أصدرت المحكمة الدينية في إيران مذكرة اعتقال بحقّ رجل الدين الشيعي حسين الشيرازي، في بداية فبراير 2018م، وهو ابن المرجع الكبير -زعيم التيَّار الشيرازي- آية الله صادق الشيرازي. وجاءت هذه المذكرة بسبب تهجمّه على شخص خامنئي ووصْفه إياه بالديكتاتور وفرعون العصر، واعتُقل حسين الشيرازي على إثر ذلك وجرى استجوابه، ثمّ أُفرِج عنه في نفس اليوم.
وقامت مجموعة من عناصر الاستخبارات الإيرانية بتوقيف سيارة المرجع صادق الشيرازي وابنه حسين الشيرازي من أحد شوارع مدينة قم، ثمّ اقتادوا حسين الشيرازي -بعد ضربه وسحله وإسقاط عمامته- إلى جهة غير معلومة حتى الآن[1] وكان هذا الاعتقال يوم الثلاثاء 6 مارس 2018م.
وفي ضوء هذه التطوّرات تحاول هذه الدراسة إلقاء الضوء على طبيعة الخلافات بين المرجعية الشيرازية والنِّظام الإيراني، وأثر تلك الاعتقالات على العَلاقة المتوترة بين الجانبين، ومساحات المناورة التي يعمل فيها الشيرازيون، وهل هذه الاعتقالات تأتي كنتيجة لتوتر النِّظام السياسي على خلفية المظاهرات الأخيرة؟ أمْ هي عزيمة النِّظام الإيراني على عدم وجود منافس قويّ لأطروحة ولاية الفقيه بقراءتها الخمينية؟!
أولًا: تاريخ الخلاف بين الشيرازيين والنِّظام الإيراني
في البداية قامت السلطة الإيرانية بفرض الإقامة الجبرية على مؤسس التيَّار محمد مهدي الشيرازي (1928-2001م)، بسبب نظريته «شورى الفقهاء» وبسبب معارضته لسياسة الخميني، ثم بعد ذلك استهدفت التيَّار والمؤمنين به بشكل عامّ، فقد قامت السلطة الإيرانية -حسب الشيرازيين- باعتقال ابن المرجع الشيرازي الأكبر محمد رضا، وتعذيبه في سجون إيران إلى أن مات في السجن سنة 2008م، ونعاه عمه صادق الشيرازي في مجالس تعزية في قم، ونعته عائلته في كربلاء حيث نُقل جثمانه من إيران ودفن في كربلاء، وأقام أخوه مرتضى الشيرازي مجالس تعزية على أخيه في الحوزة الزينبية في دمشق حيث يوجد عدد كبير من الشيرازيين. وينفي النِّظام الإيراني تعذيبه لمحمد رضا الشيرازي فضلًا عن قتله [2]، لكن تلميذه ياسر الحبيب يعزو استهداف النِّظام الإيراني لمحمد رضا الشيرازي إلى خوف النِّظام من أن يصبح مرجعًا أعلى مؤثرًا على الشيرازيين خلفًا لوالده، فكان الهدف تصفية مشروع مرجع أعلى يُهدد النِّظام الإيراني بمرتكزاته الراهنة [3]. وقد اعتقل النِّظام الإيراني مرتضى الشيرازي، وهو الأخ الأصغر لمحمد رضا الشيرازي، حتى انفلت منهم وهرب خارج إيران.
ويترك النِّظام الإيراني صادق الشيرازي -وهو عمّ محمد رضا الشيرازي والأخ الأصغر لمؤسس التيَّار محمد مهدي الشيرازي- يمارس مرجعيته في قم، ولم يسعَ لتكميمه أو إقصائه بشكل تامّ، ولكن قد تكون هذه المساحة بسبب طبيعة صادق الشيرازي غير الثورية وغير العنيفة، فهو وإن كان ضدّ ولاية الفقيه بقراءتها الخمينية إلا أنه لم يصطدم ولم يدعُ للصدام مع النِّظام الإيراني، ولا يمثل وجوده تهديدًا للنظام الإيراني، خصوصًا بعد تشظي القاعدة الشيرازية بين مرجعية صادق الشيرازي وتقيّ المدرسي. لكن أغلبية الشيرازيين اليوم ممن يقلدون صادق الشيرازي ضدّ التغيير بالعنف. ومع أنّ تقي المدرسي يتبنى العنف في المنطقة والإقليم وقاد حركة طلائع الرساليين ذات التاريخ العنيف إلاّ أنّه يلقى دعمًا من النِّظام الإيراني، بخلاف صادق الشيرازي [4]. وهذا إن دلّ فإنّما يدلّ على مساندة النِّظام الإيراني للعنف في المنطقة، فالتاريخ العنيف لطلائع الرساليين التي قادَها تقيّ المدرسي في البحرين والكويت معروف ومشهور.
وفي سنة 2013م، اعتقلت محكمة رجال الدين المرجع حسين الشيرازي ابن المرجع صادق الشيرازي، دون ذكر أي أسباب، مما أثار غضب الشيرازيين لدرجة أنهم هددوا بتنظيم مظاهرات مسلحة أمام مقر السفارة الإيرانية في بغداد، والقنصليتين الإيرانيتين في النجف وكربلاء، وهددوا بحرقها في حال تم إيذاؤه أو لم يتم الإفراج عنه خلال 24 ساعة، وهددوا بحرب مفتوحة واستهداف المصالح الإيرانية في بقاع شتى، وبالفعل أفرجت السلطات الإيرانية عنه بُعيد تهديد الشيرازيين [5].
