حاولت إيران واتباعها في العراق منذ أشهُر الضغطَ على الحكومة العراقية لقبول دور الميليشيات الشيعيَّة في الهجوم على الموصل، وهي خطوة قد تُعطِي هذه الميليشيات دورًا في النصر وذريعة لتبرير الأعمال التي ستنفّذها بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ومِن ثَمَّ المحافظة على النفوذ الإيراني في العراق الذي يرتكز بشكل رئيسي على هذه الميليشيات التي يعتقد كثيرون أنها نسخة مطابقة لحزب الله اللبناني في العراق.
في التاسع والعشرين من أكتوبر التحقت قوات جيش الحشد الشعبي المكوَّنة من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، بالهجوم العسكري بقيادة الجيش العراقي والولايات المتحدة الأمريكية والقوات الكردية، لاستعادة مدينة الموصل ذات الأغلبية السُّنِّية من قبضة عناصر الدولة الإسلامية، وفتحت هذه الميليشيات جبهة جديدة غربيّ الموصل لعزل تنظيم الدولة عن قواعده، بما فيها سوريا.
في ذلك الحين وافق رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على مشاركة هذه الميليشيات في الهجوم على الموصل دون الاتفاق على دخول المدينة نفسها. ومن ناحية أخرى تداول بعض التقارير الإعلامية نبأ وجود قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني غربيّ الموصل لقيادة الميليشيات الشيعيَّة هناك، بالإضافة إلى وجود عناصر حزب الله لمساعدة هذه الميليشيات في عمليات الموصل.
بالإضافة إلى ذلك كان قائد جيش الحشد الشعبي العراقي هادي الأميري، ومساعده أبو مهدي المهندس، عضوين في فيلق القدس ولواء بدر الإيراني الذي شكّله الحرس الثوري الإيراني في ثمانينيات القرن الماضي للقتال إلى جانب القوات الإيرانية في أثناء الحرب العراقية الإيرانية. وبعد سقوط العراق عام 2003 غُيّرت تسمية قوات بدر إلى “ميليشيا منظمة بدر”، التي أصبحت القوة الرئيسية التابعة لإيران في العراق. أما بالنسبة إلى النظام الإيراني فإن مشاركة قوات الحشد الشعبي في الهجوم على الموصل تُعتبر خطوة مهمّة في ضمان مستقبل الميليشيات الشيعيَّة في العراق.
في الثامن والعشرين من أكتوبر الماضي أجرت قناة “الإخبارية” التابعة لحزب الله مقابلة مع مساعد قائد جيش الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، بُثّت على موقع الحرس الثوري الإيراني، أكّد فيها دور جيش الحشد الشعبي في عمليات الموصل قائلًا: “بعد هزيمة تنظيم الدولة سيستمرّ دور جيش الحشد الشعبي في مواجهة الإرهاب والدفاع عن العراق ضد أي تهديد محتمَل، وسوف نوسّع عملياتنا لتشمل سوريا”.
جدير بالملاحظة أن غالبية الميليشيات الشيعية التي يتشكل منها جيش الحشد الشعبي أرسلت آلاف المقاتلين إلى سوريا للدفاع عن نضام الأسد. وقد كان استخدام المهندس مصطلح “الدفاع عن العراق ضدّ أي تهديد إرهابي” مبرِّرًا لوجود الميليشيات الشيعية المسلَّحة في العراق على نهج تبرير وجود حزب الله في لبنان والاحتفاظ بسلاحه (للدفاع عن لبنان ضدّ العدو الصهيوني)، على الرغم من انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000.
كان موقف إيران واضحًا حول دور جيش الحشد الشعبي في عمليات الموصل ومستقبل الميليشيات الشيعية في العراق، ففي شهر أغسطس الماضي سافر رجل الدين الشيعي أكرم الكعبي، قائد حركة النجباء العراقية التابعة لإيران وجزء مهمّ في تكوين قوات الحشد الشعبي المشتركة في الحرب في سوريا، إلى طهران حيث قابل رؤوس النظام الإيراني وقادة قوات الحرس الثوري، وتَقلَّد وسامًا نتيجة إخلاصه للمرشد الأعلى الإيراني. وقد تَلقَّى الكعبي تعليمات النظام الإيراني حول معركة الموصل ومستقبل جيش الحشد الشعبي، وخلال مقابلته رئيس مجلس النواب الإيراني أعلن الكعبي أن معركة الموصل معركة فاصلة في مستقبل العراق ومستقبل المقاومة الإسلامية في هذا البلد. وأضاف أن الموصل هي مسرح المعارك ضدّ الولايات المتحدة وقائد منظمة كردستان مسعود البرزاني الذي يسعى لإيجاد حكومة موالية لإسرائيل في كردستان.
وقد تحدث الكعبي في المؤتمر الصحفي على هامش الزيارة قائلًا: “لن تستطيع أي دولة بما فيها الولايات المتحدة منعنا من المشاركة في الهجوم على الموصل أو أن تلغي وجودنا. فجيش الحشد الشعبي مستمر بنشاطاته من أجل دحر تنظيم الدولة”، وأضاف: “لقد درّب حزب الله جيش الحشد الشعبي، فنحن لا نؤمن بالحدود، والقائد سليماني يمثِّل المقاومة أمام العالَم”.
وفي مقابلة أخرى مع التليفزيون الإيراني قال الكعبي: “على الرغم من معارضة الولايات المتحدة فإن جيش الحشد الشعبي سوف يشارك بصورة مؤكَّدة في الهجوم على الموصل”، وأضاف أن الحشد الشعبي قد يوافق على الانخراط تحت مظلة وزارة الدفاع العراقية، بشرط عدم تفكيك السلسلة القيادية والتنظيمية لجيش الحشد الشعبي، وأن تبقى كما هي ومرتبطة مع “حركات المقاومة”، وهو مصطلح يطلقه النظام الإيراني على المجموعات التابعة له في منطقة الشرق الأوسط.
وخلال اجتماعه مع المستشار الأول للسياسة الخارجية للمرشد الأعلى علي أكبر ولايتي، أكّد الأخير أهمية مشاركة جيش الحشد الشعبي في عمليات الموصل، وحسبما جاء في موقع “مشرق” الإخباري، أعلَمَ الكعبي ولايتي بأن ميليشياته تتبع أوامر المرشد الأعلى في إيران.
» تنامي العدوانية الإيرانية
في ظل تغافل المجتمع الدولي عن الجرائم الإيرانية في سوريا وسعيها للهيمنة على المنطقة، أُفسِح المجال أمام إيران لتتمادي وتصبح أكثر عدوانية، فمنذ توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات الاقتصادية عنها عملت إيران على تحقيق أهدافها المتطرفة في المنطقة، فعملت على تسريع برامجها الصاروخية وزيادة دعمها للمتمردين في اليمن، الذين يُطلِقون الصواريخ الإيرانية تجاه المملكة العربية السعودية وحلفائها في منطقة الخليج العربي، كما زادت إيران بزيادة دعمها للحركات الإسلامية في فلسطين ووسّعَت نطاق مشاركتها في الحرب الدائرة في سوريا. كما احتجزت إيران عددًا من الرهائن الأمريكيين وتَحرَّشَت بالسفن الأمريكية في الخليج العربي. ونتيجة للظروف الحالية في لبنان وجدت إيران الفرصة ملائمة لدعم ذراعها هناك المتمثلة في حزب الله اللبناني، الذي سيطر على النظام السياسي في لبنان وفرض مرشَّحه بالوصول إلى كرسي الرئاسة هناك. ونتيجة لِمَا ذُكر يتبين أن إيران لها اليد الطُولَى في منطقة الشرق الأوسط.
لقد تناول موقع مشرق التابع للحرس الثوري هذا السلوك الإيراني في المنطقة من خلال افتتاحيته بتاريخ 25/10 قائلًا: “اجتماع وزراء خارجية إيران وروسيا وسوريا في موسكو كرَّس اتِّباع هذه الدول منهج العدوانية والهجوم في المنطقة. وهذا التغيير في السياسة يظهر جليًّا من خلال مشاركة جيش الحشد الشعبي في عمليات الموصل، وفي أثناء اللقاء ناقش الوزراء الثلاثة الوضع بعد هزيمة تنظيم الدولة وموجة المؤامرات الأمريكية”.
» نظرة تشاؤمية
إن مشاركة جيش الحشد الشعبي في عمليات الموصل واستمرار الميليشيات الشيعية بنشاطاتها في العراق سوف تؤدِّي إلى نتائج كارثية للعراق والمنطقة، إذ تمتلك هذه الميليشيات سجلًّا حافلًا في العنف الطائفي ومخالفة حقوق الإنسان من خلال ارتكاب جرائم حرب في المناطق السُّنِّيَّة في العراق.
