شَنَّت إيران وباكستان مؤخَّرًا غارات جوِّية حدودية، داخل أراضي كلٍّ من البلدين، تزعمان أنَّها نُفِّذت لحماية مصالح الأمن القومي لكلا البلدين، من خلال استهداف الجماعات «الإرهابية» عبر الحدود. وتعكس هذه الهجمات التحدِّيات الداخلية والخارجية الواسعة النطاق، التي تواجه إيران وباكستان في المشهد الأمني الإقليمي المتغيِّر.
في 16 يناير 2024م، شنَّت إيران ضربات صاروخية وهجمات بطائرات مسيَّرَة على مقاطعة بلوشستان الباكستانية، تزعم أنَّها استهدفت جماعة «جيش العدل» الإيرانية المتشدِّدة. وجاء الهجوم بعد أن شنَّت ضربات مماثلة في العراق وسوريا، قبل ذلك بيوم، والتي حسبما أفادت به إيران، أنَّها استهدفت خلايا «إرهابية» ومقرّ «الموساد» في أربيل؛ ردًّا على تفجيرات كرمان. وأدانت باكستان على الفور هجوم إيران، متّهِمة إيّاها بقتل طفلين، وانتهاك سيادة البلاد ومجالها الجوِّي. وردًّا على ذلك، شنَّت باكستان في 18 يناير غارات جوِّية ضدّ مقاطعتي سيستان وبلوشستان الإيرانية، ادّعت أنَّها استهدفت بها «المتمرِّدين الانفصاليين» البلوش. وحسبما أفادت به التقارير، فقد تسبَّبت هذه الغارات الجوية بمقتل تسعة أشخاص. وكان توقيت الهجوم الإيراني غير عادي ومثير للدهشة؛ لأنَّه تزامن مع اجتماع بين رئيس الوزراء الباكستاني المؤقَّت أنوار الحق كاكار ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بمنتدى الاقتصاد العالمي في دافوس بسويسرا. وفي الوقت نفسه، كانت تجري تدريبات بحرية مشتركة في الخليج العربي.
وفي بيانٍ لها، وصفت وزارة الخارجية الباكستانية الهجوم الإيراني، بأنَّه انتهاك للقانون الدولي. وقال المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الباكستانية ممتاز بالوش في بيانٍ له: «إنَّ هذا العمل غير قانوني، وليس له أيّ مبرِّر على الإطلاق. وتحتفظ باكستان بالحق في الردّ على هذا العمل غير القانوني. إنَّ المسؤولية والعواقب ستقع مباشرةً على عاتق إيران». وبعد فترة وجيزة من الغارات الجوِّية الباكستانية الانتقامية، أدانت وزارة الخارجية الإيرانية، في بيانٍ لها و«بشدَّة»، الغارات الجوِّية الباكستانية على القرويين غير الإيرانيين على طول الشريط الحدود. وفي بيانٍ صِيغَ بعناية، أكدت إيران على التزامها بحُسن الجوار مع باكستان، وحثَّت على عدم إنشاء قواعد للجماعات المسلَّحة في باكستان. وشدَّد البيان على إيلاء إيران الاهتمام في الحفاظ على العلاقات الودِّية، وعدم السماح للتأثيرات الخارجية بتوتير العلاقات وتصعيد التوتُّرات. كما استدعى البلدان سفيريهما بعد فترة وجيزة من الضربات الحدودية، ومع ذلك، عاد السفيران لاستئناف مهامهما الدبلوماسية، بعد أن خَفَّت حدَّة التوتُّرات. وحسبما أفادت به التقارير، فقد زارَ وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان باكستان في 29 يناير. وقال عبد اللهيان على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي: «لم يتِم استهدافِ أيٍّ من مواطني باكستان الصديقة والشقيقة بالصواريخ والطائرات والمسيَّرات الإيرانية». كما أكد وزير الدفاع الإيراني محمد رضا غراي أشتياني، أنَّ مصدر التهديد لإيران غير مثير للقلق، وأكد أنَّ إيران مستعِدَّة للردّ بفعلٍ متناسب وحاسم وحازم، على أيّ شكل من أشكال التهديد.
ولا تزال حسابات إيران لضرب باكستان غير واضحة المعالم، ومع ذلك، فقد قِيسَ حجم ردّ الفعل الباكستاني على أساس الردع بينهما، تجنُّبًا لصراعٍ كامل. وزعمت كلٌّ من إيران وباكستان أنَّهما تستهدفان الجماعات «الإرهابية» عبر حدودهما المشتركة؛ من أجل أمنها القومي والحدودي.
كانت الهجمات الإيرانية تهدُف في المقام الأول إلى إظهارِ قوّة الردع؛ بسبب المخاوف المُتعلِّقة بالقُدرات والكفاءات المتردِّية لقوّات الأمن الإيرانية. وهذا ما يُفهَم من قراءة تصريحات المسؤولين الإيرانيين، وردود أفعالهم حول هذه الهجمات، بأنَّها جهود رمزية لإظهار قُدرة إيران وإرادتها السياسية على شنِّ هجماتٍ عبر الحدود على الجماعات، التي تشكِّل تهديدًا للأمن القومي. وعلاوةً على ذلك، يمكن أن تكون الأعمال العدوانية الإيرانية بمثابة رسالةٍ لمواطنيها، لتؤكِّد استعداد الحكومة لاستخدام القوَّة، لا سيّما للردّ على المعارضة الداخلية. وقد أصبح هذا الأمر أكثر وضوحًا، في وقتٍ تواصل فيه إيران مواجهة تحدِّيات داخلية كبيرة، تكافحُفيها قوَّاتها الأمنية للحفاظ على أمن الحدود.
أعلنت جماعة «جيش العدل» مسؤوليتها عن شنِّ عدَّة هجماتٍ في إيران، استهدفت على وجه التحديد الحرس الثوري الإيراني وقوّات الأمن الإيرانية. وفي ديسمبر 2023م، شنَّ التنظيم هجماتٍ مميتة على مقرٍّ لشرطة راسك في سيستان وإقليم بلوشستان، والتي أسفرت عن مقتل 11 ضابطًا على الأقلّ. وانتقدَ وزير الداخلية الإيراني أحمد وحيدي أمن الحدود الباكستانية، حيث زعَمَ أنَّ المسلَّحين عبروا الحدود من باكستان لتنفيذ الهجوم، واتّهم إسرائيل بدعم تلك الجماعة. علاوةً على ذلك، وفي أعقاب تفجيرات كرمان، كانت إيران بحاجة إلى إظهار القوَّة، وتأكيد السيطرة على الأوضاع في البلاد، والردّ على من أعدَّ الهجوم الأكثر دموية، الذي واجهته البلاد منذ الثورة الإيرانية. ويهدُف الردّ العسكري الإيراني، إلى استعادة الثقة والمصداقية في المؤسَّسة الأمنية في البلاد. وعلاوةً على ذلك، ادّعى بعض الخبراء الإيرانيين، أنَّ قرار شنّ الهجوم على باكستان اتُّخِذ بسرعة، حيث كان أعداء إيران يخطِّطون لشنِّ المزيد من الهجمات؛ الأمر الذي يُشير إلى أنَّ السُلطات الإيرانية العُليا رُبَّما لم تكُن على درايةٍ بعملية صُنع القرار، ومع ذلك لا يمكن أن يكون هذا الأمر منطقيًا؛ نظرًا لخطورة الضربات الجوِّية على الأراضي الباكستانية.
حتى مع وجود الكثير من الأدلَّة، التي تُشير إلى تورُّط تنظيم «الدولة الإسلامية-ولاية خراسان» في تفجيرات كرمان، امتنعت إيران عن شنِّ ضرباتٍ انتقامية على أفغانستان. ويُعزَى ضبْط النفس هذا، إلى القلق من أنَّ أيّ تصعيد للتوتُّرات، يمكن أن يمثِّل تحدِّيًا خاصًّا لإيران في هذا المنعطف، خاصَّةً أنَّ ردود فعل «طالبان» لايمكن التنبُّؤ بها. بالإضافة إلى ذلك، تُوجَد قنوات اتصال جيِّدة مع باكستان، والتي لِعَبت دورًا حاسمًا في التخفيف من حدَّة التوتُّرات في أعقاب الغارات الجوِّية المُتبادَلة. وفيما يتعلَّق بـ «طالبان»، لا تزال العلاقات متوتِّرة، ويسود انعدام الثقة بين طهران وكابول. تعلم إيران أنَّ باكستان سترُدّ، إلّا أنَّها سوف تسعى بعد ذلك إلى وقْف التصعيد؛ لأنَّها دولة على دراية بالقانون الدولي وتخضع لضغوطٍ دولية، في حين تُوصَف «طالبان» بأنَّها مجموعة ميليشيا لا تلتزم بالقانون الدولي؛ وبالتالي يمكنها شنِّ هجمات مُمِيتة، والاستمرار في التصعيد، وحتى توجيه الجماعات المنشَّقة لشنِّ هجمات ضدّ إيران.