وعاد المرجع الديني حسين الشيرازي ليهاجم النِّظام الإيراني بقوّة في ديسمبر 2017م، فقال: «هناك ثلاث أذرع أو عوامل لتمادي الدولة في قمعها. العامل الأول أبرزها وأوضحها، وهو القمع السلوكي، عبر السجون والمعتقلات، والتعذيب عبر جهاز المخابرات والبوليس والجيش، هذا قمع معروف. هذه من سمات الدول، رئة الدولة، مثل الأكسجين للإنسان، فالدولة من غير وسائل القمع لا يمكنها أن تعيش. العامل الثاني هو القمع الاجتماعي، عبر المجموعات الغوغائية، هذه من أهمّ ركائز الدولة، مجموعات غوغائية يحركونهم في أي وقت يحبون، ضدّ أي مشروع وضدّ أي واحد، وهؤلاء عندهم مجموعات بالآلاف، يحركونهم بوازع ديني، بتعصبات دينية أو عرقية أو أمثال ذلك. غوغائيون يحركونهم في مختلف الجهات ومختلف المجالات، يضربون سفارات، يحرقون مؤسسات، يدخلون على بيوت مراجع، يحرقون مكتبات، ويحلقون لحى بعض مراجع التقليد، هؤلاء الغوغائيون من ورائهم الدولة، تحركهم ضدّ المرجع لأنه قال رأيًا فقهيًّا لا يوافقها، لقد راقبوا كل بيوت المراجع ودنسوها. هذا القمع الاجتماعي أقوى من العامل الأول، وإن لم يكن بهذا الظهور. العامل الثالث وهو الأهمّ: القمع الإعلامي، فالماكينة الإعلامية تصنع جوًّا هائلًا إلى درجة أن الحسين عليه السلام يصير خارجيًّا، ويُقتل قربة إلى الله تعالى، قال الإمام الصادق: (ازدلف إليه ثلاثون ألفًا، كلٌّ يتقرب إلى الله بدمه). بالإمكان أن يُجبَر الناس على قتل الحسين، لكن قربة إلى الله؟! هذا ما لا يمكن. فالقضية القلبية ما سيطر عليها يزيد، بيد أن الدعاية هي التي فعلته، وجعلته خارجيًّا، وإلى يومك هذا أكبر مراجع الطائفة يصير خارجيًّا، فيقولون هذا بريطاني وهذا أمريكي، وهكذا [6]. ماكينة الدول تُنتج القمع الإعلامي، تسوّيه في البداية خارجيًّا ثم تقتله، وهذه قدرة الدول فقط وفقط، وهذا ما فعله معاوية مع أمير المؤمنين، وابنه صنع نفس الشيء مع أمير المؤمنين».
وتعدى هجوم الشيرازي الابن ليشمل ولاية الفقيه، فقال: «أيّ شخص يعترض على ولاية الفقيه يقال له هذه طريقتكم، مثل فرعون عندما قال أنا ربكم الأعلى، وعدّ موسى وهارون يقوضان طريقة الناس لا طريقته هو، طريقتكم المثلى، هذا التبجّح، وهذه الانبهارية، وهذا المدح للذات. هو [يقصد الخميني] يقول: أنا ربكم الأعلى، فإذا قيل له هذه طريقتك أنت، قال: إنما هو طريقكم أنتم، ومصلحتكم أنتم، الآن عندما يريدون أن يطيحوا بشخص يقولون فلان هذا ضدّ ولاية الفقيه، مع أن الشيخ الأنصاري كان ضدّ ولاية الفقيه. مبدأ أنا ربكم الأعلى وهذه طريقتكم المثلى يتجلى في ولاية الفقيه، تطابُق النعل بالنعل، القذ بالقذ. هذه البلاد الآن قائمة على هذا المفهوم بقضها وقضيضها» [7] .
هذا الكلام السابق من المرجع حسين الشيرازي صدر منه في درس له من قلب مدينة قم، وفي أثناء زخم مظاهرات الإيرانيين ضدّ النِّظام، مما سبَّب حرجًا كبيرًا للملالي، إذ كانوا يُصدّرون صورة مفادها أن المتظاهرين لا ظهير لهم ولا سند من المرجعية القمية، وأن مطالبهم تعارض الشريعة وتؤدِّي إلى الانفلات. وأثارت تصريحات حسين الشيرازي جدلًا واسعًا، حتى استدعته المحكمة الدينية، ثمّ أفرجت عنه في يناير 2018م. لكن سرعان ما اعتقلته قوات من عناصر الاستخبارات في مارس 2018م بسبب نفس التصريحات التي شنَّها ضدّ خامنئي في أواخر ديسمبر 2017م.
وبدأ ردّ فعل الشيرازيين سريعًا هذه المرة، ففي مساء يوم اعتقاله نظَّموا مظاهرات أمام القنصلية الإيرانية في كربلاء بالعراق [8]، ثمّ لما لم يستجِب النِّظام الإيراني لمطالب الإفراج عنه نظَّموا وقفات احتجاجية واعتصامًا بالقرب من السفارة الإيرانية في الكويت [9]، ثمّ تَطوَّر الأمر أكثر ليقتحمَ الشيرازيون السفارة الإيرانية في لندن ويقتلعوا العَلَم الإيراني من أعلاها، مما جعل السفارة الإيرانية تُدِين الحادثة، ووجهت وزارة الخارجية الإيرانية اعتراضًا شديد اللهجة ضدّ بريطانيا [10] .
وردود أفعال الشيرازيين تلك لها دلالات واسعة، مثل:
» بقعة الانتشار: إذ لم تتمركز المظاهرات في مدينة واحدة أو بلد واحد بل شملت العراق والكويت وبريطانيا، وقد تمتد إلى بلدان أخرى. كذلك يدلّ ردُّ فعل التيَّار السريعُ على قوَّته في الحشد والتنظيم، وقوته في الفعل المتدرج والمناورة.
» من الأقوال إلى الأفعال: لم يكتفِ الشيرازيون بالتهديدات هذه المرة بل نفَّذوا ردَّ فعل سريعًا ربما لم تتوقعه السلطة الإيرانية، ومِن ثَمّ صدَّرَت إيران الأزمة إلى الخارج بين عواصم التشيُّع في العراق ولبنان، حيث شنّ الموالون لولاية الفقيه هجومًا شرسًا ضدّ التيَّار الشيرازيّ وكالوا الاتهامات له كـــ”عملاء بريطانيا”، وغيرها من الاتهامات لتسقيط المرجعية الشيرازية. وهذا التصعيد الإيراني يُعرِّض الصفّ الشيعي كلّه لانشقاقات كبيرة لصالح النِّظام الإيراني، وربما دلّ ذلك على أنّ النِّظام الإيرانيّ لن يتراجع هذه المرة، أو لن يسمح بأن يخرج من المعركة خاسرًا، وهذا يعني أيضًا أنّ إيران تُقدِّم مصلحتها ومصلحة نظامها السياسي إذا تضاربت مع مصلحة الطائفة ككيان.
» أزمة ولاية الفقيه: تبرهن مظاهرات الشيرازيين ومِن قبلها مظاهرات الإيرانيين جميعًا ضدّ النِّظام الإيرانيّ أن ولاية الفقيه تمرّ بأكبر أزمة منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية. فَكُرَة الثلج تتدحرج من داخل الحوزة العلمية إلى الجمهور العادي، ومن الجمهور العادي إلى داخل الحوزة العلمية، ممّا يزيد نسب المعارضين للنظام الإيرانيّ ولولاية الفقيه، وكذلك نسب المعارضين لتعامل النِّظام مع المناهضين لولاية الفقيه. وإذا صدّر النِّظامُ فِعَاله بأنّها ضدّ المعارضين للجمهورية الإسلامية ولولاية الفقيه وخطّ الإمام، فإنّه سرعان ما يفقد مبرراته الأخلاقية مع كثرة الاعتقالات التي لم تنحصر في صفوف الشيرازيين، بل اتسعت لتشمل صفوف الإصلاحيين أيضًا الذين هم على نفس تَوَجُّه ولاية الفقيه مع بعض المطالبات الإصلاحية الجزئية. فقد يسأل رجل الشارع الإيرانيّ، أو العقل الشيعي في أيّ بقعة: إذا كان الشيرازيون عملاء بريطانيا ومِن ثَمّ جاز اعتقالهم وتكميم أفواههم، فلماذا اعتُقل موسوي وكروبي؟ وحُجّم خاتمي؟ وطُورِدَ كديفر والصانعي وعشرات غيرهم؟! ممَّا يُفقِد النِّظام مبرِّراته الأخلاقية، وسُمعته التي يرسمها لنفسه.
أيضًا في هذا السياق لا يُمكن تجاهل أنّ النِّظام الإيرانيّ لم يعتقل مراجع الشيرازيين كافَّةً في قم، واعتقل فقط مَن وَصَف خامنئي بـ”فرعون” و”الديكتاتور”، ومِن ثَمّ فأيّ حديثٍ عن عمالة لبريطانيا أو أي دولة أخرى هنا غير مبرَّرة، لأن الاعتقال يأتي في سياق نقد خامنئي نفسه. ومن المبرِّرات التي يسوقها النِّظام الإيرانيّ ضدّ الشيرازيين:
» عمالة الشيرازيين للخارج: يُروِّج الإعلام الإيرانيّ أنّ الشيرازيين عملاء لبريطانيا ودول الخارج، في حين أنّ مراجع الشيرازيين كافة إنما يمارسون اجتهادهم من داخل قم، مثل صادق الشيرازيّ وابنه حسين الشيرازيّ، ومِن ثَمّ فأيّ عمالة للخارج أو وجود قنوات اتصال مع الخارج لا يُمكن تصديقه عقلًا. ولكن هذا ديدن قديم للنظام الإيرانيّ، فقد اتهم النِّظامُ حسين منتظري من قبل بأنّه “يتلقى الدعم من متعصِّبي أهل السُّنَّة”، بل وحدَّدوا رقم بئر النِّفط المخصَّصة له [11] ، وحددوا إقامته جبريًّا. وقريب من هذا تهديد المخابرات الإيرانية المفكر الشيعي أحمد الكاتب، ليكفّ عن نقد ولاية الفقيه، وكتبت الصحف الإيرانية عن “ظهور سلمان رشدي جديد في العراق.. أحمد الكاتب” [12]. وأيضًا ما حصل مع شريعتمداري وغيره من المراجع، كالذي حدث مع مراجع الإصلاحيين بعد الثورة الخضراء في 2009م، كلّ هذا يدلّ على أنّ الأمر ليس عمالة للخارج بقدر ما هو تشويه ونزع أعلمية، وضرب أي مرجع يناهض النِّظام في أطروحته وفلسفته.
» سَبّ ولعن أهل السُّنَّة: يروج الإعلام الإيرانيّ أن الشيرازيين يسبُّون ويلعنون رموز أهل السُّنَّة، ويُساق هذا الكلام في سياق تبرير اعتقالهم. وهذا لا يصحّ بطبيعة الحال، لأنّ النِّظام الإيرانيّ نفسه ترك المرجع وحيد الخراساني يُمارس مهامه الفقهية من داخل حوزة قم، بل ويذهب المسؤولون الإيرانيون ليتبرَّكوا به، مع أنّه من المراجع المشهورين بسَبّ ولعن أهل السُّنَّة، بل وأوجب نبش قبرَي أبي بكر وعمر، لأنهما دُفنا في أرض مغصوبة [13] . مع ذلك لم يتدخل النِّظام الإيرانيّ ويمنعه، أو يعتقله على غرار ما فعل مع الشيرازيين، بخاصة أنّ مرجعيته كبيرة في قم وتُفرِّخ مجموعات عنيفة ومتطرفة ضدّ الآخر السُّنِّي، بالإضافة إلى أنّ السب واللعن ليسا خاصَّيْن بالشيرازيين -ولا بوحيد الخراساني- بل بتراث مذهبيّ يحتاج إلى تنقيح وتشذيب [14] .
وهنا مفارقة عجيبة، هي أنّ النِّظام الإيرانيّ يزعم عمالة الشيرازيين للخارج (يُقصَد بالخارج هنا بعض الدول السُّنِّية كجزء من هذا الخارج)، ثمّ يزعم النِّظام في نفس الوقت أنه يعتقل الشيرازيين لأنهم يسبون ويلعنون أهل السُّنَّة، فكيف يُعتقَلون لأنهم يلعنون أهل السُّنَّة، ثمّ يُتَّهَمون في نفس الوقت بأنّهم عملاء لأهل السُّنَّة؟!
لكن الحقيقة أنّ هذه الاعتقالات -المستمرَّة- التعسفية ضدّ الشيرازيين تدلّ على أن النِّظام الإيرانيّ لا يريد منافسة لـ”ولاية الفقيه”، وأن أي طرح منافس لنظريته سيُواجَه بالإقصاء والتنكيل إن لزم الأمر. وقد هُدّد رفسنجانيّ نفسه قبل وفاته، وهو من أعمدة النِّظام ومؤسسيه، بسبب طلبه مأسسة “ولاية الفقيه” وتحويلها إلى ما يُشبه “شورى الفقهاء” الشيرازية. فالنِّظام إذًا سريع التوتُّر ضدّ معارضيه، وسرعان ما ينهار نضجه المفتعَل في التعامل مع المعارضين في أوقات الأزمات.
» عقدنة السياسة: هذه الأزمة الأخيرة بين النِّظام والشيرازيين تبرهن على أنّ النِّظام عَقْدَنَ السياسة، وجعل ولاية الفقيه عقيدة دينية ومذهبية، فلا يُقبَل أيّ انتقاد لها من داخل الحوزة الرسمية، في حين ينظر الشيرازيون إلى الأمر على أنه احتكار للدين والمذهب من طرف النِّظام الإيرانيّ، وأنّ الوليَّ الفقيه صار هو الإمام المعصوم الذي لا يقبل النقد أو المواجهة، أو حتى استقلال أطراف فاعلة من داخل الحوزة.
والحاصل أنّ كلام حسين الشيرازيّ ضدّ خامنئي تفكيكيّ ومهمّ جدًّا عن استراتيجية النِّظام الإيراني مع الشيرازيين خصوصًا، والمعارضين له عمومًا، مما يعني أنّ الشيرازيين يدركون جيدًا بيئة الصراع التي يعملون فيها، ولكن يبقى الإشكال المهمّ: لماذا صرّح حسين الشيرازيّ بتلك التصريحات مع أنّه يدرك جيدًا بيئة الصراع، وردّ فعل النِّظام الإيرانيّ؟!
هل لأنه اعتمد على قوة التيَّار الداخلية والخارجية، ومِن ثَمّ ظنّ أن النِّظام لن يُقدِم على خطوة الاعتقال تلك، أم لأنه أراد إحراج النِّظام في أثناء معمعة التظاهرات ظنًّا منه أن النِّظام في حالة تَوَتُّر ولن يستطيع اتخاذ إجراءات ضدّه؟ وقد يكون هذا الافتراض صحيحًا إذا أخذنا في الاعتبار أنّ النِّظام أفرج عنه في أثناء احتجاجات الإيرانيين في آخر ديسمبر وأول يناير، ثمّ لما هدأت الأمور اعتقله.
ثانيًا: المقاصد والأبعاد.. ثنائية التحجيم والتكميم
إنّ العقل الإيراني اليوم يدرك أنّه يمتلك قوّة خشنة لا يمتلكها خصومه من دول الخارج، لا تتمثل هذه القوة في السلاح والعتاد على أهميتهما بقدر ما تتمثل في حجم الكتل البشرية الضخمة المؤدلجة عقائديًّا [15] ، التي تمتلك من الأهبة والاستعداد والطموح غير المحدود ليسيطروا على كامل الجزيرة العربية، كما بدا من بعض تصريحات القادة، ومتابعة معاركهم الأخيرة مع تنظيم الدولة والأكراد في العراق وسوريا تصبّ في هذه القراءة. هذا المخزون البشري الضخم، وهذه العقيدة المتوهجة الثائرة يخشى النِّظام الإيراني من تآكل حصته فيها، ومن تشظيها لصالح تيارات منافسة أخرى لها من المقبولية في أوساط المقلدين ما يعادل أو قد يفوق التيَّار الخميني الذي يرتكز على سيف السلطة أكثر مما يرتكز على الفلسفة وعُمق المذهب. فقَمَع الشيرازيين وغيرهم بطبيعة الحال ممن يمثلون تهديدًا للنظام الإيراني، وذلك أولًا للتخويف بمعنى ألا ينجرف مئات الألوف من البشر تحت ألوية تلك التيَّارات المنافسة، وألا يجهروا بمعاداة ومعارضة النِّظام وفلسفته، كي تبقى هيبة النِّظام، وثانيًا لحفظ النِّظام السياسي بصورته وقراءته الراهنة التي هي قراءة خاصة به، لا تمتّ إلى التراث الشيعي ولا الموروث الحوزوي بِصِلة، ومِن ثَمّ فالنِّظام سيظلّ خائفًا ومتوجسًا من أي تيارات مخالفة، خصوصًا مع وجود الوجوه الأولى المؤسسة لشكل الدولة الحالي، فأيّ تراجع عن هذا الشكل هو بمثابة فشل للمشروع الذي ناضلوا من أجله، وهو ما لا يمكن تقبله منهم، بالإضافة إلى تشكل لوبيات وجماعات مصالح عنكبوتية ستنهار مصالحهم ومواقعهم وامتيازاتهم السياسية والدينية إذا اهتز النِّظام أو تزلزل فجأة، أو تراجع عن فلسفته التي بُني عليها [16].
تبقى مسألة مطاردة السلطات للشيرازيين قائمة على إدراك السلطة السياسية لحجم وموقع التيَّار الشيرازي في الحوزة والمجتمع والخارطة الشيعية، وتتعامل معه بناءً على حجم التهديد الذي يمثله، والمؤكد إلى اليوم أنها لم تُقرّر استئصاله وتترك مساحات له للعمل في قم وإيران، وتحاربه في نفس الوقت داخليًّا وخارجيًّا بتقليم أظافره أولًا بأول، أو يمكن القول إنها تعتمد مبدأ «محاولة التوظيف في الخارج والتحجيم في الداخل». تعوّل إيران أيضًا على ضعف وهشاشة بنية التيَّار الشيرازي وانعدام قدراته على التوسع في بيئات مغايرة ومخالفة مذهبيًّا، لأن خطابه صدامي مع الآخر، السنّي والزيدي، والإسماعيلي والعلوي، والليبرالي، وكل الآخر، في حين يتمتع النِّظام الإيراني ببراغماتية عالية في مفردات وسرديات الخطاب السياسي والإعلامي. فإذا ضعفت قدرات الشيرازيين على التمدّد في بيئة غير شيعية، وإذا كانت البيئة الشيعية متشظية بين الشيرازيين والخمينيين والتقليديين وغيرهم، بالإضافة إلى تشظي وانقسام الشيرازيين الداخلي، وإذا كان النِّظام الإيراني هو من يملك السلطة والمال والسلاح والنفوذ، فتترجح الكفة لصالحه، بل ربما لا توجد مقارنة أصلًا لتغيير خرائط اللعبة بين الجانين على المديين القريب والمتوسط.
ثالثًا: بواعث القلق الإيراني من التيَّار الشيرازي
يتردد أنّ النِّظام الإيراني صار أكثر نضجًا مع معارضيه في السنوات الأخيرة، بخلاف عهد الخميني وبدايات عهد خامنئي. ولكن هذا النضج هو نضج افتعاليّ صوريّ، ليس له أيّ وجود في الواقع، فهو نضج وقت انعدام المخاطر فحسب، ولم ينسحب إلى طبيعة المشاركة السياسية والتعدّدية ومأسسة الحريات دستوريًّا ومؤسساتيًّا في بنية الدولة. ويمكن حصر بواعث القلق الإيراني من نفوذ التيَّار الشيرازي في العناصر التالية:
» راديكالية حركية × راديكالية حركية: الخميني كرجل دين لم يكن ينتمي إلى الحركة الإصلاحية الشيعية، بل كان رجل دين تقليديًّا في أبواب الفقه والاجتهاد الشيعي، ثمّ مزج هذه التقليدية الشيعية بالراديكالية في الفقه السياسي، أو يمكن القول إنّه كان «اثنا عشريّ الفقه، إسماعيليّ السياسة» كما قلنا في موضعٍ آخر. فالمذهب الشيعي -الاثنا عشري-بتاريخه الحوزوي ودرسه الفقهي والأصولي والفلسفي المعتمد لم يعرف إدارة الدولة والحكم ولم يسعَ لها، وكان يعتمد «فقه الانتظار» كمبدأ استراتيجيّ لا تكتيكيّ في إدارة العمل السياسي والمشاركة في السلطة، بيد أنّ الخميني انقلب على فلسفة «الانتظار» ولم يكتفِ بمجرَّد المشاركة السياسية، ولم يكتفِ كذلك بخطّ الإصلاحيين بدءًا من الميرزا النائيني ومن بعده، بل قفز عليه، أو أحدث ردّة عليه، فرجع بأطروحته إلى ما قبل الدستورية، أي ما قبل دستورية الحركة (الحركة الدستورية) وما قبل دستورية الدولة (الدولة الحديثة).
هنا لفتة مهمّة، أنّ الخميني نفسه لم يبتدئ حياته مؤمنًا بولاية الفقيه، بل بدأ الإيمان بها عندما تأثر بصديقه محمد مهدي الشيرازي عندما ذهب إلى العراق، فالشيرازي هو أول من قال بولاية الفقيه، ثمّ تلقفها منه الخميني في دروسه بالنجف. ومع ذلك لم تكن بصيغتها المطلقة التي استقر عليها رأي الخميني سنة 1988م. كان الخميني تقليديًّا حتى في أبواب الفقه السياسي الشيعي، مؤمنًا بالانتظار، كما يقول تلميذه المقرب حسين منتظري، مما يؤكد تأثر الخميني في ما بعد بالشيرازي. ثمّ لمّا نجحت الثورة الإيرانية وبدأ الخميني بتطبيق نظريته بدأ الخلاف يدبّ بينه وبين صديقه محمد مهديّ الشيرازي، حتى وصل الأمر في نهاية الأمر إلى فرض الإقامة الجبرية على الشيرازي، مما وسّع فجوة الخلاف بين الرجلين، وبدأ الشيرازي وتلامذته وحوزته يبلورون مدرسة ومرجعية مقابلة لمرجعية الخميني.
استمدّ الشيرازي قوّته بصفته أوّل مُنظّر لولاية الفقيه، وأوّل من أخرج الفقه السياسي الشيعي من كلاسيكيته المتمثلة في أطروحة «الانتظار» إلى الحركية. لكن تلك الحركية عند الفريقين «الخمينيين-الشيرازيين» لم تكن حركية إصلاحية، أو إحيائية، على غرار الإحيائية السنية بتعبير رضوان السيد، بل كانت حركية راديكالية خرجت من وعاء الأصوليين والمحافظين، وهي من الحركيات النادرة في التاريخ، لأنّ جل الحركيات تخرج من بطن الإصلاحيين والمتمردين على الكلاسيكيات المعتمدة. كان من الطبيعي أن يتم اعتماد إصلاحية النائيني وحركيته، لكن تمّ القفز عليها، بل تمّ انتقادها من الخميني مرة في مقدمة الدستور الإيراني، ومرة في تسمية شارع في طهران بعد الثورة باسم غريمه فضل الله نوري قائد حركة المستبدة [17] . لكن الفارق الوحيد بين الحركيتين الراديكاليتين (الخمينية والشيرازية) أنّ حركية الخمينيّ خرجت من وعاء التقليدية الشيعية الأصولية، أما حركية الشيرازي فقفزت على خطّ التقليدية الشيعية وتراتبية مراحل صناعة المرجع، بَيْدَ أنها تقليدية من نوع آخر يرتبط ارتباطًا وثيقا بالمدرسة الأخبارية العريقة.
كان من الطبيعي إذن اشتعال المنافسة بين الرجلين، الخميني-الشيرازي، فالأول يعدّ نفسه مؤسس الدولة ومن حقّه أن يتولى أمورها كما يريد ووفق رؤيته، وينظر إلى الثاني على أنه منافس لا يُستهان به وبتيّاره، لا سيما أن التيَّار الشيرازي ليس تقليديًّا ولا متقوقعًا في شرنقة الدرس الفقهي فحسب، بل هو تيار حركيّ، مما تسبب في قلق النِّظام الإيراني منه ومن قوّته على الساحة ومنافسته في حصص المقلدين، في حين نظر الثاني إلى الأول كناكرٍ للجميل عندما استضافه في النجف وتعاون معه، وقافز على أسبقيته في تأسيس الحركية الشيعية التقليدية، علاوة على فشل النموذج الخميني في الحكم، لا سيما في ما يخصّ الجانب الأخلاقي والاعتقالات والقمع والتنكيل، إذ تمّ التنكيل بآية الله شريعتمداري وهو بمثابة الأستاذ للشيرازي والخميني كذلك، بيد أن رجال الثورة نكلوا به وقد كان المرجع الأول في الحوزة القمية وقتئذ [18] ، مما أثار غضب التلميذ المخلص محمد الشيرازي، فبدأ في التفكير في نظرية جديدة تكبح جماح السلطة وتُقيّد تصرفاتها، فتفتق ذهنه عن نظرية «شورى الفقهاء» بحيث يتمّ نقل ثقل المرجعية والقيادة السياسية من شخص واحد إلى مجموع المراجع المجتهدين، وأوجب انتخاب الفقيه، وجوّز عزل المرشد، وجمع في نظريته بين الكوابح الداخلية والخارجية، مما وضعه في خانة المعارضين للخميني. فدفع ثمن ذلك إقامة جبرية حتى وفاته. لكن ومع مرور الوقت تبلور التيَّار الشيرازي كتيار شيعي مستقل له من الأطروحات العقدية والفقهية ما يختلف بها عن الخمينيين وعن الحوزة التقليدية الشيعية التي ما زالت تؤمن بفلسفة الانتظار.
» شورى الفقهاء × ولاية الفقيه: تميزت المدرسة الشيرازية بالبديل الجاهز، أي نظرية «شورى الفقهاء»، فلم تكن معارضتهم للنظام الإيراني معارضة ردّ فعل، بل معارضة البديل الشيعي الجاهز بكوادره وفلسفته ورؤيته للحكم، وبقواعده وحواضنه الجماهيرية، بخلاف التقليدية الشيعية التي قد تعارض النِّظام الإيراني ولكنها غير منافسة له في حركيته، وأطروحاته، ولا تملك البديل السياسي الجاهز. وبخلاف تيارات فقه الانتظار التي تمارس الانتظار «السلبي» مما يجعلها محبَّذة من النِّظام في أحايين كثيرة.
المرجعية المستقلة: تختلف المرجعية الشيرازية عن باقي المرجعيات بكونها مستقلة عن النِّظام الإيراني إلى حدّ كبير. وقد انقلب النِّظام الإيراني بعد الثورة على الحوزة فأمّمها، أُعلن ذلك أم لم يُعلَن. كانت المرجعية الشيعية التقليدية مستقلة تاريخيًّا إلى حدّ كبير -إذا ما قورنت مع فترة ما بعد الثورة- ثمّ جاء الكركي في عهد الصفويين فأرسى ثنائية «الفقه- السلطان»، وكان ذلك بداية فقدان الحوزة جزءًا من استقلالها، ثمّ جاء الخميني في ما بعد فألغى ثنائية «الفقيه- السلطان»، وأرسى أحادية «الفقيه السلطان، والسلطان الفقيه» [19] ، فصار الفقيه عند الخميني هو السلطان والسلطان هو الفقيه، مما يعني أنّ السلطان الذي كان بحاجة إلى شرعنة حكمه دينيًّا ومذهبيًّا في عهد الصفويين فيلجأ إلى الفقيه كي يدعم شرعنته ومكانته، صار هو الفقيه ومِن ثَمّ فليس بحاجة إلى من يشرعن له حكمه وسلطنته، بل بدأ بتحجيم الحوزة، وتحجيم استقلالها الذي يُعَدّ خطرًا على وجوده وممارساته السياسية. وصار ينظر إلى كل المراجع النافذين كمهددين لشرعيته ودولته، وجعل الحوزة تحت مظلة الدولة لأول مرة في تاريخها. ومِن ثَمّ بدأ الخميني حكمه بقمع الحوزة الرسمية والتنكيل بالمراجع الكبار، فاستأصل المرجع الأول وقتئذ، آية الله شريعتمداري -المرجع الأكبر في قم وقتئذ- ونكّل به، وشوّه أعلميته، مع أن شريعتمداري هو الذي أجاز رسالة الخميني «تحرير الوسيلة» التي صار مرجعًا بسببها، وأُفرج عنه من سجون الشاه بموجبها أيضًا. كذلك نكّل الخميني بالشيرازي وتياره وأولاده، وبرفيق دربه حسين منتظري، وبطالقاني، والطباطبائي، وعشرات من مراجع الشيعة. فنتج عن ذلك كلّه حوزة مدجّنة فاقدة لاستقلال تاريخيّ كان متوفرًا حتى في عهد الشاه الذي انقلبوا عليه. لكن ظلت المرجعية الشيرازية مستقلة إلى حدّ كبير عن النِّظام الإيراني -وإن استعملت التقية كثيرًا في التعامل معه خوفًا من البطش والنكال- وصارت مدرسة كبيرة مقابلة لمدرسة النِّظام. تلك المرجعية التي تمتلك موارد مالية مستقلة وأتباعًا ومقلدين مؤججين غضبًا من النِّظام في إيران، مثّلت مصدر قلق مستمرّ للقيادة الإيرانية. ومن مطالب مراجع الشيرازيين المستمرة “استقلال المرجعية عن القيادة”، وهي مطالب مخالفة تمامًا لفلسفة الخمينيّ والنِّظام الإيراني، إذ صارت الحوزة تحت عباءة النِّظام، وفقدت استقلالها التاريخي [20] .
» التوظيف في الخارج والقمع في الداخل: عدم إمكانية النِّظام الإيراني لتوظيف الشيرازيين داخليًّا ليندرجوا تحت مظلة ولاية الفقيه، ومعاملتهم للنظام الإيراني معاملة الندّ للندّ عن طريق مرجعيات مستقلة، وموارد خاصة، أدّى إلى قلق شديد من النِّظام الإيراني تجاه المرجعية الشيرازية. لكن القيادة الإيرانية في نفس الوقت لم تستطع استئصال الشيرازية بالكُلّية، نظرًا لحاجة إيران إليهم في الخارج، فمعظم شيعة الخليج ومصر وأوروبا شيرازيون، ولا شكّ أن إيران في حاجة إلى هذا الرصيد الشعبي، وإن كانت تعمل في مسارين متوازيين، المسار الأول هو المسار التوظيفي للشيرازية في الخارج يصل أحيانًا إلى التعاون أو التحييد. والمسار الثاني هو خلق كيانات شيعية تدين بالولاء للقيادة الإيرانية وولاية الفقيه، عبر الدعم المالي والسياسي، وتأسيس المدارس العلمية والكوادر الفقهية. ولكن قد يحدث نوع من التوتر في العلاقات بين الطرفين بسبب هذه الاعتقالات الأخيرة، فإمّا أن يكون الاعتقال مجرَّد كبح لجماح الشيرازيين، حتى رجوعهم إلى المربع الأول، أي إلى مساحة المناورة التي يسمح لهم بها النِّظام، ويدعم هذه الفرضية أنّ النِّظام لم يعتقل مراجعهم كافة، ولم يعتقل مرجعهم الأكبر صادق الشيرازي، بل اعتقل ابنه المرشَّح لخلافته، وإما أن يكون الاعتقال هو قرار الاستئصال والكبح التامّ للتيَّار الشيرازيّ، وفي هذه الحالة فإنّ التيَّار سينقل ثقله إلى الخارج الإيرانيّ، ويكون بعيدًا عن أعين النِّظام الإيرانيّ ويفقد النِّظام أدوات الضغط على التيَّار، وهو ما لا يريده النِّظام، على الأقلِّ في المرحلة الراهنة، لكن في تلك الفرضية أيضًا فإنّ الشيرازيين في حاجة إلى قم كمدينة مقدسة عند عموم الشيعة، وفي حاجة إلى الوجود بين الإيرانيين لاكتساب الشرعية الشيعية، فأي مرجع في حاجة إلى الشرعية الشيعية من الداخل الإيرانيّ حسب المفكر الشيعي هاني فحص، علاوة على أنّ حصرية وجودهم في الخارج قد تقلل كفاءتهم المالية والعلمية، وترسِّخ الادعاء بكونهم عملاء للخارج.
الخلاصة:
انبنى التيَّار الشيرازي في أساسه على دمجٍ وانصهارٍ بين مقولات أصولية ومقولات أخبارية، فهو تيار أخباريّ محض في مسائل التشيع الحادة كالطقوس والشعائر وغير ذلك، بل إنّ مؤسس التيَّار محمد مهدي الشيرازي هو أخباريّ صرف بعبارة تلميذه أحمد الكاتب.
لكن التيَّار الشيرازي اختلف عن الأخباريين في موقفهم من النظرية السياسية، ففي حين رفض التيَّار الأخباريّ -والتقليدي- إقامة أيّ سلطة في ظلّ غياب المعصوم، دعا التيَّار الشيرازي إلى نظرية «شورى الفقهاء». ومِن ثَمّ سعى الشيرازيون إلى تقييد ولاية الفقيه المطلقة -القراءة الخمينية- عبر مشاركة كل الفقهاء المراجع في اتخاذ القرار.
وحاول الشيرازيون الجمع بين الكوابح الداخلية في شخص الحاكم/ الفقيه المتمثلة في الأمانة والورع والعدالة والوثاقة ونحو ذلك، وبين الكوابح الخارجية المتمثلة في وجود مؤسسات رقابية وحسابية يخضع لها حتى الفقهاء والمراجع. وتمثلت الكوابح الخارجية عند الشيرازيين في تقريرهم نظرية الانتخاب والشورى لا النصب الإلهي، مما ساهم في توتر النِّظام الإيراني وقلقه منهم ومن أطروحاتهم.
وانقسم الشيرازيون بعد موت المؤسس محمد مهدي الشيرازي إلى شيرازية تتبع أخاه صادق الشيرازي، وآخرين يتبعون ابن أخته تقي المدرسي، ولم تنجح محاولات التوفيق بين الجانبين نظرًا لاختلاف الرؤى حول مشروعية العمل العنيف والتغيير المسلّح، بالإضافة إلى طموحٍ شخصانيّ مما عقّد الخلاف بين الجانبين، في حين دعمت إيران مرجعية تقيّ المدرسيّ، صاحب المنهج العنيف، وناهضت مرجعية صادق الشيرازي بصفته الامتداد الرسمي لمرجعية محمد مهدي الشيرازي، ومنهجه السلمي مقارنة بتقيّ المدرسي وأخيه هادي المدرسي.
وقد عمل النِّظام الإيراني على كبح الشيرازية وتحجيمهم، لكنه لم يسعَ إلى استئصالهم استئصالًا تامًّا لا في داخل إيران ولا في خارجها، مستفيدًا من وجودهم سياسيًّا ودينيًّا في بعض المراحل، وفي بعض البلدان.
والمؤكد أنّ اعتقال حسين الشيرازي ابن المرجع صادق الشيرازي هو لفرملة التيَّار الشيرازي، وإيصال رسالة مفادها أن التيَّار بمراجعه تحت السيطرة، ومِن ثَمّ يرجع التيَّار إلى المناورة في المساحة التي يسمح بها النِّظام الإيراني. وكذلك فإنّ هذه الاعتقالات الأخيرة لا تخلو من توتر يكتنف النِّظام الإيراني في الفترة الماضية، مما جعل الشيرازيين هدفًا له، وترسيخًا للمشهد الأمني المستمر، وخوفًا من انفلات المرجعية من تحت يديه، فخروج حسين الشيرازيّ بتصريحاته ضدّ خامنئي في ذروة الاحتجاجات الإيرانية الأخيرة جعل النِّظام في وضع مُحرِج، لا سيما وأن النِّظام صدّر إعلاميًّا أنّ الاحتجاجات لم يكُن لها ظهير ديني وحوزوي. ونظر النِّظام إلى حسين الشيرازيّ كانتهازيّ يستغلّ هشاشة النِّظام واهتزازه في أثناء المظاهرات، فجاء اعتقاله تصفيةَ حسابٍ عمَّا بدر منه، ورسالةً إلى المراجع الآخرين كافة، سواء الشيرازيون وغيرهم.
لكن في المقابل هناك أوراق ضغط كبيرة يملكها التيَّار الشيرازيّ في الخارج، خصوصًا في الخليج وأوروبا، تلك الأوراق قادرة على إزعاج الإيرانيين، ولذا فليس متوقعًا من النِّظام الإيراني التصعيد ضدّ كل مراجع الشيرازية وهيئاتهم ومرجعيتهم، وكذلك ليس متوقعًا من الشيرازيين التصعيد الشامل ضدّ الإيرانيين لا في الداخل ولا في الخارج، على المديين القريب والمتوسط.