مقدمة
بعد يومين من الاعتراف الروسي باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، اتخذ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، صباح يوم 24 فبراير 2022م، قرارًا بشن عملية عسكرية لحماية إقليم دونباس، جنوبي شرق أوكرانيا، وعقب القرار شنَّت القوات الروسية هجُومًا على أهدافٍ متعددةٍ في أوكرانيا، وحذَّر الرئيس الروسي، من تدخل أيّ أطرافٍ إقليمية أو دولية لصالح أوكرانيا، من تحمل عواقب كارثية، وهو ما نقل الصراع إلى مرحلة الحرب بين الدولتين الروسية والأوكرانية، وقد استدعى القرار الروسي، ردودَ فعلٍ عالمية منددة بالعملية العسكرية، لتداعياتها الخطرة على حالة السلم والأمن الدوليين، وكذلك تداعياتها على حركة التجارة الدولية، وإمدادات النفط وأسعار الطاقة، مما يعكس ملامحَ أزمة عالمية قادمة، قد تحمل في مضمونها تسريع الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب.
لا يتوقف أثر الأزمة الروسية-الأوكرانية بمجال الدولتين الجيوسياسي، ليؤثر على دولٍ عديدة في المجالين المركزي والهامشي من بنية النظام العالمي، ومع تزايد حِدة التصعيد، سواءً عبر المناورات العسكرية من قِبل روسيا، أو إمداد الولايات المتحدة ودول الناتو لأوكرانيا بالأسلحة والآليات العسكرية، وتتابع التهديدات بالردّ القاسي بالعقوبات الاقتصادية المُشددة من جهة دول القارة الأوروبية وحليفها الأطلسي. تطرح هذه التطورات بعض الأسئلة حول مدى علاقتها بالتحولات الجيوسياسية على الساحة الدولية، وعوامل تصاعد الأزمة ومواقف القوى الفاعلة فيها، وماهية الأثر الذي سينعكس على دول الخليج وإيران والإقليم إن تضاعفت معدلات التوتر في الأزمة.
على ضوء ذلك يمكن قراءة المشهد الراهن وتحديد معالم الأزمة، فضلًا عن تداعياتها على الخليج وإيران، عبر تفنيدها في محاور ثلاثة؛ أولًا: الأزمة الأوكرانية في التحولات الجيوسياسية الدولية، وثانيًا: عوامل صعود الأزمة والقوى الفاعلة فيها، ثالثاً: تداعيات الأزمة.
أوّلًا: الأزمة الأوكرانية في التحولات الجيوسياسية الدولية
اندلع الصراع الروسي-الأوكراني في ظل تحولات شهدتها الساحة الدولية خلال العقد الأخير، أهما رغبة روسيا في استعادة مكانتها وتتنامي المخاوف من توسيع نطاق حلف شمال الأطلسي (الناتو) باتجاه حدودها الشرقية مع أوروبا، الأمر الذي يُهدد أمنها القومي ويقضي على طموحاتها الجيوسياسية تجاه مجالاتها الحيوية التقليدية، وذلك بالتزامن مع مخاوف أمريكية متصاعدة، من أن مكانتها على الساحة الدولية عُرضة للتهديد، وأن ميزان القوة قد يختل لغير صالحها.
والحقيقة أن الإدراك الأمريكي للخطر الذي يهدد مكانتها على الساحة الدولية، من الصين الصاعدة بقوة على الساحة الدولية، وروسيا التي تسعى لإعادة التموضع، كان قد دفع بإدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، لمتابعة سياسة احتوائية بدلاً من سياسة الانخراط التي تبنَّتها الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة، وهذه السياسة كانت بمثابة انطلاق للحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة وكلٍ من روسيا والصين، وتنطلق الإستراتيجية بالأساس، من أن هناك واقعًا دوليًا جديدًا، وأن الولايات المتحدة بصدد مواجهة مع القوى الكبرى بصورة باتت حتميةً عاجلًا أم آجلاً، وتقوم هذه الإستراتيجية على استعادة التوازُن الإستراتيجي على الساحتين الأوروبية والآسيوية في أقصى جنوبها الشرقي.
اندلع الصراع بينما كانت تُجري الولايات المتحدة ضمن إستراتيجيتها، نقاشات حول إعادة صياغة العلاقات عبر الأطلسي، ويبدو أن هناك رغبةً في بلورة العلاقة وفق تصور جديد، يحفظ للقوتين مكانتهما على الساحة الدولية، لا سيما بعد ما بدأت تزداد مخاوف أوروبا بشأن قضايا الدفاع والأمن، وهي المخاوف التي انبثقت عن التوجهات الأمريكية نحو الشرق الأقصى مع الانسحاب من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وضعف مستوى التنسيق والتشاور، والذي ظهر بوضوح مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والتوترات الأمريكية والبريطانية مع فرنسا بعد صفقة الغواصات النووية مع أستراليا، والمخاوف الأوروبية من اتجاه الولايات المتحدة لبناء محاور وتحالفات جديدة بعيدًا عنها، وبهذا جاءت الأزمة كاختبار مهم للعلاقات الأمريكية-الأوروبية، وجاءت كاشفةً لحدود الالتزام الأمريكي بأمن أوروبا واستقرارها.
