الولايات المتحدة وتحديات إنشاء تحالف دفاعي متكامل في الشرق الأوسط

https://rasanah-iiis.org/?p=35102

كان الرهان الإيراني، أنَّ عملية «طوفان الأقصى» سوف تُوقِف التحالفات السياسية والاقتصادية الناشئة، التي تقودها الولايات المتحدة، وسوف تقطع الطريق على أيّ تطوُّرات من شأنها أن تُلحِق الضرر بمصالح إيران والجماعات التابِعة لها في المنطقة. لكن يبدو أنَّ الولايات المتحدة تحاول عكس المسار، من خلال توظيف التطوُّرات المتسارِعة؛ من أجل تدشين شرق أوسطٍ جديد أقرب إلى توجُّهات واشنطن. شرقٌ أوسطٌ جديد تستعيدُ فيه الولايات المتحدة زمام المبادرة في المنطقة، وتُعيد تشكيله بما يخدم أهدافها الدولية والإقليمية، ويقطع الطريق على مكتسبات طهران، بعد توقيع اتفاق عودة العلاقات مع السعودية، وكذلك حرمان الصين من كسْب مزيدٍ من النفوذ بعد وساطتها الناجحة في خروج هذا الاتفاق إلى النور. ولعلَّ أبرز ما ظهر في إطار خِطَط واشنطن، هو الحديث حول ما بدا أنَّه تحالُف أمني إقليمي واسع قادته الولايات المتحدة مع شُركاء في «الناتو»، فضلًا عن دول عربية إضافةً إلى إسرائيل؛ وذلك من أجل التصدِّي للهجمات الإيرانية على إسرائيل في 13 أبريل 2024م. ومع أهمِّية ما جرى، وما يمكن اعتباره عمليةً مُنسَّقة لم تكُن لتحدُث بين عشية وضحاها، إذ سبقتها مشاورات ومحادثات وإجراءات وجهود عملياتية مشتركة، غير أنَّ واشنطن استغلَّت مراوغةَ إيران وتهديداتها، وعدم قُدرتها على تبديد مخاوف دول المنطقة؛ من أجل الدفع بتحالف أمني جديد. ومع كل ذلك، فإنَّ تسويقَ ما حدَث على أنَّه تحالُف ناشئ مسألةٌ لا تزال سابقةً لأوانها؛ لأنَّ الشروع في صيغة هذا التحالف، وطبيعته وأطرافه وأهدافه لا تزال محل تحفُّظٍ من جانب الأطراف المعنية، برغم أنَّ المملكة ودول الخليج دائمًا ما تدعم وترحّب بأي جهود للتهدئة لخدمة مصالحها المتمثّلة في منطقة يسودها الأمن وتتّجه نحو التنمية والاستقرار، فما هي الدوافع الأمريكية من وراء إنشاء هذا التحالف، وأيّ صيغة مُحتمَلة له بعد الهجمات الإيرانية، وما هي التحدِّيات المستقبلية أمامَ اعتماده كهيكلٍ متكامل للأمن الإقليمي؟

أولًا: الخلفية والدوافع الأمريكية لتشكيل تحالُف أمني إقليمي

خلال السنوات الماضية، بذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة من أجل أن تُنشئ آلية للأمن الإقليمي؛ لكي تكون بديلةً عن مظلَّة الحماية الأمريكية، التي تراجع تأثيرها، بعد قرار واشنطن الانسحاب من المنطقة، وتركيز جهودها لمواجهة المخاطر في جنوب شرق آسيا. لقد ناقشت واشنطن مع دول المنطقة خلال فترة دونالد ترامب هذه المسألة، وجرى النقاش حول «ناتو عربي»، وتواصل النقاش خلال فترة جو بايدن، وكان ضمن أهداف واشنطن أن تدمج إسرائيل في هذا الحلف، بعد أن يكتمل مسار التطبيع مع دول الخليج. ولا ينفكّ هذا التحالف عن جُملة من التطوُّرات، حاولت من خلاله واشنطن تعويضَ غيابها وحضورها السابق، بما في ذلك النقاش حول نظام دفاعي أمني متكامل للتصدِّي لإيران، واجتماعات منتدى النقب، والاتفاقية الدفاعية مع البحرين، ومشروع الهند-الشرق الأوسط-أوروبا ذو الطابع الاقتصادي، وكذلك التحالف الرباعي بين إسرائيل والأردن والإمارات والهند، وغيرها من المبادرات، التي اختبرت من خلالها واشنطن إمكانية احتواء آثار انسحابها وتخلِّيها عن حُلفائها.

على الرغم من تعدُّد المبادرات، واجهت واشنطن صعوبات في إنشاء أيّ تحالُف أمني بديل ينهضُ بمهام الأمن الإقليمي، ويضمن مصالح واشنطن ونفوذها. لكن عكست التطوُّرات سياسةَ واشنطن، وأثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنَّه لا بديل لواشنطن عن إعادة تقييم مسألة انسحابها من المنطقة، وأنَّ قيادة تحالُف أمني هي ضرورة مُلِحَّة في حال أرادت واشنطن أن تحتفظ بنفوذها الإقليمي، وتضمن تدفُّق مصالحها بصورة مُستدامة. من بين هذه العوامل، الحرب الروسية على أوكرانيا؛ وهي الحرب التي كشفت عن أنَّ الشرق الأوسط لا يزال يحتفظ بثِقَلٍ خاص في النظام الدولي، ولا يزال يحتفظ بأهمِّيته الإستراتيجية ومكانته الاقتصادية، التي لا غِنى عنها لواشنطن، خصوصًا أنَّ غياب واشنطن يعنى حضورَ الصين وروسيا، وهي مسألة حسّاسة للولايات المتحدة في إطار التنافس الدولي الراهن. عاملٌ آخر مهم، وهو الاتفاق السعودي-الإيراني برعاية الصين؛ إذ إنَّ هذا الاتفاق يمثّل رغبة سعودية في تخفيض حدة التصعيد في المنطقة وتوزيع دائرة حلفائها، وقد حمَلَ في طيّاته تغييرات مهمَّة تؤثِّر سلبًا على مقاربة واشنطن الإقليمية، لا سيّما التعامل مع تهديدات إيران، فضلًا عن أنَّه فتَحَ الأُفُق للصين لِلَعِب دور دبلوماسي وسياسي يخصم من نفوذ الولايات المتحدة. أمّا العامل الثالث، فكان الحرب الإسرائيلية على غزة؛ وهي الحرب التي كشفت لواشنطن أنَّ حليفتها إسرائيل تواجهُ تحدِّيًا وجوديًا، وأنَّ خِطَطها بشأن توسيع اتفاقيات إبراهام تواجهُ تحدِّيات جسيمة، بعدما كانت على وشك أخْذ دُفعة مهمَّة تخدم بايدن في انتخاباته، وتغيِّر المنطقة ككُلّ، كما أنَّ ممرّ الهند-الشرق الأوسط-أوروبا، الذي يُعتبَر طريقًا منافسًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية يواجهُ تهديدًا حقيقيًا، في ظل هذا التوازن.

وفقًا لذلك، يمكن القول إنَّ رغبة الولايات المتحدة في إنشاء تحالُف أمني إقليمي أصبحَ مسألةً حيوية أكثر من أيّ وقتٍ مضى، وذلك مشفوعًا بعدَّة اعتبارات، أهمَّها ما يأتي:

1. قطْع الطريق على نفوذ الصين وروسيا المتنامي في الشرق الأوسط: تبدو أهمِّية التحالف الأمني، الذي ترغب واشنطن في تدشينه في أنَّه يقطع الطريق على القُوى المنافسة للولايات المتحدة، لا سيّما الصين وروسيا من لَعِب دور أكثر اتّساعًا في الشرق الأوسط، وملء الفراغ، الذي تركته الولايات المتحدة خلفها، كما يحول دون اتّجاه هاتين الدولتين إلى تطوير شركاتهما الأمنية والعسكرية مع دول المنطقة، والتي تنامت بصورة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة، في ظل تراجُع مظلَّة الحماية الأمريكية.

2. إعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في الشرق الأوسط: تهدُف الولايات المتحدة من وراء إنشاء تحالُف أمني متكامل في المنطقة، إلى إعادة صياغة العلاقات الإقليمية من جديد، إذ إنَّه يُعيد تشكيل التوازنات الإستراتيجية في المنطقة لصالح نفوذها الإقليمي والعالمي. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هذا التحالف هو ضمن سلسلة من الإجراءات، التي تعمل عليها واشنطن، من أجل دمْج إسرائيل في تحالُف يضُمّ عددًا من دول المنطقة.

3. توفير مظلَّة حماية أمنية تُرضي دول المنطقة وتُلبِّي تطلُّعات واشنطن في إعادة الانتشار: بعد حالة الانزعاج، التي أبدتها دول المنطقة من سلوك الولايات المتحدة، بما في ذلك ردّ فعلها السلبي تجاه الهجمات الإيرانية على المنشآت النفطية في السعودية، خسِرَت الولايات المتحدة نفوذها القديم لدى دول الخليج، وظهر أنَّ سياساتها قد تدفع بتحوُّلات تخسر على إثرها نفوذها الإقليمي ككُلّ؛ وبالتالي، راجعت واشنطن موقفها، وبدا أنَّها حريصة على تقديم آلية أمنية فعّالة، تلبِّي من خلالها تطلُّعات دول المنطقة، التي أزعجها الانسحاب الأمريكي والتخلِّي عن مسؤولياتها الأمنية تجاه حلفائها، ومن ثمَّ فتْح المجال لإعادة صياغة العلاقات، وخلْق أُطُر جديدة للتعاون، فضلًا عن ضمِّ الحُلفاء الإقليميين إلى تحالُفات واشنطن الواسعة على الصعيد الدولي، ومواجهة نزعة الاستقلالية الإقليمية المتزايدة.

4. وضْع حدّ لتهديدات إيران وجهودها المُنسَّقة مع أذرُعها الإقليمية: كذلك يقطع التحالف الأمني المتكامل الطريق على نفوذ إيران الإقليمي المتنامي، ويسِدّ الفجوة، التي خلقها الاتفاق السعودي-الإيراني في السياسة المُنسَّقة بين واشنطن ودول الخليج باتّجاه إيران، ويمنح واشنطن فُرَصةً من أجل استعادة الضغوط على إيران، بما يدفعها لتعديل سياساتها. كما أنَّ التحالف الواسع يوفِّر لواشنطن آليةً فعّالة لمواجهة جهود إيران المُنسَّقة في أكثر من ساحة، بالتعاون مع جماعاتها الوكيلة في المنطقة تحت مسمَّى إستراتيجية وحدة الساحات، والتي تستهدف مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها.

5. ضمان تدفُّق المصالح الاقتصادية للولايات المتحدة من الشرق للغرب عبر الشرق الأوسط: إنَّ هذا التحالف يضمن بيئةً أمنيةً مواتية لنجاح رؤية الولايات المتحدة لتدفُّق المصالح الاقتصادية من الشرق إلى الغرب، أي يضمن نجاح مشروع طريق الهند-الشرق الأوسط-أوروبا، وهو المشروع الذي تضعه واشنطن كطريق منافس أو بالأحرى طريق بديل لمشروع الحزام والطريق الصيني، ونهْج جديد لصياغة العلاقات الاقتصادية على الصعيد الدولي، والتحالف الأمني إلى جانب التحالف الاقتصادي، هو مبادرة لجذب دول المنطقة إلى صفّ الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، وإبعادهم عن الانخراط في المبادرات البديلة المطروحة من الصين.

ثانيًا: الهجمات الإيرانية وفُرصة صياغة تحالُف أمني متكامل

قَبل الهجمات الإيرانية على إسرائيل، لم يكُن هناك أيّ هيكل أمني إقليمي مُعلَن، رُبَّما كان هناك تنسيق في بعض المجالات الدفاعية، بالتوازي مع مباحثات تجريها واشنطن؛ من أجل إيجاد صيغة متكاملة لحماية المنطقة من التهديدات، والحيلولة دون انزلاقها نحو الفوضى. لكن كان من المُنتظَر أن يتِم الإعلان عن ذلك، في إطار ترتيبات أخرى بالتوازي مع هذا المسار الأمني، تتعلَّق بالأساس بتطوير اتفاقيات إبراهام، والمشروع الاقتصادي «الهند-الشرق الأوسط-أوروبا»، والذي يمُرّ بدول المنطقة وإسرائيل، فضلًا عن تلبية الولايات المتحدة لشروط السعودية في هذا الإطار، وفي مقدِّمتها اتفاقية دفاع مشترك تنقل العلاقات الأمنية بين البلدين إلى مستوى رفيع، هذا ناهيك عن إيجاد صيغة لمعالجة القضية الفلسطينية بصورة نهائية.

لكن دفَعَ التصدِّي الأمريكي للهجمات الإيرانية، من خلال عملية مُنَسَّقة شمِلَت حُلفاءها الأوروبيين وبعض دول المنطقة إضافةً إلى إسرائيل، التي كانت تستهدفها الهجمات الإيرانية، إلى تكهُّن البعض بأنَّ هذه العملية هي اختبار تجريبي للصيغة الأمنية، أو التحالف الأمني، الذي تبتغي واشنطن تدشينهُ في المنطقة، ليكون الصيغةَ الجديدة في إطار مشروع الشرق الأوسط الجديد.

والحقيقة أنَّه على مدار قُرابة سبعة شهور لم تنجح واشنطن، التي تواجه صراعًا متعدِّدَ المستويات من جانب إيران وميليشياتها في أن تجذب دولَ المنطقة إلى جانبها في هذه المواجهة، التي كان لديها تحفُّظ على موقف الولايات المتحدة من الحرب الجارية على قطاع غزة، ولديها موقف أكثر تحفُّظًا على نهْج إسرائيل في هذه الحرب وتجاوزها لكافَّة القواعد والمواثيق الدولية، حتى أن دول الخليج نأت عن المشاركة في عملية حارس الازدهار، التي قادتها واشنطن من أجل حماية الملاحة في البحر الأحمر من تهديدات الحوثيين. لكن يبدو أنَّ دخول إيران على خط المواجهة كان عاملًا حاسمًا في تغيير الوضع، إذ منَحَ هذا التدخُّل واشنطن فُرَصةً لاختبار مقاربتها الأمنية في المنطقة، كما تغيَّرت مواقف بعض الدول، باعتبار هجمات إيران قد تعدَّت على سيادتها، فضلًا عن أنَّها تنشرُ الفوضى وعدم الاستقرار، وتضُرُّ بالقضية الفلسطينية ذاتها وتصرِف النظرَ عنها.

وبعدما نجحت الولايات المتحدة في أن تقود تحالُفًا أوروبيًا-شرقَ أوسطي للتصدِّي للهجمات الإيرانية على إسرائيل، حتى إنَّه تمَّ إسقاط 99% من هذه الهجمات خارج حدود إسرائيل، فقد شجَّع ذلك الحديث عن تحوُّل مهم باتّجاه تشكيل تحاُلف أمني موسَّع وغير مسبوق في الشرق الأوسط، لا سيّما أنَّ هذا التحالف أظهر كفاءته في صدّ هذه الهجمات، ووضَعَ إسرائيل إلى جانب دول عربية أخرى في تحالُف دفاعي لأول مرَّة بصورة علنية، وهو ما طرَحَ تكهُّنات حول إمكانية تشكيل تحالُف أمني جديد في الشرق الأوسط، على غرارِ حِلف الناتو.

على الرغم من فاعلية ما بدا أنَّه تحالُف دفاعي، لكن حتى الآن لم يُعلَن عن وجود هذا التحالف رسميًا، رُبَّما لأنَّه يسبق تطوُّرات واستحقاقات مهمَّة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن يمكن التمييز بين ما هو مطروح من صِيَغ أمنية، وما هو قائم بالفعل، إذ يبدو أنَّ المشهد ينطوي على ثلاثة مستويات أمنية، أو ثلاث صِيَغ أمنية، سيكون للنهاية التي ستصِل إليها حرب إسرائيل على غزة دورٌ مهم في الدفع بأيٍّ منها إلى الواجهة، وهذه الصِيَغ هي كالآتي:

1. مُقترَح هيكل دفاعي أمني متكامل: وقد تحدَّث عنه قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكينزي، في جولته بالمنطقة في فبراير 2022م، وهو رغبة إسرائيلية قبل أن تكون رغبة أمريكية. وهذا الهيكل من المُحتمَل أن يأتي في إطار توافقات وتسويات سياسية أوسع، ومن المُحتمَل أن يضُمّ عددًا من دول المنطقة، وفي مقدِّمتها دول الخليج وإسرائيل. وقد يكون على غرار «الناتو» في أوروبا، وهو سيرى النور إذ ما تُوِّجت الجهود الراهنة التي تبذلها الولايات المتحدة ودول الخليج بإنهاء الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، والوصول إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وتلبية مطالب دول الخليج فيما يتعلَّق باتفاقيات دفاعية ثنائية ذات طابع إستراتيجي، وحماية مُستدامة من تقلُّبات السياسة الأمريكية وإملاءاتها، ووجود صيغة جديدة يُراعي فيها تغيُّرَ وضْع ومكانة دول الخليج في ميزان القوُى الإقليمي والدولي.

2. هيكل أمني متعدِّد المستويات تنسِّقه الولايات المتحدة: وهذا الهيكل سيكون بين عدَّة أطراف، رُبَّما لا تتشارك المصالح والتهديدات ذاتها، بل بينها تبايُنات ومواقف متعارِضة، لكن مصالحها تتقاطع مع واشنطن في عدد من الملفات. ومن ثمَّ ستقوم الولايات المتحدة بدور المنسِّق بين هذه الجهات؛ من أجل حماية الأمن الإقليمي، وتمرير المصالح الاقتصادية عبر الحدود، وذلك في مواجهة التهديدات، على غرار ما تمَّ من استجابة للهجمات الإيرانية الأخيرة. وسيكون هذا التحالف انعكاسًا للخلل في التوازنات الإقليمية والمصالح المتضارِبة، إذ لا يزال من الصعب دمْج إسرائيل في هياكل أمنية مع دول الخليج، لا سيّما السعودية، في ظل سياسات إسرائيل المتشدِّدة، ونهجها المتعجرف، وتجاوزاتها بحقّ الفلسطينيين، ورفضها المستمِرّ لكُلِّ المبادرات بما في ذلك المبادرة العربية. كما أنَّه سيكون استجابةً لعدم الرغبة الخليجية في الانضمام إلى تحالُفات تقود المنطقة إلى حربٍ باردة إقليمية مع إيران، أو الدخول في مواجهة معها نيابةً عن الولايات المتحدة وإسرائيل.

3. الشراكات الأمنية الثنائية مع الولايات المتحدة: وهي عبارة عن إحياء للشراكات الأمريكية والتحالفات الإستراتيجية مع عدد من دول المنطقة، والتي رُبَّما تلجأ الولايات المتحدة إلى تطويرها كشراكات ثنائية أعمق، وقد تصِل إلى توقيع اتفاقيات دفاع مشترك مع دول كالسعودية والإمارات، وهو ما يعني عودةً لمظلَّة الحماية الأمريكية، لكنّها صيغة جديدة تأخُذ بالاعتبار المنافسة الجيوسياسية المتزايدة في المنطقة من جانب القُوى الدولية والإقليمية، وتلبِّي تطلُّعات دول الخليج غير الراضية عن تقلُّبات السياسة الأمريكية وازدواجيتها.

ثالثًا: التحدِّيات وحدود الفاعلية

يتعزَّز اتجاه تدشين التحالفات الأمنية، بالنظر إلى حالة الفوضى الإقليمية الراهنة، والتي تضع عراقيل أمام خِطَط دول المنطقة الاقتصادية، خصوصًا ما يتعلَّق بالهجمات التي تستهدف حركة الملاحة عبر مضيقي هرمز ومضيق باب المندب، فضلًا عن الخطر الذي تمثِّله إيران بعدما تبيَّن أنَّها غير مستعِدَّة لتغييرات جوهرية على سلوكها الإقليمي، وكذلك ترغب الولايات المتحدة في أن توظِّف الظروف الراهنة؛ من أجل إحداث نقلة نوعية في العلاقات بين دول المنطقة، وذلك من خلال تدشين تحالُف أمني واسع، قد يضُمّ إسرائيل في المستقبل، في حال تمَّ تطبيع علاقاتها مع السعودية، وذلك بعد الوصول إلى صيغة مرضية لمعالجة القضية الفلسطينية. والأهمّ من ذلك أن هناك رغبة في إدراج الشرق الأوسط ضمن الخِطَط الجيواقتصادية للولايات المتحدة على الصعيد الدولي، والتي تستهدف دمْج وربْط حلفائها ضمن منظومة تخدم هيمنتها الدولية، وفي الوقت نفسه ثنيُ دول المنطقة عن السير في طريق الاندماج في ممرّات ومشروعات وتكتُّلات بديلة تُضعِف النفوذ العالمي لواشنطن، وتحِدّ من هيمنة الدولار، على غرار الانخراط في مبادرة الحزام والطريق، أو الانضمام إلى منظَّمتي بريكس وشنغهاي، باعتبارها مبادرات وتكتُّلات تخصمُ من نفوذ الولايات المتحدة دوليًا.

لكن رُبَّما تكون العقبة الأساسية في تشكيل تحالُف أمني متكامل، وفق أيٍّ من الصِيَغ المتوقَّعة، هو تبايُن سقْف التطلُّعات لدى أطرافه؛ وهو ما يمكن توضيحه فيما يأتي:

1. تبايُن المواقف الأمريكية-الخليجية بشأن نفوذ الصين وروسيا: فواشنطن لديها رغبة في صيغة تُعيد من خلالها هندسة نفوذها الإقليمي، وقطْع الطريق على نفوذ كُلٍّ من الصين وروسيا، لكن دول المنطقة تربطها شراكة إستراتيجية مع بكين، وعلاقات متنامية مع روسيا. وهذه الدول ترغب في أن تبقى علاقاتها متوازِنة، وفي موقعٍ بعيد عن الاستقطاب الراهن على الساحة الدولية، وذلك ضمن إستراتيجية تستهدف تنويع الشراكات، والاحتفاظ باستقلالية القرارات الخارجية، وعدم رهْن مصالحها وسياستها لأيّ قُوى خارجية. كما أنَّ هذه الدول ترى في التوازن الدولي الراهن فُرصةً للتحرُّر من الإملاءات والخضوع للضغوط، وورقةً مهمَّة لتعزيز المصالح والمكتسبات.

2. تعقيدات العلاقة مع إيران: وضَعَ الاتفاق السعودي-الإيراني في مارس 2023م حدًّا للخلافات السعودية-الإيرانية، والإيرانية-العربية بشكلٍ عام، وقد حقَّق هذا الاتفاق مكتسبات فيما يتعلَّق بتهدئة التوتُّرات، وعلى الرغم من أنَّه لم يحقِّق كاملَ المرجو من ورائه؛ بسبب سلوك إيران المدفوع أيديولوجيًا، والحظر الاقتصادي المفروض على إيران، غير أنَّ هذا الاتفاق لا يزال يمثِّل ركيزةً مهمَّة للأمن والاستقرار الإقليمي، بالنسبة لأطرافه. وبينما تُصِرّ الولايات المتحدة على أنَّ صيغتها الأمنية في المنطقة ترتكز بالأساس على مواجهة إيران، فإنَّ وجهة نظر دول المنطقة لا تتطابق مع وجهة نظر واشنطن بالكلِّية؛ وبالتالي تنأى بنفسها عن هذه المواجهة، كما لا ترى دول هذه المنطقة ضرورة في أن تكون طرفًا إلى جانب إسرائيل في مواجهة إيران. وهو ما اتّضح بجلاء، عندما رفضت بعض دول الخليج المشاركة في التصدِّي للهجمات الإيرانية على إسرائيل، ومن قبل رفْض المشاركة في عملية «حارس الازدهار» في البحر الأحمر.

3. أولوية الاستقرار لدى دول المنطقة: تنشد دول المنطقة تحقيق الأمن والاستقرار؛ وذلك من أجل توفير بيئة مواتية لدفع عجلة التنمية، وتحقيق المشروعات الطموحة، ولا شك أنَّ خلْق تحالُفات أمنية قد يجُرّ المنطقة نحو الاستقطاب والمواجهة من جديد، ويستنزف الموارد في الإنفاق الدفاعي بدلًا عن مشروعات التنمية، وهو تصوُّر بعيد عن توجُّهات صُنّاع القرار في دول المنطقة في المرحلة الراهنة. ومن جهة أخرى، لا يمكن جمْع مصالح القُوى الإقليمية، بما في ذلك مصالح دول مجلس التعاون الخليجي في سلَّة واحدة، فمواقف هذه القُوى متباينة بشأن العديد من القضايا والصراعات الإقليمية، وفيما يتعلَّق بالعلاقة مع القُوى المنافسة كإسرائيل وإيران وتركيا، ويبدو من الصعب أن تجمع صيغة أمنية مصالحَ هذه الأطراف معًا، وقد اختبرت المنطقة على مدى عقودٍ العديدَ من الصِيَغ لكنَّها لم تنجح، هذا ناهيك عن أنَّ بعض هذه الدول لديها خلافاتها البينية.

4. معضلة دمْج إسرائيل: إنَّ أيّ تحالُف يضُمّ إسرائيل في المنطقة سيكون تحالفًا هشًّا، لا سيّما إذا تمادت في تعمُّد تصفية القضية الفلسطينية، ولم تستجِب للضغوط الإقليمية والدولية للوصول إلى تسوية عاِدلة وشامِلة للقضية الفلسطينية. كما أنَّ أيّ نزاع مُحتمَل مع إسرائيل في المنطقة، على غرار ما يجري من الحرب على غزة، سيحِدّ من فاعلية هذا التحالف، وسيضع بعض دوله أمام تحدِّيات جسيمة، بما في ذلك وضعها الداخلي. وأيضًا، فإنَّ التورُّط في مواجهة مشتركة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل ضدّ إيران، أو حتى بدون مشاركة، سيجعل بعض دول المنطقة هدفًا للهجمات الإيرانية. وليس هناك ضمان بأن ردّ الفعل الأمريكي والغربي سيكون على غرار ما تمَّ في 13 أبريل 2024م، عندما هاجمت إيران إسرائيل، وهذا رُبَّما يجعل من صيغة هيكل أمني متكامل بمشاركة إسرائيل مسألةً تنطوي على كثير من التحدِّيات، وقليل من المكتسبات.

خلاصة

على الرغم من أنَّ واشنطن حريصة على إيجاد صيغة أمنية تطمئن من خلالها حُلفاءها الخليجيين، وتستعيدُ عن طريقها نفوذها الإقليمي، وتخلُق آليةً بديلةً ومظلَّةَ حماية لدعم الأمن والاستقرار الإقليمي، فضلًا عن توفير الردع في مواجهة إيران، إضافةً إلى وضْع حدٍّ لنفوذ إيران والصين وروسيا، بما في ذلك وضْع عراقيل أمام مشروع الحزام والطريق، الذي يمُرّ بالمنطقة، فإنَّ هناك العديد من التحدِّيات التي تؤكِّد على أنَّ أيّ تحالُف قد تقوده واشنطن سيُواجه واقعًا مختلفًا كثيرًا عمّا كان عليه الوضع في السابق. فالمنطقة قد تغيَّرت بلا رجعة؛ وبالتالي العودة الأمريكية إلى المنطقة ستكون تكلفتها مرتفعة، وستواجه نزعات وتوجُّهات إقليمية متباينة، ومصالح لا تتطابق بالضرورة مع مصالح واشنطن ووجهات نظرها. ومن ثمَّ، فإنَّ الوصول إلى صيغةٍ أمنيةٍ ما تُحقِّق مصالحَ واشنطن، وفي نفس الوقت تُحقِّق مصالحَ دول المنطقة، تحتاج إلى تغيير كبير في نهْج واشنطن، والابتعاد عن وجهات النظر المُسبَقة، وفرْض الإملاءات أو الصِيَغ المُعَدَّة في الغرف المُغلَقة، بل وضْع مُقاربة واقعية تأخذُ بالاعتبار مصالح دول المنطقة، ومصالح شعوبها، بما في ذلك إرساء علاقات مستقرة مع إيران والتعامل بحذر مع بيئة شديدة التحرُّك والتعقيد، وفي ظل وجود منافسين مستعِدَّين؛ ليحِلُّوا محلَّ واشنطن، لأنَّ أيّ تقديرٍ خاطئ قد تكون تكلفتهُ باهظة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير