وقَّع وزير الموانئ والشحن الهندي سارباناندا سونوال ووزير الطُرُق والتنمية الحضرية الإيراني مهرداد بذرباش، في 13 مايو 2024م، اتفاقية طويلة الأجل لتشغيل ميناء تشابهار الإستراتيجي في إيران، في خطوة مهمَّة لتوسيع نيودلهي علاقاتها مع إيران، وانطلاقًا لعلاقات تجارية أوسع مع آسيا الوسطى. ومع أهمِّية هذ الاتفاقية للبلدين، غير أنَّها تحمل دلالات عميقة بشأن التنافس الدولي، وما يتّصِل به من تنافُس على ممرّات التجارة وخطوط الاتصال والربط بين دول جنوب شرق آسيا والعالم، كما أنَّ للقضية دلالات خاصَّة، بالنظر إلى العلاقات والمصالح المتضارِبة للقُوى المعنية بهذا المشروع، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين التي تَعتبر أنَّ هذا المشروع يستهدف إضعافَ مبادرة الحزام والطريق، بل لعلَّه منافس لاستثماراتها في بعض محطّات الميناء نفسه. فكيف يمكن فهْم هذا الاتفاقية وطبيعتها، وأهمِّيتها للبلدين، وأثر الموقف الأمريكي عليها؟ سيحاول هذا التقرير أن يُلقي الضوء على الجوانب المختلفة المتعلِّقة بهذا الاتفاق، محاوِلًا تقديم إجابة كاشفة لهذه التساؤلات.
أولًا: خلفية الاتفاق وسياقاته
يُنظَر إلى الاتفاقية، التي وقَّعتها الهند وإيران بخصوص تشغيل ميناء تشابها، في إطار عدَّة سياقات، أهمَّها:
1. مشروع متعثِّر على الرغم من الاستثناءات الأمريكية: يعود مشروع التعاون بين إيران والهند في ميناء تشابهار إلى عام 2003م، عندما زارَ الرئيس الإيراني آنذاك محمد خاتمي الهند. لكن أخذ المشروع دفعةً في عام 2016م، بتوقيع الجانبين اتفاقًا لتطوير ميناء تشابهار، وخصَّصت الهند بالفعل 12 مليون دولار من ميزانيتها السنوية لإكمال المشروع. إلا أنَّه في معظم الأحيان، ظلَّ المشروع في طي النسيان، ولم يكُن ناجحًا، باستثناء اكتمال المرحلة الأولى من المشروع في محطَّة الشهيد بهشتي عام 2017م، حيث استفادت الهند من أجواء الانفتاح ورفْع العقوبات، التي أتاحها توقيع الاتفاق النووي مع إيران في عام 2015م. ومع ذلك، ظلَّت المراحل الثلاث المتبقِّية معلَّقة، ويعود ذلك لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في عام 2018م.
ومع أنَّ واشنطن منحت الهند استثناءً باستكمال استثماراتها في هذا الميناء، وذلك لحسابات واشنطن والهند في ذلك الوقت بأن تطوير هذا الميناء يخدم تطلُّعاتهما المشتركة في قطْع الطريق على استثمارات الصين في مبادرة الحزام والطريق وعلاقاتها نحو دول آسيا الوسطى ودول الشمال، غير أنَّ الهند لم تستفِد من هذا الاستثناء؛ بسبب العقوبات الأمريكية الشاملة على إيران. وهكذا ظلَّ مشروع تطوير ميناء تشابهار محدودًا، باستثناء تسهيل بعض الشحنات. على سبيل المثال، أسهم الميناء في شحْن 20 ألف طن من مساعدات القمح إلى أفغانستان في 2023م، وتزويد إيران بمبيدات حشرية صديقة للبيئة في عام 2021م.
