية للمملكة ودول الخليج العربي اليوم. بينما العقد الاجتماعي في طهران ينُصّ على تأسيس جمهورية ولوازمها ومقتضياتها من إجراء انتخابات مباشرة لاختيار المسؤولين، وهو ما لم يتِ حتى اليوم بصورة حقيقية وشفّافة، وانعكس ذلك على المواطنين، الذين يخرجون كل فترة في مظاهرات واحتجاجات عادةً ما يتِم وأدها والتعامل الأمني معها دون أيّ تغيير في السياسات والمقاربات. فلا استطاع الإيرانيون الإبقاء على مَلَكية رشيدة، ولا استطاعوا في الوقت نفسه تأسيسَ جمهورية حقيقية على غرار الجمهوريات الحديثة تتمتَّع بنظام حُكم رشيد؛ وبالتالي بدا ذلك جليًّا في مؤشِّرات قطاعات التعليم والصحة والإنتاج، ونحو ذلك؛ ما ألجـأ عشرات الألوف من الإيرانيين إلى الهجرة سنويًا إلى أوروبا وأمريكا بحثًا عن حياةٍ أفضل، وأكثر أمنًا واستقرارًا.
خاتمة رُبَّما تُدرِك النُّخَبة الدينية الحاكمة، جيِّدًا، أنَّ سياسة إقصاء المرشَّحين ستؤدِّي إلى عزوف الناس عن الانتخابات، كما حدث في الانتخابات الماضية، ورُبَّما بصورة أوسع وأعمق حتى تمَسّ شرعية النظام أو تنال من سمعته وهيبته، لكن لم يكُن أمام تلك النُّخَبة الحاكمة سوى السماح للمرشَّحين بالترشُّح؛ وبالتالي قد تجِد نفسها أمام معارضة قوية في البرلمان ومجلس الخبراء، أو تِجد نفسها أقِّليةً مقابل أغلبية لخصومها. وبالتالي، فإنّ السُلطة الإيرانية وجدت نفسها أمام حلَّين آخرين؛ الأول هو هندسة الانتخابات وفلترة المرشَّحين قبل بدء الانتخابات رسميًا، وهو النهج المتعارف، والذي تنتهجُه منذ بداية تسعينات القرن العشرين، والثاني هو السماح للجميع بالترشُّح ثمّ تزييف إرادة الناخبين داخل الصندوق. وقد آثرت السُلطة أن تعتمد النموذج الأول، باعتباره أقلَّ ضررًا للنظام؛ لأنَّ النموذج الثاني قد يؤدِّي إلى اضطرابات دموية، مثل التي حدثت إبان انتخابات 2009م الرئاسية، التي قال المعارضون حينئذٍ إنَّها زُيِّفت نتائجها. في الوقت ذاته، فإنَّ تلك السياسة ستؤدِّي حتمًا إلى عزوف الناخبين عن التصويت، وهو ما يحاول النظام تفاديه بترهيب العامَّة عبر الفقهاء ورجال الدين، بالفتاوى الدينية وحُرمة المقاطعة، وضرورة التصويت في الانتخابات، وهو ما ستُبيِّنُه نتائج الانتخابات المقبلة؛ هل يستجيب الشعب لنداء المسؤولين، أم يتجاهل الانتخابات برُمّتها؟