ولا تُمثل الأزمة اختبارًا للعلاقات عبر الأطلسي وحسب، بل إنها جاءت بينما يُعيد الأوروبيون النظر في الإستراتيجية الأمنية، حيث بدا أن الناتو لم يعد مظلةً أمنيةً كافية لتلبية تطلعات الأوروبيين ولا الأمريكيين أنفسهم، وقد أعطت الولايات المتحدة إشارات إلى الحاجة إلى قدرات دفاعية أوروبية أقوى «مُكملة لحلف الناتو»، وركزت على ضرورة زيادة أوروبا لنفقاتها العسكرية، وعدم الاعتماد الكبير على الدعم الأمريكي، ولم يكن يعني ذلك أن الولايات المتحدة غير ملتزمة بواجباتها الأساسية تجاه أوروبا، إذ ما تزال أوروبا ركيزةً أساسية في التوازنات الدولية القائمة بوصفها قوى راضية عن النظام الدولي الراهن.
وبينما يبحث المعسكر الغربي عن إعادة تموضع للحفاظ على النظام الدولي الراهن، فإن القوى الكبرى الناشطة تسعى لتعزيز مكانتها، في مقدمتها الصين، التي تزحف بقوَّة نحو تغيير قواعد النظام الدولي الراهن، وتُشاطر الصين في موقفها من ميزان القوى الحالي والرغبة التعديلية روسيا، رغم أن مكانتها الاقتصادية لا تسمح لها بالبقاء كقوةٍ مؤثرةٍ في التوازنات الدولية الحالية، لأن ناتجها المحلي الإجمالي لا يقع ضمن المراكز العشرة الأولى عالمياً، غير أن روسيا قوةٌ عظمى نووية ولها ثقلٌ على الساحة الدولية، وعلاقتها مع الصين وأمريكا والاتحاد الأوروبي مؤثرةٌ على الجغرافيا السياسية في أوروبا وفضائها الجيوسياسي الممتد حتى الشرق الأوسط وأفريقيا، وهي تحاول أن تحافظ على مكانتها الدولية، وترتكز سياساتها الخارجية في مواجهة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بقدرٍ من التوازن الإستراتيجي والتدخل العسكري في المواقع الإستراتيجية عندما تقتضي الضرورة، ولا شك، تستفيد من إرثها السوفيتي في استعادة بعض من نفوذها على الساحة الدولية، وتمُارس سياسة نشطة لاستعادة نفوذها في الفضاء السوفيتي القديم، وصولًا إلى الشرق الأوسط، وتُمارس من خلال الفيتو في مجلس الأمن الدور الفاعل في حماية مصالحها الإستراتيجية، فضلاً عن عرقلة السياسات الأمريكية في العديد من القضايا.
ومع هذه التطورات، نقلت روسيا مسار الصراع حول أوكرانيا، وهو الصراع الذي قد يعيد رسم خريطة أوروبا مرةً أخرى، ويقلب جهود واشنطن لتحقيق الاستقرار في علاقتها مع روسيا، نظرًا لأن موسكو تزداد ثقةً سياسياً واقتصادياً، لاسيما في ظل قدرة النظام الروسي على مواجهة معارضيه الذين يقمعهم بشدة، فضلاً عن أن موسكو أعادت بناء مركزها المالي منذ بدء العقوبات الغربية في عام 2014م، وتمتلك رصيدًا من احتياطيات العملات الأجنبية يقدر بحوالي 620 مليار دولار، كما تعزز نفوذ روسيا في مواجهة أوروبا، بسبب ارتفاع أسعار الغاز ونقص إمدادات الطاقة، إضافةً إلى أنه تم النظر إلى الخلافات الأوروبية والخلافات عبر الأطلسي والتركيز الأمريكي على الصين على أنه نقاط ضعف، تسمح لروسيا بتعزيز أمنها الإستراتيجي تجاه فضاءها الأوروبي، باعتبار أوكرانيا مصلحةً ثانوية لدى الولايات المتحدة، وربما الغرب، لهذا سبق الأزمة خطابٌ روسيٌ متصاعد حول خطوطها الحمراء في أوكرانيا، هذا ناهيك عن أن تدفق السلاح الغربي على أوكرانيا يمثل تهديداً أمنياً لروسيا.
ثانيًا: عوامل صعود الأزمة والقوى الفاعلة فيها
1- عوامل صعود الأزمة وتطورها نحو الحرب
تفاقمت حِدة التوترات منذ مطلع العام 2022م، بين الأطراف الغربية من جانب وبين روسيا من جانب آخر، وتزايدت التكهنات، لاسيما من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، بوقوع الاجتياح الروسي الواسع والشامل للأراضي الأوكرانية خلال الأيام المتبقية من شهر فبراير 2022م، وهو ما حدث بالفعل. تعود الأزمة برمتها إلى رفض الجانب الروسي انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو الدفاعي، وتشديده على التصدي لأي محاولة لنشر الصواريخ للحلف على الأراضي الأوكرانية، فيما يرى الجانب الغربي على لسان الأمين العام لحلف الناتو، بأن أمر الانضمام للحلف قرار سيادي، تختص به الحكومة الأوكرانية، ولا يحق لأي كيان خارجي آخر الوقوف أمام ما يخوله لها القانون والعرف الدوليين.
ورغم فرض العواصم الغربية عقوبات على روسيا لمنعها من غزو أوكرانيا غير أنها لم تكترث وغزت أوكرانيا، وقد يعود ذلك لتنامي قدراتها العسكرية خلال العقد الماضي، وزيادة تأثيرها في القضايا الإقليمية والدولية، والأهم الخطوات المسبقة التي اتخذتها روسيا للحد من تأثيرات العقوبات الغربية، حيث قلَّل الروس من اعتمادهم على الدولار الأمريكي خلال السنوات الماضية، إذ انخفضت حصة الأصول المقدرة بالدولار في احتياطيات البنك المركزي الروسي إلى 50% خلال الفترة من 2013 -2020م، وبحلول 2021م أعلنت روسيا استبدال الدولار في صندوق الثروة السيادية للبلاد، والحد من استخدامه في تسوية الحسابات التجارية مع الشركاء في الاتحاد الاقتصادي الأوروبي الآسيوي ودول «البريكس»، مع رفع احتياطات النقد الأجنبي حتى بلغت مرتبة رابع أكبر احتياطي نقدي بالعالم بنحو 630 مليار دولار، وتراجع الدين الخارجي لروسيا ليصل إلى أدنى معدلات الدين بالعالم، وخفض حصة السندات الروسية التي يمتلكها الأجانب في روسيا.
على المستوى الدولي، لم يكن مُفاجئًا حتى للأوساط الغربية رفض روسيا انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، وما ذاك إلا لأن التحركات الروسية خلال العقد الماضي تدور في فلك استعادة المكانة الدولية ككيان وارث للهيبة والقوة العظمى السوفيتية سابقًا، ومحاولاتها التضييق على مناوئيها الغربيين ودحر مخاطر انتشار أسلحتهم وقواعدهم العسكرية حول ما تعده روسيا فضاءاتها الجيوسياسية الحيوية. وقد ظهرت تلك التحركات مع استعادة الدولة الروسية تحت قيادة بوتين لبعض من حضورها على الساحة الدولية والذي ظهر مُبكراً في إعادة الشيشان بالقوة للفلك الروسي، ومؤخراً في الهجوم على شبه جزيرة القرم الأوكرانية ثم ضمها إلى أراضيها عام 2014م، واستحواذها منطقتي «أوسيتيا الجنوبية» و«أبخازيا» بحجة المُطالبة بالأملاك التاريخية لروسيا في تلك البقاع، وبذريعة الدفاع عن الأقلية الموالية لروسيا، وأيضًا في دخولها الأزمة السورية عام 2015م، أملًا في خلق مناطق صراع مع الأطراف المناوئة على المستويين الدولي والإقليمي بعيدًا عن أراضيها ومناطق التماس مع جغرافيتها الشاسعة.
تُظهر خريطةُ الصراع ما بين الناتو وروسيا، أن الساحة الأوكرانية ستغدو مجالاً للصدام المباشر بينهما، لاسيما في وجود رغبة روسيا لوضع كوابح ضد توسع الناتو باتجاه روسيا إزاء التوسع الغربي الذي طال معظم دول شرق أوروبا، بالتحديد الدول التي انضمت من بعد عام 1997م. وفيما تحظى روسيا بدعم بيلاروسيا وتنشر جنودها هناك، تستمر في التنديد بالنشاطات العسكرية لحلف الناتو في شرق أوروبا، وتطالب بعدم نشر صواريخ في دول مثل بولندا ورومانيا، فضلًا عن مطالبتها سحب القوات القتالية للحلف في بولندا وجمهوريات البلطيق الثلاث؛ لاتفيا واستونيا وليتوانيا. ولا شك أن «الثورة الأوكرانية» أو ما تعده روسيا «انقلابًا» على الحكومة السابقة في عام 2014م قد مثَّل خسارةً كبيرةً لموسكو، مما حفَّزها على اقتحام شبه جزيرة القرم، وعمَّق من شرخ العلاقة مع أوكرانيا.
على الجهة المقابلة، تأتي مطالبات واشنطن لنظرائها الروس بتوضيح ملابسات تحركاتهم العسكرية على الحدود مع أوكرانيا منذ شهر نوفمبر الماضي، مع تبادل الطرفين للاتهامات بإجراء مناورات عسكرية «استفزازية»، ورغم التراشق الإعلامي المستمر، فإن الجانب الأمريكي والأوروبي يعيان المخاوف الروسية، في حين أن طلب أوكرانيا الانضمام لحلف الناتو، يصبُ في مصلحة الحلف وزيادة نفوذه. أوروبا على وجه الخصوص تُدرك أهمية التشابك الاقتصادي مع روسيا، لاسيما في مجال الطاقة وإمدادات الغاز الطبيعي، حيث تستورد أوروبا قرابة الأربعين بالمئة من احتياجاتها للغاز من روسيا، وكذا، فإن سياسات الطاقة الروسية تُلقي بضلالها على الداخل الأوروبي، الذي يحاول الموائمة بين احتياجاته وأيضًا حاجة أوكرانيا الاقتصادية، كونها لم تعد ممر العبور الوحيد لأنابيب الغاز الروسي إلى أوروبا في وجود مشاريع نورد ستريم 1 و2 عبر بحر البلطيق مباشرة إلى ألمانيا.
يبقى بلا شك أن الصراع بين القوى الدولية، هو أحد ركائز التفسير للأزمة الأوكرانية، وإن كانت الشرارات تمسّ الإشكاليات الإقليمية والجيوسياسية، إلا ميزان القوى الدولي وتحولات النظام العالمي في الوقت الراهن، هي دوافع ما يُحاك خلف الستار من خطط إستراتيجية، سواءً من قِبل الولايات المتحدة في سبيل التصدي «للتجاوز» الروسي، أو من قِبل روسيا من جهة رغبتها إعادة تشكيل النظام الدولي القائم، بغية فرض هيمنتها على ما تعده فضاءها الحيوي وحقها الشرعي في استعادة الأراضي «الروسية السوفيتية التاريخية»، مع التنبه إلى أن مراكز القوة الأخرى في العالم، تتابع بحذر ما ستؤول إليه الأزمة الأوكرانية، ونخص بالذكر مراكز القوة السياسية والاقتصادية كالصين والهند والبرازيل، فضلًا عن الاتحاد الأوروبي.
2- القوى المحركة للازمة
رغم التأكيدات الغربية والأمريكية بأن روسيا تجهز لشن حرب عسكرية ضد أوكرانيا، غير أن الروس أكدوا عدم نيتهم شنَّ الحرب، وأن كافة التقارير الاستخباراتية الغربية وتصريحات الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حول جهوزية موسكو لشن حرب محتملة ضد كييف خلال أيام قادمة، «مُضللة»، وتهدف لتأجيج التوتر، تمهيدًا لفرض عقوبات اقتصادية جديدة على موسكو، وتبرير توسع حلف الناتو شرقًا باتجاه الحدود الروسية لتطويق روسيا وتهديد أمنها القومي، من خلال تقديم العتاد العسكري لكييف، ودعمها في إجراء المزيد من المناورات في البحر الأسود وقرب الحدود مع روسيا.
تؤكد واشنطن مجددًا، بأن أقمارها الصناعية رصدت تحركات عسكرية روسية قرب الحدود الأوكرانية، ولذلك طلبت من المواطنين الأمريكيين مغادرة الأراضي الأوكرانية، وبالتبعية طلبت دول حلف الناتو من رعاياها سرعة مغادرة أوكرانيا، في إشارة إلى قرب اندلاع الحرب، ورغم قرار موسكو باتخاذ خطوات حذرة بسحب جزء من القوات المرابطة على الحدود وإنهاء مناوراتها العسكرية، غير أن إدارة الرئيس بايدن، لا تزال قلقةً من هجوم روسي على أوكرانيا، حيث أكدت أن القوات المتبقية على الحدود لا تزال في وضع يسمح لروسيا بشن هجوم على كييف في أي وقت.
وفي ظل التطورات الراهنة للصراع فإن التساؤل المطروح: ما الهدف الحقيقي من وراء التصعيد الروسي المتتالي بغزو أوكرانيا؟ وما الذي دفع روسيا للهجوم على أوكرانيا في الوقت الراهن؟ للإجابة على هذا التساؤل يمكن القول بأن المسألة تبدو أبعد وأعقد بكثير من أوكرانيا في حد ذاتها، وأن تحولات دولية كبرى تدور رحاها في وقتنا الراهن في هذا الجزء الجيوسياسي الحساس من العالم، وهذا ما يُفسر طبيعة المواقف الأمريكية والأوروبية التي حذَّرت موسكو من اجتياح أوكرانيا، والتي تحولت لساحة تصفية حسابات معقدة، بين لاعبين دوليين كبار بحجم الولايات المتحدة وروسيا، وبوابة جيوسياسية مهمة لمحاولات موسكو توسيع مجالها الحيوي في حدائقها الخلفية التقليدية التاريخية، واستكمال سياسة إعادة التموضع في أوروبا بعد ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014م، وإعادة الاعتبار للدور الروسي على الصعيد الدولي.
زادت عدوانية بوتين تجاه أوكرانيا بضمه شبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014م، كرد فعلٍ على الاحتجاجات الأوكرانية التي أطاحت بالرئيس الأوكراني، يانوكوفيتش، الحليف لروسيا على خلفية رفضه توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي لصالح تعزيز العلاقات مع الروس، ثم أدركت روسيا وجود جهود غربية حثيثة لضم أوكرانيا لحلف الناتو، لا سيما على خلفية إدراج كييف ضمن فئة الدول الطامحة للانضمام، بما يعني عدم قبول موسكو بوجود تهديدات أمنية على حدودها مع أوكرانيا حال انضمامها للناتو، إذ أنّ أوكرانيا هي الدولة العازلة مع بيلاروسيا والقرم وبوابة رئيسية للحفاظ على مجالاتها الحيوية التقليدية، وهذه الدول هي ما تبقت من حصن منيع تآكل تدريجياً منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين، نتيجة توسعة رقعة الحلف الأطلسي بانضمام غالبية الجمهوريات السوفيتية السابقة وأوروبا الشرقية لحلف الناتو، كان آخرها انضمام مقدونيا الشمالية للحلف 2020م.
تُدرك روسيا، أنه في حال انضمام أوكرانيا للناتو، فإن هذا يعني تهديداً حدوديًا مباشرًا لروسيا، حيث يتيح واقعيًا نشر الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى على الحدود مع روسيا، مما يجعلها مُهدَّدةً عسكريًا، لذا، فإن رسالة بوتين كانت واضحةً بوقف الزحف الغربي تجاه حدود بلاده، لإنهاء الأزمة، فإن بوتين يريد تعهدًا غربيًا أبديًا بعدم قبول أوكرانيا كأعضاء بحلف الناتو، إضافةً لانسحاب الناتو من بلدان الواجهة، مثل بولندا (التي أقامت فيها الولايات المتحدة قاعدة عسكرية، وهي من بين أسباب تنامي قلق موسكو) ورومانيا وبلغاريا، بعبارة أخرى، فإن روسيا تسعى لترسيم الخريطة الأمنية في أوروبا، لحماية أمنها ولترسيخ نفوذها وضمان توسيع نطاقها الجغرافي والسياسي، وفي حال رفضت الولايات المتحدة والناتو هذه المطالب، فقد يكون التصعيد والحرب العسكرية هي الخيار الروسي لتحقيق مطالبها، ويبدو المشهد مُعقدًا وكافة الاحتمالات مطروحة.
وفي المقابل، ترفض العواصم الفاعلة في حلف الناتو، بينها واشنطن ولندن وباريس وبرلين ثم مجلس الأمن الدولي، استخدام روسيا القوة المسلحة ضد أوكرانيا، وحذرتها من مغبة تداعيات السيناريو العسكري، وهددتها بدفع الثمن، وبذل الألمان والفرنسيين والبريطانيين جهودًا دبلوماسية بين موسكو وكييف لتخفيف التوتر، وكلها باءت بالفشل، لتمسك الروس بمطالبهم في عدم انضمام كييف للناتو، ثم لجأت هذه العواصم إلى استخدام سلاح العقوبات ضد روسيا، لثنيها عن شن الحرب ضد أوكرانيا، وتُجهز لعقوبات أوسع ضد موسكو، ولم يكترث الروس بالعقوبات، وشنوا هجمات عسكرية ضد أوكرانيا.
وعلى الرغم من التهديدات الأمريكية لروسيا، غير أن العديد من المراقبين رأوا أن الموقف الأمريكي الحقيقي من الصراع ليس منع الغزو الروسي لأوكرانيا، لأسباب تتعلق برغبة الإدارة الأمريكية في تأزيم روسيا واستنزافها ماليًا ومفاقمة مشكلاتها الاقتصادية، بل وتعطيل دخول خط «نورد ستريم 2» لنقل الغاز إلى ألمانيا الخدمة الفعلية، لكونه سيمنح روسيا نفوذًا أكبر في القارة العجوز، وربما تحقق الهدف الأمريكي بإعلان ألمانيا إيقاف إجراءات ترخيص خط الغاز الروسي «نورد ستريم 2»، وفرض العديد من العواصم الغربية عقوبات ضد موسكو، بينها بريطانيا وأستراليا وكندا وغيرها، وهو ما يصب في صالح الأهداف الأمريكية في عزل روسيا وحصارها.
تمتلك روسيا أوراقًا رابحةً في الأزمة ضاغطةً على دول حلف الناتو لتحقيق المطالب الروسية، وتجعل بوتين يُمسك بزمام الأمور، أبرزها الغاز المُصدر للدول الأوربية ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وصعوبة إيجاد بديل لتأمين الطاقة بسهولة في الوقت الراهن، فلن تستطيع واشنطن والدوحة تأمين كميات الغاز المطلوبة أوروبيًا حال قرَّرت روسيا وقفَ تصدير الغاز لأوروبا، لاعتبارات تتعلَّق بصعوبة تحويل البنية التحتية الأوروبية إلى بنية يمكنها استيعاب الغاز المسال بدلاً من الغاز الخام، وعامل التكلفة العالية لنقل الغاز الأمريكي للدول الأوروبية، كما أن حجم الغاز النرويجي لا يكفي لتعويض الفجوة الروسية من الغاز، لا سيما في ظل تأكيد العديد من التقارير الدولية انخفاض كمية الغاز النرويجي بحلول 2024م، إضافًة إلى أن قطر مُلتزمة بعقود آجلة طويلة الأمد لغازها لدول آسيوية.
ولا يمكن تجاهل توقيت التصعيد الروسي على الموقف الأوروبي في فصل الشتاء، حيث الحاجة الأوروبية الشديدة للغاز الروسي، نتيجة ارتفاع معدل استهلاك الطاقة بشكلٍ كبير، وإذا قرَّرت روسيا منع تصدير الغاز للأوروبيين، فإنها ستتسبَّب في أزمة كبيرة، خاصةً أنها قلَّلت من ضخ الغاز خلال الأشهر القليلة الماضية، ما يسهم في تحكم بوتين في إدارة الأزمة والتأثير على الموقف الأوروبي، وكذلك الموقف الأمريكي لا سيما في توقيت تحتاج فيه واشنطن لاستقرار أسعار الطاقة عالميًا، ومن ثم زيادة إصرار الروس على إبقاء أوكرانيا بعيدةً عن الناتو، فرغم التلويح الأمريكي بورقة العقوبات ضد روسيا، غير أن الفاعلين في حلف الناتو يدركون ورقة الضغط الروسية (إمدادات الغاز) وحاجة أوروبا لذلك، والتداعيات الكارثية للارتفاع التصاعدي لأسعار الطاقة، لا سيما أن حلفاء روسيا مثل فنزويلا وإيران يتوقَّع أن تكونَ مواقفهم داعمةً بشدة للروس.
وفي سياق المواقف الدولية تجاه الأزمة، اتهمت بكين-المنافس الإستراتيجي الدولي للولايات المتحدة على تراتبية القوة في هرم النظام الدولي والحليف الإستراتيجي لموسكو- الولايات المتحدة بتأجيج التصعيد الروسي-الأوكراني لوقوع الحرب، فالصين التي تربطها علاقات تجارية بأوكرانيا لن تؤيد الحرب ضد كييف، حيث أن بكين تُعطي أولويةً لمصالحها الاقتصادية والتجارية حول العالم، وحتى الساعة لم يُترجم أي دعم صيني لروسيا، لأن البيانات الرسمية الصادرة على الحكومة الصينية تظهر في موقف الحياد وعدم التدخل، وهو الموقف عينه الذي اتخذته الصين أيضًا أثناء أزمة شبة جزيرة القرم 2014م، وأكدت بكين، أن العلاقات مع موسكو تأتي لتبادل المنفعة والمصالح المشتركة بين البلدين المتحالفين، وليس على حساب أي دولة ثالثة مع دعم الصين لمطالب روسيا في معارضة أي توسع للحلف الأطلسي وتهديداته للأمن الروسي وعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو.
يتضح من طبيعة هذه المواقف، أن الأزمة الأوكرانية والتصعيد الروسي ضد أوكرانيا يرتبط بصراع جيوسياسي واسع على مناطق القوة والنفوذ والمجالات الحيوية، وتنافس تُجاري دولي مُحتدم على النفط والغاز وأنماط وخطوط التجارة الدولية بين أقطاب إستراتيجية دولية تتجاوز أوكرانيا بكثير في حدٍ ذاتها، إذ يأتي الصراع ضمن التحولات الدولية الراهنة والصراعات على مناطق القوة والنفوذ والمكانة الدولية بين القوى الدولية المؤثرة في القضايا والشؤون الدولية القوى الداعية للتحول في النظام الدولي وبينها وروسيا والدول المتمسكة بالنظام الدولي القائم، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ثالثًا: تداعيات الأزمة
يُظهر الصراع الدولي الراهن على أوكرانيا حِدَّة الصراع بين القوى المُهيمنة، مُمثلةً في الولايات المتحدة وروسيا التي تُعد واحدةً من أهم القوى التعديلية التي ترغب في إنهاء الهيمنة الأمريكية والتحول نحو نظام متعدد الأقطاب بجانب الصين، لهذا يرى البعض أن هذه الأزمة قد تُشكل مُفترقًا في توازن القوى الدولي القائم، فضلاً عن أن اندلاع صراعٍ مفتوح، قد يكون بمثابة حربٍ عالميةٍ ثالثة، تضع العالم أمام تحديات كارثية على المستوى الإنساني والاقتصادي، لا سيما في ظل الحشد العسكري الذي يُعيد إلى الذاكرة أجواء الحرب الباردة والقرار الروسي بغزو أوكرانيا، وُيمكن رصد بعض التأثيرات التي يمكن أن تمتد إلى دول المنطقة وفي مقدمتها الخليج وإيران، وذلك على النحو الآتي:
1- التداعيات على منطقة الشرق الأوسط
أ. التداعيات الجيوسياسية: لا يتوقف تأثير الأزمة الأوكرانية على منطقة شرق أوروبا، بل إن له تداعياته على الشرق الأوسط، باعتبار أن أطراف الصراع ترتبط بمصالح حيوية بدول المنطقة، وتنخرط في صراعاتها بصورة أو أخرى وبدرجة لا تقل على الصراع القائم في أوكرانيا، فدول الخليج حليفٌ مهمٌ للولايات المتحدة وأوروبا، وإيران لديها تحالفٌ مهمٌ مع روسيا والصين، وكلما احتدم الصراع في أوكرانيا، فإن صداه سيتردَّد في المنطقة باعتبارها أحد ساحات المنافسة الإستراتيجية بين القوى الكبرى، وقد أعلنت روسيا اعتزامها إجراء تدريبات بحرية في البحر المتوسط، وأنها نقلت قاذفات وطائرات مجهزة بصواريخ أسرع من الصوت إلى قاعدتها الجوية في سوريا، ويعد هذا مؤشرًا على أن المنطقة ليست بعيدةً عن الصراع والتجاذبات التي تتجلى حاليًا في أزمة أوكرانيا، وقد تتجلى غدًا في أي من بؤر التوتر والصراع في الشرق الأوسط.
ب. التداعيات على الصراعات الإقليمية: تُمثل سوريا ساحةً مرتقبةً أكثر تأثراً بالأزمة، إذ قد يمثل الضغط على النفوذ الروسي في سوريا ورقةً يمكن أن تستخدمها الولايات المتحدة وأوروبا، ويشير البعض إلى أن التوصل لتسوية بين أطراف النزاع في أوكرانيا، لن يستثني الوصول إلى مقايضة ما بشأن سوريا، وهو أمرٌ سيكون له عواقب على دول الخليج وإيران وتركيا التي تبدو أمام خيارات صعبة في ظل علاقاتها المتأرجحة مع كلٍ من روسيا والولايات المتحدة والغرب، والتي تتقاطع مصالحهما في سوريا بصورة واضحة. وجدير بالذكر، الإشارة إلى أن روسيا عندما حاولت أن تُخفف من الضغوط الأمريكية والأوروبية بعد ضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014م، قرَّرت التدخل في النزاع السوري في 2015م إلى جانب النظام السوري، إذ كان ضمن دوافعها خلق توازن وبؤرة صراع بعيدا عن فضائها الجيوسياسي الحيوي، إضافة إلى التحكم في مشاريع نقل الطاقة المنافسة لها، ناهيك عن محاصرة الناتو من خاصرته الجنوبية في البحر الأبيض المتوسط إضافة إلى محاصرته في البحر الأسود وإيجاد نقاط تموضع جيوإستراتيجي جديدة، تربط بين مناطق النفوذ الحيوي الروسي، لهذا فإن الدخول في حالة حرب أو استمرار التوتر سيدخل المنطقة في اصطفافات دولية وحرب باردة حتمية.
ج. التداعيات الاقتصادية: يُعاني الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن من ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع حاد في التضخم، وساهمت الأزمة بالفعل في ارتفاع أسعار النفط والغاز عالمياً والمعادن الأساسية والموصلات الإلكترونية والأسمدة، ولا شك فإن خروج الأزمة عن السيطرة سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الأوروبي -خاصةً ألمانيا- والعالمي؛ ستواجه أوروبا التي تعتمد على روسيا في توفير قرابة ثلث احتياجاتها من النفط والغاز نقصاً حاداً في تلك الإمدادات قبل أن تجد البديل المناسب وسد العجز، وحتى ذلك الوقت، سترتفع أسعار النفط والغاز بدرجة أكبر مما عليه الآن، لتفرض تحديات جدية للنمو الاقتصادي العالمي ومزيد من الارتفاع في تكاليف الإنتاج وتكاليف الشحن والتأمين، وربما عرقلة سلاسل الإمداد مجددًا. وبجانب النفط والغاز، فروسيا مُنتج ومُصدر أساسي لمنتجات تُشكل نسبة مهمة من السوق العالمي كالأسمدة، والمعادن كالنيكل والألومنيوم والبلاديوم والبلاتين، ما سينعكس في أسعار تلك المنتجات الهامة للصناعة العالمية في حال خروج الأزمة عن السيطرة.
ومن ناحية أُخرى سيفرض حصار أوكرانيا تحديات متعلقة بالأمن الغذائي العالمي، نظراً للمزايا النسبية التي تتمتع بها أوكرانيا في القطاع الزراعي وتصدير الحبوب كالقمح والذرة واللحوم والدواجن وغيرها من منتجات الغذاء الأساسية، ما سيعرض أسعار تلك المنتجات للارتفاع، في وقت تحاول دول العالم جاهدةً وضع حدٍ لارتفاع أسعار الغذاء الأساسية بعد جائحة كورونا، نظراً لتأثيرها المباشر على زيادة الفقر، والقوة الشرائية لعامة المواطنين، وبينما تعتبر أوكرانيا شريكًا تجاريًا مهمًا لعدد من الدول العربية، كما تعتبر موردًا مهمًا للمنتجات والسلع الإستراتيجية وفي مقدمتها القمح، فإن تفاقم الصراع أو سيناريو الحرب قد يُعرقل حركة التجارة ويضر باقتصادات بعض الدول، وقد يُصاحب ذلك اضطرابات اجتماعية وسياسية، ناهيك عن اندفاع الحكومات للبحث عن مصادر بديلة للحصول على السلع، ومن بينها الولايات المتحدة التي لا شك سيكون لها شروطها ومطالبها وإملاءاتها.
ولا شك أن حزمة العقوبات الأمريكية والأوروبية التي ستستهدف روسيا لن تستثني شركاءها التجاريين وقد تطال العقوبات والأفراد والشركات والكيانات الرسمية، وهذا قد يضر ببعض دول المنطقة التي لديها علاقات اقتصادية مهمة مع روسيا، ويعرقل التعاون معها ناهيك عن تعطيل صفقات السلاح المبرمة أو المتوقعة في المستقبل.
2- التداعيات على إيران
أ. فُرصٌ لقطاع الطاقة في إيران: تعزز الأزمة واحتدام التنافس الدولي من الرغبة الأمريكية في التمسك بمسار الدبلوماسية مع إيران على أمل تهدئة التوترات في المنطقة، وأملاً في أن يفتح إحياء الاتفاق النووي الباب أمام استيعاب ودمج إيران، وهو الأمر الذي يسمح بدخول الغاز والنفط الإيراني إلى سوق الطاقة، فإيران تمتلك موارد هائلة، ومع احتمال إعادة إحياء الاتفاق النووي في غضون أسابيع وعودتها إلى سوق الطاقة الدولية، فإنها مؤهلة لتكون أحد مورّدي الغاز الرئيسيين إلى أوروبا بجانب قطر، الأمر الذي يسهم في توفير بديل لأوروبا عن الغاز والنفط الروسي الذي يمر عبر أوكرانيا، أو حتى عبر خط نوردستريم2 عبر بحر البلطيق، بما يزيد من الضغوط على روسيا، هذه الفرصة الاقتصادية تمنح إيران مساحة أكبر للمناورة، وتنفيذ أجندتها في الضغط على الولايات المتحدة والغرب بتطوير العلاقة نحو الشرق.
ب. تداعيات اقتصادية: مع لجوء بوتين للخيار العسكري، ستتأثر تجارة إيران مع روسيا بصورة أكبر من تجارتها مع أوكرانيا التي تعتبر محدودة إلى حدٍ بعيد، فحجم التجارة بين روسيا وإيران يزيد على أربعة مليارات دولار في العام، بينما بلغ معدَّل استيراد البضائع من أوكرانيا خلال العام 2021م ما يقرب من 111 مليونًا و710 آلاف دولار، فيما صدَّرت طهران إليها بضائع بقيمة 48 مليون دولار، ويشير الحجم التجاري للبلدين أيضًا البالغ إلى 160 مليونًا و290 ألف دولار إلى ارتفاع يقدر بـ 76% بالمقارنة بالفترة ذاتها من العام 2020م، ويعتبر المجال الزراعي هو الأكثر تأثراً لأن إيران بدأت في الزراعة في أوكرانيا خلال السنوات الماضية، إذ استحوذت الكثير من الشركات الإيرانية على مساحات شاسعة للغاية من الأراضي في أوكرانيا، وتعمل هناك على إنتاج القمح والحبوب وغيرها بتكلفة أقل لخصوبة الأراضي.
ج. تعزيز تحالف إيران مع روسيا والصين: ربُما يرى البعض أن المحادثات في فيينا يمكن أن تكون ورقة مساومة مع الغرب في موضوع أوكرانيا، وقد يعمل بوتين لدفع مفاوضات فيينا قُدمًا والانضمام للضغط على إيران مقابل تنازلات في شرق أوروبا، لكن لا شك أن احتدام الصراع يشغل الولايات المتحدة عن المخاطر التي تمثلها إيران، وسوف تستفيد إيران من هذه الأجواء لمواصلة سياساتها وكسب مزيدٍ من الوقت لتنفيذ مخططاتها، فضلاً عن كسب مزيدٍ من التأييد من جانب روسيا، خصوصاً أن احتمال فرض الولايات المتحدة مزيدًا من العقوبات على إيران، سيدفع روسيا إلى مزيدٍ من التعاون الإستراتيجي والاقتصادي مع إيران، وعدم الالتفات للعقوبات الأمريكية، وقد تدعم الصين هذا التوجه بما يخلق جبهةً تعتمد عليها إيران في تعزيز نفوذها والاحتفاظ بمكتسباتها، ناهيك عن أن هذا الدعم سيُسهم في احتمال حصول إيران على اتفاق أفضل في فيينا. إن إصرار روسيا على نهجٍ يُعيد للذاكرة أجواء الحرب الباردة سيدفعها لتطوير علاقاتها مع حلفائها، لا سيما في الشرق الأوسط الذي يمثل أحد أهم ساحات إحياء الطموحات الروسية على الساحة الدولية، وتحتل إيران أولوية كحليف مهم لروسيا في المنطقة، إذ ستحرص روسيا على عدم تطبيع العلاقات بين إيران والغرب.
د. تعزيز روسيا للتنافس الإقليمي: وذلك من خلال تقديم دعم عسكري وتنفيذ صفقات سلاح واتفاقيات تجارية تسهم في خلق بيئة إقليمية معقدة أمام الولايات المتحدة، وتستفيد الصين بالطبع من هذا التوتر وستعمل على سياسة المواجهة خارج المجال بتعميق التنافس في الشرق الأوسط تماشيا مع التوجهات الروسية نفسها ودعم أعداء واشنطن ومن بينهم إيران، غير أن أهمية تحالف أوبك+ بالنسبة لروسيا قد يحد من مقاربتها واندفاعها تجاه إيران.
3- تداعيات الأزمة على دول مجلس التعاون الخليجي
أ. فُرصٌ اقتصادية لدول الخليج: بالنسبة للدول المنتجة للغاز والنفط وفي مقدمتها دول الخليج فإن الأزمة تصبُ في صالحها اقتصاديًا، حيث تتزايد أهمية مواردها من الغاز والنفط، باعتبارها بديلًا للنفط والغاز الروسي، وبالفعل قامت الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية بإجراء اتصالات مع عددٍ من الدول في المنطقة، ومع شركات غربية عاملة في قطاعي الغاز والنفط، لبحث فرصِ تزويدِ أوروبا بإمدادات من الطاقة كبدائل للغاز الروسي، وُيمكن للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تخفيفَ الضغط على أسعار النفط في حالة حدوث غزوٍ روسيٍ لأوكرانيا، فأزمة أوكرانيا فتحت الباب أمام دول المنطقة لتقدم نفسها لأوروبا كمصدر بديل للطاقة.
ب. مكاسب سياسية: اتصالاً بالجانب الاقتصادي فإن الأزمة تمنح هذه الدول مكانةً سياسية في الترتيبات الراهنة على الساحة الدولية، من مدخل سياسات الطاقة التي ستتابعها للتخفيف من ارتفاع الأسعار، لا سيما في حال تفاقمت الأزمة ونشب الصراع وتوقفت الإمدادات الروسية، فضلاً عن أن تصاعد الصراع من شأنه أن يمنح دول الخليج فرصًا أكبر للمناورة وحرية الحركة.
ج. تخفيف الضغوط الأمريكية: تُعزز الأزمة الأوكرانية من الواقعية الأمريكية في التعامل مع دول الخليج، فقد أظهر الصراع حاجةَ الولايات المتحدة إلى دعم حلفائها التقليديين في الخليج لا سيما على الجانب الإستراتيجي والاقتصادي، ولا شك أن هذا سوف يدفع السلوك الأمريكي نحو مزيدٍ من الواقعية تجاه التعامل مع بعض الحكومات في المنطقة بصرف النظر عن الخلاف معها بشأن بعض القضايا والسياسات، وربما هذا ما دفع الرئيس بايدن إلى الاتصال الهاتفي بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، لأهمية المملكة في استقرار سوق الطاقة في أوقات الصراعات.
د. التخلص من القيود والضغوط الأمريكية: يمكن القول إن حاجة الولايات المتحدة لدول الخليج في الصراع قد تُسهم في تخلص بعض هذه الدول من قيود إدارة بايدن على واردات السلاح إليها، وقد ظهر ذلك في رفع واشنطن تحفظاتها على صفقات سلاح كبيرة للسعودية والإمارات، وهذا التوجه سوف يُغني دول المنطقة عن التقارب مع روسيا وعدم المضي قدمًا في تنفيذ صفقات السلاح المتوقعة مع روسيا والصين، وستخسر روسيا جرَّاء هذا التغيير لا سيما بعدما كانت قد استعادت بعضًا من مكانتها كأحد أهم موردي السلاح لدول المنطقة خلال العقد الأخير.
خلاصة القول إن سيناريو الحرب هو الأكثر تأثيرًا على الشرق الأوسط إذ أنه على الأغلب سيحمل تغييرًا مهمًا في السياسة العالمية وفي توجهات الدول الكبرى، ونظرًا لأن الشرق الأوسط في قلب التوازنات القائمة وأحد الدوائر المهمة للقوى المتصارعة فإن تكلفة وتداعيات حتمية ستدفعها المنطقة، لا تضاهي المكاسب الاقتصادية المحتملة لبعض الدول، ولا حتى فرص المناورة السياسية المتاحة أمام بعض الحكومات، خصوصًا إذا شكَّلت الحرب بدايةً لحقبة جديدة من الصراع بين القوى العالمية للهيمنة وبسط النفوذ، لكن إذا تعاملت الولايات المتحدة والغرب مع الإعلان الروسي بالاعتراف بمقاطعتي دونيتسك ولوغانسك والهجوم على أوكرانيا على أنه أمرٌ واقع فرضهُ بوتين، وعدم اتخاذ خطوات رادعة على غرار ما حدث في جورجيا أو ما حدث عندما ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم فإن بوتين يكون قد نجح في فرض أمرٍ واقعٍ جديد على الصراع في شرق أوروبا، لكن لا يعني ذلك أن المواجهة ستتوقف لكنها ستكون منافسةً إستراتيجيةً أيضًا لن تسلَمَ المنطقةُ من تبعاتها، لكن بحدَّة أقل.