جدول (1): المراحل التاريخية لمشروع تطوير ميناء تشابهار بين إيران والهند
الإنجاز | الفترة |
بدأت رؤية تطوير تشابهار الحديثة. | السبعينات والثمانينات |
وقَّعت إيران والهند على خارطة طريق طموحة للتعاون الإستراتيجي، والتي تضمَّنت أيضًا تطوير وتوسيع ميناء تشابهار، وإيصال الطُرُق البرِّية من الميناء جنوبي إيران وصولًا إلى حدود أفغانستان شمال شرق إيران. | 2003م |
مرحلة الركود | |
عرقلة المشروع مع تصاعُد حدَّة العقوبات الغربية على إيران، وتجنُّب الهند الوقوع تحت طائلة العقوبات. | 2004-2015م |
مرحلة التقدم والاكتمال | |
بعد التوقيع على خطَّة العمل الشاملة المشتركة بين إيران ومجموعة 5+1، حصل تطوير ميناء تشابهار على زخم جديد. | 2015م |
تمَّ التوقيع على اتفاق ثلاثي بين الهند وإيران وأفغانستان لإنشاء ممرّ دولي للنقل والعبور، في شهر مايو 2016م. وفي وقت لاحق، عمِلَت الهند بوتيرة سريعة لتطوير مشروع تشابهار. | 2016م |
على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من خطَّة العمل الشاملة المشتركة، تمكَّنت الهند من الحصول على إعفاء من الحكومة الأمريكية المتحدة لمشروع تشابهار ومشاريع البنية التحتية ذات الصلة. | 2018م |
مرحلة التشغيل | |
توقيع اتفاقية لمدَّة 10 سنوات لتشغيل ميناء تشابهار. | 2024م |
2. اتفاقية جديدة للتغلُّب على الصعوبات: في 13 مايو 2024م، عادت الهند ووقَّعت عقدًا طويل الأجل مدَّته عشر سنوات مع إيران، وذلك بعد سنوات من المفاوضات والضغوط الإيرانية؛ بهدف تطوير وتجهيز وتشغيل محطّات الحاويات والبضائع العامَّة في ميناء تشابهار. وبموجب الاتفاق الجديد، يحِلّ العقد الجديد محلّ العقد الأوّلي، الذي كانت مدَّته 10 سنوات مع أحكام للتجديد التلقائي، مع الاتفاق على إنشاء إطار عام دائم للتعاون يضمن تنفيذ المشروع دون عوائق. وشمِلَت التفاهمات بين الجانبين التعاون في إطار ممرّ الشمال والجنوب (INSTC)، الذي يُعَدُّ ميناء تشابهار ركيزة أساسية لفاعليته، إضافةً إلى ذلك ستقدِّم الهند لإيران قرضًا بقيمة 250 مليون دولار؛ من أجل تطوير محطَّة في الميناء. وستستثمر شركة «إنديا بورتس غلوبال ليميتد» 370 مليون دولار في «توفير المعدّات الإستراتيجية»، و«تطوير البنى التحتية للنقل في الميناء». وفي مقابل ذلك، ستحصل الهند على عقْد إيجار تصِل مدَّته إلى عشرة أعوام، ويمنح هذا العقد نيودلهي السيطرةَ الإدارية على جزءٍ من الميناء.
3. منافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية: وفقًا للاتفاقية، تُعتبَر هذه هي المرة الأولى، التي تُدير فيها الهند ميناءً في الخارج. وسيُساعد الميناء، الذي يُنظَر إليه على أنَّه الربط الرئيسي للهند بأفغانستان وآسيا الوسطى والفضاء الأوراسي الأكبر، في موازنة ميناء جوادر الباكستاني، وكذلك مبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ يشمل الاتفاق خِطَطًا لربط تشابهار بممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب، الذي يربط الهند بروسيا عبر إيران، وسيمكِّن الميناءُ الهندَ من تجاوُز باكستان للوصول إلى أفغانستان، كما أنَّ ذلك سيمنع الصين من تطويق الاقتصاد الهندي المنافس. وجديرٌ هُنا الإشارة إلى أنَّ حصَّة الهند في أسواق آسيا الوسطى المهمَّة، أقلّ من 1% فقط من إجمالي التجارة الخارجية. تهتمّ الهند كذلك بتطوير علاقاتها مع إيران، وذلك بالنظر إلى موقعها الجغرافي المميَّز على خارطة طرق الاتصال العالمي، وبمواردها النفطية الهائلة كأحد ساحات المنافسة؛ وقد وقَّعت الصين مع إيران اتفاقًا للشراكة الإستراتيجية لمدَّة 25 عامًا، وتحصل الصين على النفط الإيراني بأسعار منافسة على الرغم من العقوبات، وقد حُرِمت الهند من هذا المصدر الرخيص؛ نتيجة الضغوط الأمريكية والخوف من العقوبات على الصادرات النفطية لإيران. لكن لا تزال نيودلهي تنظُر إلى العلاقة مع إيران على أنَّها فُرصة مهمَّة من أجل تعزيز موقعها الإقليمي ومصالحها في مواجهة الصين، بما في ذلك شبكة الاتصال العالمي العابر للحدود عبر المنطقة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ سياسة إدارة جو بايدن المتراخية تجاه إيران وتجاهُل تطبيق العقوبات على إيران، قد منحت الهند الضوءَ الأخضر بالمُضي قُدُمًا في هذا الاتفاق، لا سيّما أنَّه قد سبق ذلك اختبار عزيمة الولايات المتحدة، فيما يتعلَّق باختراق العقوبات المفروضة على روسيا.
خريطة (1): ممرّ الشمال-الجنوب
4. التطلُّعات الهندية كمركز انطلاق للممرّات العالمية: يتواكب الاتفاق ويتكامل مع الجهود الضخمة، التي بذلتها الهند على الصعيد الوطني لأجل تطوير البنية التحتية في البلاد، بما في ذلك التطوُّرات المذهلة للموانئ الهندية، حيث تمَّ إحراز تقدُّم هائل. فعشرات من الموانئ الهندية الرئيسية تضاعفت قُدرتها الاستيعابية في العقد الماضي، من 745 مليون طن إلى أكثر من 1600 مليون طن، وتنامت حركة المرور في هذه الموانئ بصورة ملحوظة، كما انخفض عدد ساعات العمل (انظر الخريطة). كذلك ارتفعت الهند من المرتبة 54 على «مؤشِّر الأداء اللوجستي»، الذي يُصدرهُ البنك الدولي، قبل عشر سنوات، إلى المرتبة 38 في العام 2023م. وهو توجُّهٌ يُشير إلى أنَّ الهند لديها خطَّة كُبرى، لتعزيز صِلاتها التجارية مع العالم.
خريطة (2): التطوُّرات الكبيرة للموانئ الهندية
المصدر: الإيكونوميست
5. الاضطرابات في حركة التجارة عبر البحر الأحمر: تأتي الاتفاقية في توقيت مهم، حيث تتعرَّض طُرُق التجارة الدولية إلى أزمة حقيقية على خلفية التطوُّرات الجارية في منطقة البحر الأحمر، والهجمات التي يشنّها «الحوثيون» على السُفُن المارَّة عبر مضيق باب المندب وفي البحر الأحمر والمحيط الهندي، إذ أضرَّت الأزمة المستمِرّة في البحر الأحمر بالتجارة الهندية. كما أنَّها تأتي في ظل الغموض، الذي يحيط بممرّ الهند-الشرق الأوسط-أوروبا، وذلك على خلفية الحرب الإسرائيلية على غزة، والتوتُّرات التي أثَّرت على هذا المشروع. وبالتالي، فإنَّ الاتفاقية هي خطوة من الهند من أجل التغلُّب على التحدِّيات الراهنة وإيجاد البدائل، والإعاقات المُحتمَلة أمام حركة تجارتها وممرّاتها المُقترَحة بين الشرق والغرب.
ثانيًا: مكتسبات الاتفاق للهند وإيران
ينطوي الاتفاق على مصالح أساسية لكُلٍّ من الهند وإيران، وذلك على النحو الآتي:
1. تموضُع الهند على خطوط التجارة العالمية: يعزِّز الاتفاق من مكانة الهند في سلسلة التوريد العالمية، والتعاون في القطاع البحري، ويمنح البضائع الهندية بوابةً حيوية للوصول إلى أسواق أفغانستان وآسيا الوسطى، وتوسيع تجارتها مع دول تلك المنطقة، عبر ممرّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب INSTC. إذ إنَّ تشابهار، وهو ميناء إيران الوحيد في المياه العميقة، جزءٌ من هذا المشروع، وهو مشروع نقْل متعدِّد الوسائط، يبلغ طوله 7200 كيلومتر (4473 ميلًا)؛ لنقل البضائع بين الهند وإيران وأفغانستان وأرمينيا وأذربيجان وروسيا وآسيا الوسطى وأوروبا. وبينما تمتلك دول آسيا الوسطى، خاصَّةً كازاخستان، موارد نفطية هائلة، فإنَّها أسواقٌ مُستهدَفة مهمَّة لحكومة نيودلهي. وهكذايمنح الاتفاق الهند نفوذًا مهمًّا في مقابل نفوذ الصين المتنامي في هذه المنطقة، وهذا أمرٌ حيويٌ لمستقبل الهند، إذ إنَّ قُدرة الهند على التحوُّل إلى قوَّة رائدة تعتمد جزئيًا على قُدرتها على التنافس مع النفوذ الصيني، لا سيّما بعدما أصبحت بكين مستثمرًا رئيسيًا في باكستان والخليج العربي ضمن مبادرة الحزام والطريق، التي ينظُر المسؤولون الهنود إليها باعتبارها محاولات؛ إمّا لتطويق بلادهم، أو تهميش مصالحها الاقتصادية.
2. تجاوُز الجوار الباكستاني للوصول إلى أسواق آسيا الوسطى: إنَّ الاتفاق يُعَدُّ بمثابة عنصر حاسم في إستراتيجية نيودلهي لتجاوُز باكستان؛ للوصول إلى أسواق آسيا الوسطى، وهي الأسواق التي حُرِمت منها لفترة طويلة بسبب منافستها باكستان، خصوصًا بعد أن أطلقت بكين مبادرة الحزام والطريق (BRI) وطوَّرت ميناء جوادر الباكستاني كجزء من الممرّ الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC). إذ وقَّعت بكين عقودًا تزيد قيمتها على 50 مليار دولار لتطوير البنية التحتية للنقل والطاقة في باكستان، كما أنَّها تخطِّط لربط خطوط السِكَك الحديدية الباكستانية بأفغانستان. وقد زادت الصين بشكل كبير من عبور البضائع من آسيا الوسطى إلى الغرب في السنوات القليلة الماضية، وبالمقارنة بالتجارة، التي تبلغ قيمتها مليار دولار بين الهند وآسيا الوسطى، تظهر إحصاءات الجمارك الصينية أنَّ حجم التجارة مع هذه الدول بلغ 90 مليار دولار في العام 2023م، وقد ارتفع حجم التجارة الصينية مع دول آسيا الوسطى بنسبة تزيد على 27% عمّا كان عليه في عام 2022م.
3. موازنة نفوذ الصين في إيران وافغانستان: بينما تنظُر الهند بارتياب إلى تنامي نفوذ بكين في أفغانستان على حساب الهند، واحتمال سيطرتها على موارد كابول من المعادن النادرة، التي كانت الهند تتطلَّع إلى الحصول على امتياز بشأن الوصول إليها، فإنَّها في الوقت نفسه تبدو حريصةً بشكلٍ خاص على ضمان عدم وقوع إيران في الفلك الصيني؛ وذلك لأنَّ الموانئ الإيرانية توفِّر للهند القُدرة على الوصول إلى الخليج العربي وآسيا الوسطى. لكن الصين سُرعان ما دخلت في شراكة إستراتيجية شاملة مدَّتها 25 عامًا مع إيران، وبدأت خط شحن مباشر إلى تشابهار، التي تضم ميناءين متميَّزين؛ الشهيد بهشتي والشهيد كالانتاري. وبما أنَّ استثمارات نيودلهي كانت مقتصرةً فقط على ميناء الشهيد بهشتي، فقد كانت هناك مساحة واسعة لبكين أيضًا. كذلك، فإنَّ نفوذ الصين المتزايد في إيران، والذي يتّسِم بالاستثمارات الكبيرة واتفاقيات التعاون الإستراتيجي، يضع تشابهار كأصل مُحتمَل في مبادرة الحزام والطريق الصينية ومصالحها الإستراتيجية الأوسع في المنطقة، خصوصًا بعد أن استطاعت الصين أن تحقِّق لإيران معادلةً إستراتيجية لإعادة علاقاتها مع المملكة؛ ما يعلي من قُدرة الصين للتأثير على إيران وكسْب مزيد من المصالح. وأخيرًا، يمنح الاتفاقُ الهند فُرصةً لجعل التجارة مع روسيا أكثر سلاسةً عبر إيران؛ لكن هذه المسألة تتطلَّب المزيد من التطوير للمشاريع الإيرانية اللوجستية، لا سيّما استكمال خطّي السكك الحديدية «تشابهار-زاهدان»، و«رشت-آستارا»، اللذين ظلّا في انتظار الاستثمار والتطوير، منذ عقدين من الزمن.
4. تعزيز مكانة إيران على خطوط التجارة الدولية وإنعاش اقتصادها المتدهور: يعزِّز الاتفاق من موقع إيران ونفوذها الدولي، ويقدِّم لها فُرصةً لتحقيق التوازن في التعاون، مع كُلٍّ من الصين والهند؛ الأمر الذي يخدم علاقاتها الدولية، وتقليل عُزلتها، وتعزيز مكانتها الاقتصادية والدبلوماسية، كذلك يصُبّ الاتفاق في مصلحة تطلُّعات إيران لتصبح ممرًّا ومركزَ ترانزيت مهم عالميًا، خلال السنوات القليلة المقبلة، وذلك باعتبار أن تشابهار، الذي يعد أكبر ميناء بحري في إيران، جزءٌ من ممر العبور بين الشمال والجنوب في جنوب شرق البلاد، وجسرٌ يصل التجارة الهندية بدول الشمال عبر إيران، كذلك بالنظر إلى اتفاقية الشراكة الإستراتيجية مع الصين التي تبلغ مدتها 25 عامًا، والتي بموجبها ستُصبح إيران جزءًا من مبادرة الحزام والطريق الصينية، إذ وفقًا لعدة بنود في هذه المسودة، يتعهَّد الصينيون بتطوير سواحل مكران وميناء جاسك، ناهيك عن لعب دور فعَّال في بناء المصافي والصناعات البتروكيماوية بهذا الميناء والقيام باستثمارات طويلة الأجل. فضلاً عن ذلك، ربما ترى الحكومة الإيرانية في تعاونها مع نظيرتها الهندية كفرصة ثمينة لتشغيل الميناء وعرقلة الممر التجاري بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، وتقديم خيارات بديلة وسط الأوضاع الدولية والإقليمية المتقلِّبة، والتي فرضت العراقيل أمام تجارة الدول وأنشطتها الاقتصادية.
تعوِّل إيران على الاستثمارات الهندية لإنعاش الاقتصاد الإيراني المتعثِّر، إذ لن يؤدِّى هذا الاتفاق إلى المساعدة في الحد من آثار العقوبات الغربية على إيران فحسب، بل سيخلق شراكةً إستراتيجيةً طويلةَ الأمد مع قُوى عالمية لها ثِقلها ووزنها، ويسهم في زيادة الدخل، من خلال عبور البضائع الأجنبية، كما سيضاعف من حركة التجارة عبر هذا الميناء، ويسهِّل من حصول إيران على احتياجاتها المتزايدة من أسواق شرق آسيا. إذ تضاعفت واردات إيران وصادراتها من هذا الميناء خلال السنوات الماضية، ووصلت إلى أكثر من 4 ملايين طن في العام 2023م، والذي كان له حصَّة تزيد عن 2% في إجمالي تفريغ وتحميل بضائع الواردات والصادرات في البلاد عام 2023م. كما يسهم الاتفاق في تعزيز القطاع البحري، الذي تولِّيه إيران أهمِّيةً خاصَّة، في إطار إستراتيجية بحرية واسعة لتعزيز علاقاتها على الصعيد الدولي، خصوصًا أنَّ الاستثمارات الهندية قد تدفع بمشروعات شراكة في مجال الشحن بين البلدين؛ من أجل تطوير حركة العبور في المنطقة، وهو أمرٌ سوف يساعد إيران في تعزيز صادراتها النفطية وغير النفطية إلى شرق آسيا بعيدًا عن العقوبات الأمريكية. وعلى الرغم من أنَّ مبلغ الاتفاقية بين طهران ونيودلهي لا يُعَدُّ كبيرًا، وليس بالقدر الكافي لتحقيق قفزة نوعية في تطوير الميناء، إلّا أنَّه يبقى خيارًا مناسبًا ومكسبًا مهمًّا بالنسبة لإيران، في ظل قلَّة الخيارات المطروحة أمامها لجذب الاستثمارات الأجنبية الخارجية.
5. تحييد حليف غربي عبر المصالح المشتركة: من خلال تعزيز العلاقة والمصالح مع الهند، ستكسب إيران حليفًا دوليًا مؤثِّرًا، وستصبح الهند أكثر براجماتية في تقييم علاقاتها مع إيران، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح حليفها الغربي الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الأمر الذي سيساعد إيران على التموضع، وكسْب مزيد من النقاط في مواجهة الولايات المتحدة، فضلًا عن احتمال عدم التزام الهند بسياسة الضغوط والعقوبات الأمريكية، وهو ما قد يعزِّز فُرَص إيران في الالتفاف على العقوبات، وإيجاد وجهة إضافية لصادرات النفط الإيراني.
ثالثًا: الاعتبارات الأمريكية وأثرها على الاتفاق
من المثير أنَّ هذا الاتفاق لم يلقَ قبولًا من جانب الولايات المتحدة، وذلك على الرغم من المصلحة المشتركة، التي قد ينطوي عليها هذا الاتفاق لكُلٍّ من الهند والولايات المتحدة، إذ حذَّرت واشنطن الشركات الهندية من خطر عقوبات تُفرَض عليها، إذا استثمرت في إيران. وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية فيدانت باتيل للصحافيين: «على كل كيان، أيًّا كان، معني بصفقات تجارية مع إيران، أن يكون على دراية بالمخاطر المُحتمَلة، التي يعرِّض نفسه لها، والمخاطر المُحتمَلة للعقوبات». لكن يبدو أنَّ الهند لديها ثقة من أنَّ الموقف الأمريكي لن يمنع خطوات الهند في استكمال المشروع؛ لأنَّه يحقِّق مصلحةً أكبر للبلدين من مجرَّد متابعة العقوبات على إيران. وهذا ما أشار إليه وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جيشانكار، بقوله: «إذا نظرت إلى موقف الولايات المتحدة تجاه تشابهار في الماضي، فقد كانت الولايات المتحدة تقدِّر حقيقةً أنَّ تشابهار له أهمِّية أكبر. لذا، سنعمل على ذلك».
وقد أثار هذا الجدل التساؤلات حول مدى تأثيره على تنفيذ الاتفاقية في المستقبل، لا سيّما أنَّ واشنطن سبق أن ضغطت على الهند؛ من أجل إيقاف وارداتها من النفط الإيراني بعد الانسحاب من الاتفاق النووي، كما سبق لها أن عطَّلت اتفاق عام 2016م لتطوير ميناء تشابهار، على الرغم من الاستثناء الأمريكي الممنوح للهند. لكن في الحقيقة تظل فاعلية هذا الاتفاق مرتبطةً بمصالح متقاطعة، قد تجعل من تنفيذه أمرًا محتملًا، بصرف النظر عن علاقة الولايات المتحدة بإيران، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى فُرَص وتحدِّيات الاتفاق على النحو الآتي:
1. الفُرَص في ظل الأولويات الأمريكية في مواجهة الصين ونهْج الهند المستقِلّ: تحتاج الولايات المتحدة إلى الهند؛ من أجل تحقيق هزيمة إقليمية بالصين وحصارها جغرافيًا، وقطْع الطريق على مشروعاتها الرائدة كمبادرة الحزام والطريق وطريق الحرير، الذي ترمي من ورائه الصين إلى تعزيز مكانتها الدولية. وتكتسب استثمارات الهند في ميناء تشابهار، بغضّ النظر عن علاقة الولايات المتحدة المتوتِّرة مع إيران أهمِّية خاصَّة، حيث سيعزِّز من سياسة احتواء قوَّة الصين، ويساعد في مواجهة المصالح التجارية الصينية، ليس في آسيا الوسطى وحسب، بل في منطقة المحيط الهندي وصولًا إلى الشرق الأوسط وأفريقيا. إذ على ما يبدو أنَّ هناك توجُّه أمريكي لوضع الهند كنقطة انطلاق لسلاسل الإمداد العالمي، بدلًا عن الصين، وهو أيضًا ما ظهر في الإعلان عن الممرّ الاقتصادي الهند الشرق الأوسط أوروبا، كما أنَّ الهند مفيدة للتحالف الرباعي، الذي تقوده واشنطن في بحر الصين الجنوبي وشرق آسيا وصولا إلى الإندوباسيفيك؛ فالهند كقوَّة مؤثِّرة بإمكانياتها الاستخباراتية وانتشارها البحري ووزنها الإقليمي تخلق توازنًا لهذا التحالف؛ وهو ما يعنى أنَّ الهند قوَّة لا غنى عنها في مواجهة الصين، وتعزيز المصالح الأمريكية على الصعيدين الإقليمي والعالمي، حيث لا يمكنها المخاطرة بإغضابها بالعقوبات. ورُبَّما هذا ما يجعل واشنطن مستعِدَّةً لقبول سياسة نيودلهي الخارجية المستقِلَّة، حتى لو كانت معاكِسةً لسياسة واشطن، بما في ذلك علاقتها بروسيا وموقفها من الحرب والعقوبات، وكذلك موقفها من إيران ومن ميناء تشابهار. في المقابل، لدى الهند حساباتها الخاصَّة تجاه بكين، باعتبارها منافسًا إقليميًا؛ ولهذا يعتبر هذا الميناء ذو أهمِّية إستراتيجية خاصَّة للهند؛ لأنَّه سيكون موازنًا لطريق الحرير، الذي يمُرّ عبر ميناء جوادر على شواطئ باكستان الجنوبية انطلاقًا نحو آسيا الوسطى ووصولًا إلى دول روسيا ودول الشمال، ورُبَّما يسهم في تقليص نفوذ الصين الاقتصادي.
كذلك يعزِّز من فُرَص الاتفاق، أنَّ لدى الهند خطّها الخاص غير الملتزم بالضرورة بسياسة واشنطن على الساحة العالمية، حيث لديها رصيدها التاريخي في عدم الانحياز، بل إنَّ لها تطلُّعات لمراجعة النظام الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، وأن تحصل على مقعد على طاولة القُوى العظمى. كما أنَّ لدى الهند تحالفاتها ضمن منظَّمات يُنظَر لها في الغرب على أنَّها معادية، كـ «بريكس» و«شنغهاي»، وكان لها موقف غير منسجم من الغرب والولايات المتحدة فيما يتعلَّق بالعلاقة مع روسيا بعد الحرب على أوكرانيا، فضلًا عن أنَّها الوجهة الأولى للصادرات العسكرية الروسية، ومستَقبِلٌ رئيسي للنفط الروسي في ظل العقوبات. ناهيك عن تطلُّعاتها الخاصَّة لتلبية احتياجاتها كواحدة من دول الجنوب العالمي ومن كُبريات القوى العالمية جغرافيًا وديمغرافيًا. وبالتالي، فإنَّها قد تنظُر إلى الاتفاق من هذا المنظور. لا شكّ لدى الهند تخوُّفاتها من عدم توافُق مصالحها مع الولايات المتحدة؛ فالهند على سبيل المثال تشعر بقلق كبير من الاتصالات الأمريكية الأخيرة مع باكستان، التي تعتبرُها الهند دولةً معادية، كما ينتاب نيودلهي قلقٌ من الشراكة طويلة الأمد مع واشنطن بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دون تنسيق، والذي تسبَّب في عكْس نفوذ الهند في أفغانستان، وذلك لصالح نفوذ الصين المتنامي، والذي يقطع الطريق على الوصول إلى المعادن النادرة التي يتمتَّع بها هذا البلد. وأخيرًا، تخشى الهند من تقلُّبات السياسة الداخلية الأمريكية، والتي قد تتغيَّر تجاه الهند في المستقبل؛ نتيجة حسابات الرؤساء الأمريكيين ونزعتهم الخارجية المتغيِّرة.
2. التحدِّيات في ظل العقوبات الأمريكية وضعف البنية التحتية لإيران: لا يمكن تجاهُل وجود تحدِّيات أساسية قد تعرقل المشروع، إذ على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة أعفت ميناء تشابهار من العقوبات، إلّا أنَّ بقاء إيران في القائمة السوداء لمجموعة العمل المالي (FATF)، وحظْر وصولها إلى نظام «سويفت» المالي يشكل تحدِّيًا كبيرًا أمام تطوير الميناء وتوسيعه. فإيران في ظل العقوبات، قد لا تستطيع الوصول إلى الموارد المالية من الهند، كما قد لا تستطيع تصدير النفط إلى الهند لتسوية ديونها، حيث شكَّلت وارداتها من الهند العام 2023م ما يقرُب من ثُلث صادراتها إلى نيودلهي. بعبارة أخرى، يبلغ الميزان التجاري غير النفطي بين البلدين نحو مليار دولار لصالح الهند. إضافةً إلى ذلك، هناك العديد من المشكلات والتحدِّيات اللوجستية التي تواجه تطوير الميناء، إذ إنَّه يقع في منطقة تعاني من اضطرابات ومواجهات مسلَّحة مع الجماعات الانفصالية البلوشية، إضافةً إلى المشكلات المرتبطة بتطوير مشروع سكّة حديد «تشابهار-زاهدان»، وتواضُع حجم البضائع المنقولة عبر هذه الوسيلة، التي تُعَدُّ الأهم بالنسبة للنقل البرِّي في العالم. هذا بالإضافة إلى الصعوبات، التي تواجه نقل البضاعة من الهند إلى أفغانستان ودول آسيا الوسطى، والتي تضاعف من التكاليف والوقت اللازم لنقل البضائع؛ الأمر الذي يزيد من عبئها على هذه الدول، إذ إنَّ إيران تمتلك أسوأ مؤشِّر للكفاءة اللوجستية في المنطقة.
خلاصة
يُعتبَر توقيع اتفاقية تشابهار الجديدة بين الهند وإيران، نقطة تحوُّل في التعاون التجاري والاقتصادي الثنائي والإقليمي بين البلدين، فضلًا عن تسهيل التعاون الإستراتيجي بينهما. ولا شكّ أنَّ المشروع سيكون نقطة انطلاق مهمَّة لتعزيز نفوذ الهند في وسط آسيا، وهذا سوف يثير منافستها الصين ومعها باكستان، ولعلَّ ما قد يمنح هذه الاتفاقية زخمًا، أنَّها تعكس توجُّهًا مستقِلًّا للهند، وفي الوقت نفسه تصُبّ في صالح الولايات المتحدة، التي تحشد كلَّ إمكانياتها من أجل احتواء الصين، وضمن ذلك إضعاف وتهميش مبادرات الاتصال الدولي التي تتبناها الصين عبر باكستان إلى آسيا الوسطى ومن ثمَّ روسيا ودول أوروبا، وذلك لصالح مبادرات أخرى تنطلق من الهند وتمُرّ عبر إيران وآسيا الوسطى نحو أوروبا.
ومع أنَّ وجود إيران في هذا الاتفاق قد يمثِّل هاجسًا بالنسبة للولايات المتحدة، لكنَّ أولويةَ واشنطن في إضعاف بكين قد تجعلها تتغاضى عمَّا قد تحقِّقه إيران من مكتسبات، وهذا لا شكّ سوف يُفيد إيران بصورة كبيرة، ويعزِّز من قبضة النظام داخليًا، كما يعزِّز من نفوذه خارجيًا، ويمنحهُ متنفَّسًا في وقتٍ يعاني فيه من تحدِّيات في العديد من القضايا، بما في ذلك سلوكه المزعزع للاستقرار الإقليمي، وسياسته المتعلِّقة بالملف النووي، الذي يتابعه، وخطَطه من أجل خلْق شبكة تستهدف إضعاف تأثير العقوبات الأمريكية. وهُنا تبرُز تساؤلات عن إمكانية سماح واشنطن لمشاريع مماثلة لدولٍ أخرى للتعامل مع إيران، أم أنَّ هذا استثناءٌ وحيدٌ للهند لخدمة مصالح إستراتيجية؟!