في التاسع من شهر ديسمبر عام 2009 أفادت السفارة الأسترالية في بغداد، عبر وثائق سُرِّبت من خلال “ويكيليكس”، بأن قائد جيش الحشد الشعبي ومنظمة بدر هادي أميري قد شارك بفاعلية في تنظيم هجمات ميليشيات بدر الشيعية على المناطق السُّنِّيَّة في أثناء فترة العنف الطائفي 2004-2006. كما أكدت مصادر أنه شخصيًّا قد أعطى الأوامر للهجوم على 2000 شخص سُنِّيّ، وكانت إحدى وسائل القتل المفضَّلة لديه استخدام مِثقَاب لتعذيب مناوئيه.
منذ تشكيل جيش الحشد الشعبي عام 2014 نفّذت هذه الميليشيات عديدًا من الجرائم الجماعية ضدّ الأقلِّيَّات السُّنِّيَّة في العراق، وقد أدانتهم منظمات حقوق الإنسان الدولية كمنظمة “أمنستي” الدولية التي نشرت تقريرًا قالت فيه: “توجد دلائل على ارتكاب الميليشيات الشيعية المدعومة من الحكومة العراقية جرائم حرب”.
وفي العام الحالي 2016 أدان نائب مدير مكتب مراقبة حقوق الإنسان في الشرق الأوسط هذه الجرائم قائلًا: “لقد دفع المدنيون ثمن فشل العراق في الاستقرار في ظل وجود ميليشيات خارجة عن السيطرة. إن الدول الداعمة للقوات الأمنية في العراق وجيش الحشد الشعبي يجب أن تُجبِر هذه الميليشيات على إنهاء العنف الطائفي”. على الجميع أن يدرك دور إيران وعملائها في إشعال العنف الطائفي في المنطقة، الذي أدَّى إلى ظهور مجموعات كتنظيم الدولة في العراق والشام.
في مارس 2011 وفي أثناء اشتعال الربيع العربي ثار الشعب السوري ضدّ نظام بشار الأسد، واستخدمت قوات النظام السوري القوة المفرطة لقمع الثورة السورية، ونتيجة لذلك حمل الشعب السوري السلاح وانضمّ إلى الجيش السوري الحر.
وفي أواخر 2011 كانت قوات الثورة السورية على وشك الإطاحة بنظام الأسد مِمَّا أدَّى إلى تدخُّل إيران لحماية هذا النظام من خلال إرسال عناصر الحرس الثوري ومقاتلي حزب الله والميليشيات الشيعية من العراق وأفغانستان وباكستان. وقد ارتكب نظام الأسد والقوات الإيرانية مذابح جماعية في حق الشعب السوري، ممَّا أدَّى إلى ازدياد الوضع سوءًا وطائفيةً. ونتيجة لضعف الجيش السوري الحر والمعارضة المعتدلة برزت المجموعات المتطرفة كجبهة النصرة وتنظيم الدولة.
بعد انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 أمسك رئيس الوزراء العراقي المدعوم من إيران وحلفاؤه بزمام الأمور من خلال اتباع سياسات طائفية ممنهجة ضدّ الأقلِّيَّة السُّنِّيَّة. وبناءً عليه اشتعلت المظاهرات في مناطق السُّنَّة، فقمعت حكومة المالكي المتظاهرين وارتكبت جرائم باستخدام القوة المفرطة أدَّت إلى قيام ثورات سُنِّيَّة في عديد من هذه المناطق.
في ربيع 2014 استغلّت قوات تنظيم الدولة هذه الثورات في المناطق السُّنِّيَّة في العراق ضدّ الحكومة المركزية، وسيطرت على مناطق مُهِمَّة من المدن السُّنِّيَّة بما فيها الموصل، ثانية أكبر مدن العراق، ومِن ثَمَّ بسطت سيطرتها على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا.
لقد أظهرت مشاركة الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في عمليات الموصل مدى النفوذ الإيراني في العراق منذ سقوط نظام صدَّام حسين عام 2003، إذ عملت الميليشيات الشيعيَّة التابعة لإيران على إذكاء الفتنة الطائفية واستبعاد الديمقراطية ونشر العنف وزعزعة الاستقرار في العراق والمنطقة. وكلما طالت فترة استيعاب الحكومة العراقية والمجتمع الدولي للحاجة إلى مواجهة إيران والميليشيات التابعة، لها فإن الخسارة ستكون كارثية للشعب العراقي والمنطقة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز