يتصاعد التوتر بين إيران وتركيا منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا؛ حيث انتقدت طهران مرارًا وقوف أنقرة وراء فصائل المعارضة التي أسقطت الأسد، لكن هذا التوتر ظهر إلى العلن بعد تحذيرات وزير الخارجية التركي هاكان فيدان لإيران من محاولة زعزعة الاستقرار في دمشق، وتأكيده بأن السياسة الخارجية الإيرانية المرتبطة بوكلائها في المنطقة تنطوي على مخاطر كبيرة، تؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، فضلًا عن تهديده للإيرانيين من مغبة دعم الأكراد في سوريا. ويبدو أن تركيا بصدد هندسة التطورات في سوريا؛ بهدف قطع الطريق أمام أي محاولات إيرانية للعودة إلى سوريا، ولاسيما عبر البوابة الكردية وقد ظهر ذلك جليًا في الضغط الشديد الذي مارسته ضد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهو ما أدى إلى توصل الأخيرة إلى اتفاق تاريخي مع الإدارة السورية الجديدة لإنهاء الخلافات، وقد كان لهذه التطورات عظيم الأثر في زيادة التوتر بين البلدين خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما ظهر جليًا في تصريحات المسؤولين الإيرانيين والأتراك، وكذلك في حجم التراشق الإعلامي بين البلدين.
في هذا التقرير سنناقش هذه القضية عبر عدد من المحاور هي: بيئة التوتر بين تركيا وإيران، وملامح التوتر بين البلدين، ثم مناقشة مستقبل هذا التوتر وسيناريوهات العلاقة بين البلدين خلال الفترة المقبلة.
أولًا: الأكراد وبيئة التوتر بين تركيا وإيران
ظلت الورقة الكردية لسنوات طويلة تندرج ضمن قضايا الالتقاء بين تركيا وإيران، وكانت قضية محورية جامعة للطرفين في خندق واحد ضد الأكراد وطموحاتهم الانفصالية، لكن نتيجة التطورات الإقليمية التي مُنيت فيها إيران بخسائر تاريخية، بسقوط نظام بشار الأسد الحليف الإستراتيجي، الذي أدى فراره إلى خروج سوريا من مشروعها الجيوسياسي، ووصول نظام سياسي سوري جديد بأيدولوجية مغايرة، وبداعمين إقليميين جدد داعمين للمعادلة السورية الجديدة، وبإضعاف حزب الله في لبنان باغتيال كبار قياداته السياسية والعسكرية، وتدمير جزء كبير من قدراته، إلى درجة هرولته لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل.. تبدلت التوجهات والمواقف الإيرانية تجاه الورقة الكردية، حيث تحولت الورقة الكردية إلى أحد أبرز الأوراق والنوافذ الإيرانية لتعقيد المعادلات الجديدة، وتأزيمها أمام الصعود التركي في سوريا والعراق وغيرها.
تُدرك إيران أن ما يشهده الشرق الأوسط من تطورات على خلفية هزائمها التاريخية، يحمل إشارات بالغة الدلالة على بداية أفول نفوذها الإقليمي، ومن ثم تزايد الحضور التركي الإقليمي في سوريا ولبنان، وما تخشاه إيران في الوقت الراهن من أن تعزيز الحضور التركي في هاتين الدولتين المركزيتين في إستراتيجيتها التوسعية من شأنه تعزيز الحضور التركي بالتبعية في العراق، الذي يعد الحلقة الأخيرة لإيران في فضائها الغربي، حيث تُدرك إيران أن استقرار الساحتين السورية واللبنانية يعني نجاح الحضور التركي، وبداية نهاية النفوذ الإيراني في العراق، وكان وذلك واضحًا من تقييم إيران لزيارة وزير الخارجية التركي هاكان فيدان للعراق في فبراير 2025م، بل ومن مسعاه لتشكيل محور رباعي أمني تركي- عراقي- سوري-أردني على أنقاض التحالف القديم الروسي الإيراني السوري العراقي.
تنظر إيران بحسرة لخسارتها سوريا، وتراجع نفوذها في لبنان، وللدور التركي المتنامي فيهما، حيث قدمت أنقرة الدعم العسكري والسياسي الكبير للرموز التي سيطرت على المشهد السوري منذ فرار الأسد، كما عمل عدد من دول المنطقة إضافة إلى تركيا لإغلاق النوافذ أمام إيران، لإشعال الساحة السورية، أو لتوظيف أكراد العراق في تأجيجها، ومن بينها نافذة أكراد سوريا، ومارست أنقرة الضغط الشديد على أكراد سوريا “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، لدرجة إعلان تركيا جاهزيتها لشنِّ عملية عسكرية واسعة ضد قسد في سوريا، وحزب العمال الكردستاني بالعراق المصنف إرهابيًا لدى أنقرة، بل وشنّها بالفعل هجمات عسكرية ضد مقرات الحزب بالعراق.
تنامت مستويات الإحباط والاستياء الإيراني من أنقرة، بتمكنها من إغلاق النافذة الكردية أمام إيران، وذلك بنجاحها في إجبار الأكراد في العراق وسوريا على الاستجابة لمطالبها، فمن ناحية أعلن حزب العمال الكردستاني في العراق الاستجابة لدعوة الزعيم الروحي المسجون في المعتقلات التركية عبدالله أوجلان، بحل نفسه وتسليم السلاح والانخراط في المسار السياسي السلمي، في خطوة تاريخية تنهي صراع الحكومة التركية استمر لنحو 40 عامًا، ومن ناحية أخرى وقعت قسد اتفاقًا تاريخيًا مع الرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، يُنهي الخلافات ويتجه للمستقبل لبناء سوريا الموحدة، بقبول الاندماج ضمن الجيش السوري الجديد، ووضع المعابر الحدودية وحقول النفط والغاز في مناطق سيطرة قسد تحت سيطرة الإدارة الجديدة في سوريا.
ثانيًا: ملامح التوتر بين البلدين
بلغ التوتر بين إيران وتركيا ذروته عندما حذَّر وزير الخارجية التركي “هاكان فيدان” طهران من العمل على زعزعة استقرار دول مجاورة، والاستفادة من التجربة السابقة التي كلفتها كثيرًا، وعند تطرقه إلى إمكانية دعم إيران للأكراد في سوريا انتقل إلى استعمال لغة التهديد؛ حيث تحدث عن قدرة تركيا على توظيف جماعات داخل إيران مثلما تفعل هي في الدول الأخرى. جاءت هذه التصريحات قبل أيام قليلة فقط من تمرد مسلح كبير قاده موالون لنظام الأسد في الساحل السوري، كان يهدف إلى السيطرة على المنطقة التي تسكنها أغلبية علوية، بهدف خلق واقع جديد يقود إلى قلب نظام الحكم الجديد، بالتنسيق مع الأكراد وغيرهم من الأقليات، وتداولت تقارير عن دور تنسيقي قامت به إيران في التخطيط للهجوم العسكري، بالتعاون مع قادة من الجيش السوري السابق والأكراد وميليشيات في العراق، لذلك فُسرت تصريحات وزير الخارجية التركي بأنها كانت تحذيرًا لإيران من ذلك المخطط، وبعدما تحول إلى أمر واقع تحركت أنقرة عمليًا لإفشاله، عبر دعم الحكومة السورية في مواجهة التمرد، من خلال شن هجمات جوية على المواقع الكردية، ومنعها من فتح جبهة أخرى ضد قوى الأمن والجيش السوري، وتأمين الفراغات التي تركها تركيز الجهد العسكري نحو الساحل السوري.
تاريخيًا لطالما استغلت إيران الأكراد في صراعها مع دول الجوار (تركيا والعراق) والأمر نفسه كان يقوم به نظام الأسد، وتزايد ذلك كثيرًا منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية السورية في 2011م، انطلاقًا من ذلك كان توظيف إيران للورقة الكردية في سوريا ضمن السيناريوهات المتحملة جدًا لمحاولة استعادة نفوذها في البلاد، أو على الأقل الضغط عن طريق الأكراد وغيرهم لتحقيق بعض المكاسب، غير أن التطورات الجديدة التي تشهدها المنطقة عمومًا وسوريا خصوصًا خاصة بعد الخطوة التاريخية التي أقدم عليها الزعيم الروحي للأكراد عبد الله أوجلان، وتوصل الحكومة السورية إلى اتفاق مع “قسد”، والذي لعبت فيه الولايات المتحدة الأمريكية دورًا بارزًا، ومباشرة الطرفين إجراءات تجسيده على أرض الواقع عبر اللجان المشتركة، كل هذه التطورات تخصم من قدرات إيران على توظيف هذه الورقة، والتي تبقى في المحصلة الأخيرة محدودة، كونها معنية بهذا الملف هي الأخرى؛ نظرًا للوجود الكردي القوي داخل إيران، ولكن مع ذلك فإن التحركات الإسرائيلية في سوريا قد تخدم المصالح الإيرانية، وكلما استطاع الاحتلال الإسرائيلي زعزة أمن واستقرار سوريا، سواء عبر الهجمات العسكرية أو دعم بعض الجماعات الدرزية، فإن ذلك يُتيح لإيران أيضًا هامشًا من المناورة، عبر توظيف الورقة الكردية إلى جانب الورقة العلوية، لمنع تركيا والدول العربية من إعادة إدماج سوريا في الإقليم بعيدًا عن المشروع الإيراني.
ثالثًا: مستقبل العلاقات التركية الإيرانية
قاد التغيير الذي شهدته سوريا إلى إحداث خلل في معادلة التوازن، التي حكمت علاقة تركيا بإيران في سوريا والمنطقة ككل، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في خطاب التصعيد المتبادل بين الجانبين في الأسابيع الأخيرة، وعلى هذا يمكن توقع عدة سيناريوهات للعلاقة على ضوء التطورات الجارية، وذلك على النحو الآتي:
السيناريو الأول، وهو الاستمرار في التصعيد، والذي قد يأخذ أحد نمطين: المحدود ويقتصر على التصريحات والإجراءات الدبلوماسية، أو التصعيد الأوسع نطاقًا، من خلال استمرار البلدين في الاندفاع من أجل تحقيق مصالحهما المتشابكة، من خلال القوة الخشنة، وأرواق الضغط المؤثرة. الأمر الذي قد يجعل هذا السيناريو واقعًا، هو مساعي إيران للحفاظ على نفوذها ومشروعها وممرها في غرب آسيا، وترميم الخسائر التي تعرضت لها، وذلك عبر التعاون مع أطراف قد تكون معادية لتركيا، ومناهضة لمشروعها في هذه البلدان، بما في ذلك الأكراد في العراق وسوريا، ولا سيما قسد، أو محاولة طهران عرقلة تقدم الحكومة السورية الجديدة عبر تفجير الوضع في الداخل، بالاعتماد على العلويين وقيادة الثورة المضادة ضد نظام الشرع حليف تركيا الإستراتيجي.
وعلى الرغم من أن هذه السياسية في جانب منها يتعلق بإملاءات إيران الأيديولوجية، وآخر يتعلق بترميم عقيدة الدفاع الأمامي الموجهة لإسرائيل والولايات المتحدة، غير أن من شأنها أن تُثير حفيظة تركيا في الوقت نفسه، وتُضرّ بمصالحها الحيوية، ومن ثم ستتصدى لهذه الإجراءات الإيرانية، وتتبنّى سياسة مضادة لا جدال بشأنها من أجل الضغط على إيران، والحد من نفوذ إيران في فضائها الجنوبي في العراق وسوريا ولبنان، واستغلال التغييرات التي جرت في هذه البلدان لفرض مزيد من القيود على نفوذ إيران الإقليمي، ليس في غرب آسيا ولكن ربما في منطقة القوقاز عبر تسريع مشروعاتها الجيوسياسية، وفرض حصار على إيران من جهة الشمال، عبر العمل على حل الصراع بين أذربيجان وأرمينيا، والضغط على طهران عبر بوابة أذربيجان، التي تمتلك علاقات قوية مع تركيا، وربما تدفع الولايات المتحدة التي تمتلك هي الأخرى علاقات وثيقة مع أذربيجان بهذا الاتجاه لفرض مزيد من العزلة على إيران.
إن هذا المسار المتناقض والمصالح المتضاربة إلى حد بعيد تضع البلدين في مواجهة بعضهما البعض حتمًا، ولاسيما إذا تشكلت التصورات المتبادلة على أساس عدائي، واعتبار كل تقدم لطرف في ساحة هو حتمًا خصم من نفوذ الآخر، الأمر الذي قد يقود العلاقات إلى مربع التأزم، وربما تحول التوتر الدبلوماسي إلى تصعيد قد تتضرر على أساسه العلاقات، ليس هذا وحسب بل قد يمتد ليصل الأمر إلى حد اتخاذ إجراءات تصعيدية متبادلة، كأن تضغط تركيا على إيران عبر تفعيل دور رابطة الدول الناطقة بالتركية بإثارة الملف الأذري في إيران، أو أن تقوم تركيا بتنفيذ تهديداتها بإثارة بعض ملفات الأقليات الأخرى، كالملف الكردي، وذلك باعتبار أن أي مساندة إيرانية لحزب العمال الكردستاني هي إضرار مباشر بأمن وسيادة تركيا، أو التاثير إعلاميا على الداخل الإيراني، وقد أسست تركيا مؤخرًا قناة إخبارية ناطقة بالفارسية، أثارت حفيظة الإيرانيين، أو الانضمام إلى حملة العقوبات الغربية على إيران، هذا السيناريو من الخطورة بمكان بحيث لا يُهدد أمن البلدين وسيادتهما، بل إنه تهديد كبير للأمن والاستقرار الإقليمي ككل.
أما السيناريو الثاني، وهو نجاح البلدين في إدارة الخلافات، والتكيف مع الأوضاع الجيوسياسية المستجدة، وذلك باعتبار أن العلاقات قد مرَّت بظروف مشابهة في مراحل مختلفة، ومع ذلك لم يصل التصعيد الدبلوماسي في أي مرحلة حد الصراع أو القطعية من قبل، خصوصًا أن هناك مصالح متعددة بين البلدين، وتوافق بشأن عدد من القضايا، فإيران تمرُّ بأزمة إقليمية عميقة، فضلًا عن ضغوط دولية غير مسبوقة، وقد يكون من المجازفة خسارة قوة إقليمية كتركيا، التي رفضت الانضمام إلى حملة العقوبات الغربية ضد إيران، وقدمت دعمًا دبلوماسيًا لإيران في المحافل الدولية، وما تزال منفذًا مهمًا لتجارة إيران الخارجية المحاصرة، كذلك فإن تركيا لديها ارتباطات مهمة بإيران، فيما يتعلق بحجم التبادل التجاري والاستثمارات وتدفقات الطاقة التي تحتاجها تركيا.
كما تُدرك طهران أن لتركيا أوراقًا قد تخلق وضعًا أشد تعقيدًا بالنسبة لإيران، ولاسيما إذا استخدمت تركيا أسلوب إيران نفسه، ودعمت الجماعات الانفصالية المتعددة في إيران، خصوصًا الأتراك الأذربيجانيين، الذين يُشكلون أكبر أقلية عرقية في إيران، كذلك فإن تركيا لديها العديد من أوراق الضغط الراهنة، التي يمكن من خلالها أن تؤثر على إيران، بما في ذلك الأوراق في فضاء تركيا الأسيوي في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، وملف التجارة والطاقة بين البلدين، وهو الأمر الذي قد يؤثر على حسابات إيران تجاه ملف الأكراد تحديدًا.
الخلاصة:
في الأخير يمكن القول، إن إيران قد واجهت خسائر إقليمية فادحة، وتمنح التغييرات الراهنة تركيا نفوذًا أوسع في فضاء إيران في غرب آسيا، وتمتلك تركيا من الإمكانيات والتحالفات التي تجعلها في موقع أفضل في هذه المواجهة، خصوصًا أن إيران تواجه أزمة متفاقمة في الداخل، في مقابل حالة من الاستقرار النسبي في تركيا، كما تواجه إيران ضغوطًا إقليمية ودولية مكثفة، خصوصًا مع عودة ترامب لسيادة الضغوط القصوى على إيران، ولا ينقص إيران أن تصبح تركيا جزءًا من هذه الضغوط والتحديات، والحقيقة أن البلدين على الرغم من صراعهما على سوريا على مدار السنوات الماضية، فإن ذلك لم يؤد إلى مواجهة بين الجانبين أو تصعيد خارج عن السيطرة، بل في أسوأ الظروف نجحا في إدارة خلافاتهما على هذه الساحة، رغم ما كان يمثله وجود إيران في سوريا من تهديد حيوي لمصالح تركيا.
وعلى ما يبدو أن المسار المرجّح للعلاقة حتى الآن هو إدارة التنافس، والذي قد لا يخلو من بعض التوترات في الملفات الساخنة، وممارسة الضغوط عبر أوراق متبادلة يملكها الجانبان، بل الوصول لمرحلة من الشد والجذب، وربما الوصول لخطاب عدائي متبادل، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى تحول التوتر إلى صراع أو قطيعة، إذ ما يزال البلدان في حاجة إلى بعضهما البعض في العديد من الملفات، وفي مواجهة المشروع الأمريكي، الذي يراهن على تغيير ميزان القوة الإقليمي لصالح إسرائيل، وهكذا فإن البلدين بإمكانهما تحقيق توازن في الإقليم الجيوسياسي الذي يتشكل من جديد، ومع كل ذلك، لا يمكن التغاضي عن حجم التناقضات والفجوة المتزايدة في العلاقات، والخلل في ميزان القوة والتحالفات المتضادة، والتصورات السلبية المتبادلة ودورها في تحويل التنافس المدار إلى مواجهة لم تكن بالحسبان.