أدلى الناخبون الإيرانيون في الأول من مارس 2024م، بأصواتهم لاختيار برلمان ومجلس خبراء جديدين، في انتخابات تُعَدُّ اختبارًا هامًّا لشعبية النظام الإيراني أمام العالم الخارجي، في ظل توقيت تتنامى فيه مستويات الاحتقان والسخط الشعبي من جرّاء الأزمات الاقتصادية والمعيشية والقيود المفروضة على الحرِّيات السياسية والاجتماعية.
أُجرِيَت الانتخابات البرلمانية في هذه المرحلة في 1218 دائرة انتخابية بـ31 محافظة في البلاد. وبلغ عدد مراكز الاقتراع في هذه الدوائر 59 ألف مركز، وتنافس في الانتخابات نحو 15200 مترشِّح على 290 مقعدًا برلمانيًّا، 30 منها للعاصمة طهران، التي تُعتبَر أكبر دائرة انتخابية في البلاد. كما تنافس 144 مرشَّحًا في انتخابات مجلس الخبراء، لاختيار 88 عضوًا من رجال الدين لمدَّة 8 سنوات.
ولقد سعى النظام الإيراني خلال هذه الانتخابات إلى استخدام المشاركة الواسعة فيها لإثبات وتعزيز شرعيته، وتعزيز قبضة «المحافظين» على السُّلطة. ولذلك، يناقش تقدير الموقف هذا ملامح المشهدين الداخلي والخارجي عشية الانتخابات، ثمَّ بيان أبرز التيّارات السياسية المشاركة، وأهمّ البرامج الانتخابية وشعارات المرشَّحين، ونختتم بنتائج الانتخابات، ونسبة المشاركة، ودلالاتها.
أولًا: ملامح المشهدين الداخلي والخارجي عشية الانتخابات في إيران
يتشابه المشهد الانتخابي للعام 2024م في إيران مع مشهد عام 2020م، من حيث سِمة عدم الاستقرار، وتسويق النظام المشاركة في الانتخابات على أنَّها دليل شرعيته على الساحتين الإقليمية والدولية، بينما يختلفان في مستوى عدم الاستقرار، إذ تفاقمت معضلة عدم الاستقرار، نتيجة تضافُر الأزمات الاقتصادية والمالية الحادَّة، مع الأزمات الفكرية والسياسية المتشابكة، مع الأزمات الاجتماعية والأمنية المستعصية، طوال عُمر الدورة البرلمانية المنتهية، لتشكِّل بيئة اعتبرها النظام الإيراني ضاغطة، ويخشى أن تكون لها تداعيات على مستقبله، إذ أعادت ملامح البيئة الداخلية الراهنة إلى أذهان صُنّاع القرار أجواء مرحلة ما قبل اندلاع الثورة الإيرانية قبل نحو 45 عامًا، بما يزيد هواجس النظام، لا سيّما في ظل مساعيه لديمومة هيمنته على المشهد بشكل منفرد.
أُجرِيَت الانتخابات، بينما تصاعدت أزمة الصراع بين أكبر تيّارين سياسيين: «المحافظ» و«الإصلاحي»، على خلفية مساعي النظام، ذي النزعة «المحافظة»، المهيمنة على المشهد، لإلغاء مسألة الثنائية في الحُكم لتصل إلى مرحلة اللا عودة، واستبعاد الوجوه كافَّة، حتى ولو كانت تقِف على مسافة ليست بالقريبة من «الإصلاحيين» بالمعنى المُتعارَف عليه، مثل تداوُل الحديث عن رفْض مجلس صيانة الدستور ترشيح الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني لولاية جديدة بمجلس الخبراء، وتبايُن وجهات النظر بشكل كبير بين التّيارين تجاه القضايا الداخلية، خصوصًا الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية المأزومة للغاية بفعل العقوبات، والأوضاع الأمنية المضطربة في الداخل الإيراني، وعلى الحدود، سواء مع باكستان أو العراق أو غيرهما، والسياسات الخارجية، لا سيّما المشروع الإقليمي، والتحالفات الإقليمية والدولية، والمفاوضات النووية.
تعقَّدت البيئة الداخلية لانتخابات عام 2024م، باندلاع الانقسامات الحادَّة، ليس فقط بين «المحافظين» و«الإصلاحيين»، وإنَّما بانتقال الانشقاقات إلى داخل التيّار «المحافظ» ذاته، إذ لم تفلح الدعوات والخطابات «المحافظة» كافَّة، التي حثَّت أجنحة وروافد التيّار على وحدة الصف ودخول الانتخابات بشكل موحَّد متجانس، ما بين «الأُصوليين التقليديين» والأكثر تشدُّدًا، فقد سعى كل رافد إلى تقديم نفسه على أنَّه الكُتلة الأهمّ، أو الكُتلة الأكبر ذات التأثير الأكبر في توجُّهات النظام ومستقبله، وبالتالي هي الأكثر تعبيرًا عن التيّار «المحافظ»، ما أسفر عن عدَّة انشقاقات داخل التيّار.
كشفت الانشقاقات داخل التيّار «المحافظ» عن عدم تماسُك الجبهة «المحافظة»، وأنَّها ليست كُتلة واحدة متجانسة،كما يدّعون، كما كشفت عن توجُّهات متباينة، بل ومتصارعة، داخل التيّار «المحافظ». ولعلَّ حديث بعض «المحافظين» عن ملف هجرة نجل رئيس البرلمان الحالي إلى كندا، إسحاق قاليباف، في خِضَم الحملات الانتخابية، والمتهم بالاستفادة من تسهيلات ومشاريع من الدولة ذاتها من بوابة مكانة والده لدى النظام، يقدِّم صورة عن مدى الانشقاقات الداخلية بين «المحافظين»، ورغبة هؤلاء في القضاء على فُرَص قاليباف في تولِّى رئاسة البرلمان خلال الدورة البرلمانية الجديدة.
وكذلك، أُجرِيَت الانتخابات، بينما انتقادات كثيرة وُجِّهت إلى مجلس صيانة الدستور بسبب استبعاده كثيرًا من المرشَّحين لانتخابات البرلمان ومجلس الخبراء، دون إبداء أسباب وخلفيات ذلك الاستبعاد. وقد طلب بعض المُستبعَدين إبداء أسباب الاستبعاد، لكن بعض أعضاء مجلس الصيانة صرَّحوا بأَّنه لا يُوجَد قانون يُلزِم المجلس إبداء الأسباب، وبالتالي أدَّى ذلك إلى تشكيك البعض في الانتخابات، وهندسة عملية اختيار المرشَّحين، وطالب «إصلاحيون» بمقاطعة الانتخابات برُمّتها. ولم يقتصر الأمر على استبعاد مجلس الصيانةِ ما يسمِّيهم «أعداء الثورة»، أو حتى «أعداء الحكومة الإسلامية»، بل استبعد المرشَّحين، الذين قِيل إنَّه يُخشَى فوزهم، لإفساح الطريق لمرشَّحي النظام والنُّخبة الحاكمة، وهو ما جرى مع استبعاد الرئيس السابق حسن روحاني من المنافسة على عضوية مجلس الخبراء، وما حدث كذلك من رفْض مجلس صيانة الدستور أهلية رئيس الكُتلة السُّنِّية في البرلمان الحالي، ومنعه من الترشُّح للدورة المقبلة، دون بيان أي سبب لقرار عدم الأهلية.
وتسبَّب هذا الجدل، الذي رافق استبعاد عدد كبير من المرشَّحين، بعضهم كان يشغل مناصب رسمية سابقًا، في اتّهامات مباشرة لمجلس صيانة الدستور بالانحياز وعدم الاستقلالية، فقد ذهب بعض المرَّشحين ممَّن رُفِضت أهليتهم إلى تدخُّل أطراف خارجية، مثل روسيا، في قرار رفض أهليته، بسبب انتقاده الدائم سياسة موسكو، ومثل هذا التصريح دالٌّ على الصورة الذهنية، التي كُوِّنت عن مجلس صيانة الدستور لدى قطاعات كبيرة من الناس، حتى ولو لم تكُن حقيقية في الواقع، لكنَّ تجاهُل غضب المرشَّحين وقطاعات مختلفة من الناس، وتجاهُل المجلس توضيح أسباب رفْض الأهلية، فتح باب التكهُّنات، وهو ما يضع عبئًا على مجلس الصيانة والنُّخَب الحاكمة.
وقد أدرك المسؤولون خطورة تلك الانتقادات العلنية لمجلس الصيانة، فحذَّروا من تفاقمها، وهدَّد بعضهم بمواجهة تلك الانتقادات قانونيًّا، إذا تمادى مروِّجوها في محاولة لكبح توسُّعها أو تحوُّلها إلى موجة للتشكيك في صدقية ونزاهة الانتخابات، وهو ما تخشاهُ نُخَب الحُكم، ويعمل النظام على منعها. لذا استعمل النظام الأدوات كافة، وعلى رأسها الأدوات الدينية والإعلامية، لحثّ الناس على المشاركة، حتى قال خطيب جمعة مشهد آية الله علم الهدى، إنَّ «مصير الإسلام كلّه مرتبط بالمشاركة في الانتخابات، وليس مصير الثورة الإسلامية على نحو ما ردَّد البعض، أو مصير النظام»، بل ربَطَ مستقبل الإسلام بكثافة المشاركة في الانتخابات، وذلك لتفويت الفُرصة على التشكيك في الانتخابات، والتشكيك في خيارات وقرارات مجلس الصيانة، إذا لم تكُن المشاركة كثيفة. وفي نفس الوقت، تراجع مجلس صيانة الدستور عن رفْض أهلية عدد من المرشَّحين بعد استئنافهم على القرار الأول، ما سمح لبعض المُستبعَدين بالترشُّح، في محاولة لإعادة الزخم للانتخابات، والتغلُّب على دعوات المقاطعة، أو التشكيك في الانتخابات باعتبارها تحصيل حاصل، أو فارغة من المضمون.
كما أُجرِيَت الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجلس الخبراء أيضًا، بينما تراجعت مصداقية وشرعية النظام أمام الداخل والخارج، ما يجعله يبحث عن فُرصة وهامش أوسع من المناورة لتسويق وتعزيز شرعيته، وذلك على خلفية تنامي أزمة فقدان الثقة الشعبية بالنظام على قُدرته على معالجة الأزمات الداخلية والخارجية، إذ لا يزال النظام يعيش تداعيات حالات الاحتقان والسخط الشعبي، منذ تعرُّض فتيات المدارس لعمليات تسمُّم واسعة، لم تُعرَف أسبابها حتى الوقت الراهن، بعد فترة قليلة من الاحتجاجات الحاشدة، التي شهدتها البلاد منذ وفاة الشابة الكردية مهسا أميني، التي نالت بشكل كبير من النظام ورموزه، بما يدفعه نحو تعزيز واستمرارية هيمنته على المشهد، لأنَّه خلال تلك الجولة الاحتجاجية مقارنةً بسابقاتها من جولات احتجاجية، تجاوز المحتجُّون الخطوط الحمراء للنظام بإحراق منزل مؤسِّس «الجمهورية الإسلامية» آية الله الخميني، وإحراق صور ومجسَّمات قاسم سليماني في المدن الإيرانية كافة، واستهداف العمامة الدينية، على الرغم من قدسية ومكانة المعمَّمين، وما تحظى به العمامة من مكانة ورمزية كبيرة بين شرائح ومكوِّنات المجتمع الإيراني.
كذلك، جرت الانتخابات، بينما لا تزال تعيش إيران حالة عُزلة وحصار دولي، وإخفاق في المفاوضات النووية، والأهم تشهد الساحة الإقليمية انفجارًا للصراع في قطاع غزة المُحاصَر منذ سنوات على خلفية عملية «طوفان الأقصى» والحرب الإسرائيلية الشاملة ضدّ قطاع غزة، وسط مخاوف من اتّساع نطاق الحرب إلى حرب إقليمية كارثية على مستقبل الإقليم، بدخول جماعات مسلَّحة موالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن على خط الصراع، ما انعكس على المشهد الانتخابي في إيران، إذ وظَّفها التيّار «المحافظ» لدى قاعدته الجماهيرية في تعزيز فُرَص فوزه.
ثانيًا: قوائم المرشَّحين والبرامج الانتخابية
تُعتبَر انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء الأخيرة الأقّل تنوُّعًا منذ تأسيس نظام «الجمهورية الإسلامية» في إيران، فقد سخَّرت السُّلطة مختلف مؤسَّسات الدولة الأمنية والإدارية في عملية انتقاء المرشَّحين، من وزارة الداخلية إلى مجلس صيانة الدستور، واستطاعت بذلك تصفية كل المرشَّحين، للحؤول دون مرور أي أسماء غير مرغوب فيها، خصوصًا المحسوبين على التيّار «الإصلاحي»، الذي جرى تغييبه. إذ لم تسفر نتائج فرز الملفات عن مرور أيّ مرشَّحين «إصلاحين»، من قيادات الصف الأول وحتى الصف الثاني. فوفق المتحدِّث باسم جبهة الإصلاحات، جواد إمام، فإنَّ عدد المرشَّحين «الإصلاحيين» المقبولين لا يتجاوز الثلاثين في كل محافظات إيران، لذلك انقسم «الإصلاحيون» بين مقاطعين، أو مطالبين بالمشاركة، أو إلى صامتين أقرب إلى المقاطعين، وتحوَّل بعض «الإصلاحيين» إلى لجان إسناد للمرشَّحين «المحافظين المعتدلين». أمّا في مجلس الخبراء، فطبيعة مرشَّحيه الدينية، التي تضيق أساسًا إمكانية ترشُّح «الإصلاحيين»، فإنَّه حتى رجال الدين المحسوبين على التيار «الإصلاحي» جرى إقصاؤهم. بهذا، بات التنافس محصورًا ضمن «التنوُّع» داخل الطيف «المحافظ»، سواء في مجلس الخبراء أو البرلمان. ونظرًا لأهمِّية العاصمة طهران، فإن جُلَّ الأنظار تركِّز على القوائم المتنافسة فيها، إذ تشكَّلت خارطة المشهد الانتخابي من القوائم «المحافظة» من 4 قوائم، هي قائمة «صبح إيران» وأبرز أعضائها المتشدِّد محمود نبويان وحميد رسائي، وقائمة «الأمناء»ـ ثمّ قائمة «المجلس الائتلافي للقُوى الثورية» بقيادة محمد باقر قاليباف ومرتضى آقا طهراني، وأخيرًا قائمة «مجلس الوحدة الأُصولية»، التي يتزَّعمها منوشهر متكي، الذي شغل سابقًا منصب وزير الخارجية في عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد. أما قُوى «المعتدلين» و«الإصلاحيين» فقد خاضت الانتخابات البرلمانية في طهران تحت قائمة موحَّدة، تحمل اسم «صوت الشعب»برئاسة علي مطهري، الذي يحظى بدعم بعض الأحزاب «الإصلاحية»، من بينها حزب الاعتدال والتنمية المقرَّب من الرئيس السابق حسن روحاني.
وفي ما يتعلَّق بالبرامج الانتخابية، فقد أعلنت الحملات الرسمية للمرشَّحين لانتخابات البرلمان الإيراني والمؤلَّف من 290 مقعدًا، عن تفاصيل برامجهم ورؤاهم الانتخابية، وتضمَّنت هذه البرامج أفكارًا ومقترحات متنوِّعة لحل المشكلات، التي تواجهها الدولة، التى تشابهت في تقديرها حول مواجهة الضغوظ الداخلية والخارجية، لكن اختلفت في تقدير سُبُل التغلُّب عليها وخطَط المرشَّحين لمعالجة لتلك القضايا بمجرَّد انتخابهم، ساعيةً بذلك إلى التأثير بكل تأكيد في السلوك الانتخابي للمواطن الإيراني، وتحديد انتماءاته السياسية.
وفي عمومية المشهد السياسي، الذي سبق الإطلاق الرسمي لعملية التصويت، حملت جملة الشعارات والبرامج المرفوعة من التيار الأكبر والمرشَّح الأبرز للفوز بالحصَّة الأعلى من مقاعد البرلمان، وهو التيّار «المحافظ»، بتوجُّهاته المختلفة، اهتمامًا واضحًا لكيفية قيادة الدولة، بعد الانتهاء من الانتخابات التشريعية، ومنها تعزيز الأمن القومي والمصالح الوطنية عبر التزام سُلطة ولاية الفقيه، والاستمرار في مسار ما سمّته «مكافحة الاستكبار العالمي»، والاحتفاظ بقدرٍ من العلاقة السياسية في عملية الحوار والتفاوض مع الغرب وتعزيز سياسة التوجُّه إلى الشرق في السياسة الخارجية، بجانب تحسين مؤشِّرات الاقتصاد الإيراني، وتنويع التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة، والتقليل من آثار العقوبات الدولية المفروضة على الدولة.
بينما لم تختلف كثيرًا البرامج المُعلَنة من أحزاب وتيّارات جبهة «المعتدلين» و«الإصلاحيين»، فقد تبنَّت في شعاراتها تجاه السياسة الخارجية للدولة سردية خفْض التوتُّر في علاقتها الخارجية. وفي ما يتعلَّق بالشعارات الاقتصادية فقد تبنَّت الجبهة أهمِّية تحسين مؤشِّرات الاقتصاد الكُلِّي للدولة، وتعديل بعض القوانين الاقتصادية، كإخراج القطاعات العسكرية والمؤسَّسات شبه الحكومية من الاقتصاد، ودعْم الاقتصاد الأخضر وقوانين تنمية الطاقة المتجدِّدة لمعالجة خلل توازُن الطاقة. وأمّا اجتماعيًّا، فرفع مرشَّحو الجبهة شعارات تشريع قوانين جديدة تلبِّي تطلُّعات الطبقات المجتمعية المختلفة، وتعزِّز من الحرِّيات والحقوق الاجتماعية للمرأة، ومعارضة أيّ نوع من التشريعات، التي قد تؤدِّي إلى اشتداد الاستقطاب في المجتمع المحلِّي.
وفيما برزت تلبية المطالب الاقتصادية، لا سيّما تحسين الوضع المعيشي، ومعالجة البطالة، وتحقيق العدالة، وتعزيز النظام التعليمي، کونها الهاجس المشترك لغالبية الشرائح الإيرانية، خصوصًا في العاصمة الإيرانية طهران وفي عدد من المُدُن الكبرى، ركَّزت شعارات الانتخابات في المحافظات خارج طهران وعدد من الأقاليم الإيرانية على القضايا المحلِّية الخاصَّة، التي تتعلَّق بجملتها بقضايا التنمية الحضرية فيها. ففي محافظات أصفهان وتبريز وأذربيجان الشرقية، فقد كانت قضايا العمل والعُمّال، بجانب قضايا المياه والبيئة والصحة والعلاج والرياضة والجانب الترفيهي للمجتمع المحلِّي، أحد أهمَّ البرامج المُعلَنة من مرشَّحي تلك المحافظات.
وتكشف ردود الفعل الداخلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي انحفاض ثقة الناخب الإيراني بالتزام المرشَّحين الوفاء ببرامجهم المطروحة، وقُدرتهم على معالجة قضاياهم بعد انتخابهم، ويعود ذلك إلى جملة من الاعتبارات، من أهمِّها أنَّ التجارب السابقة في إقبال الناخبين الإيرانيين على انتخابات البرلمان في دوراتها المختلفة، لم تُفضِ إلى حلحلة مشكلاتهم وملامسة هواجسهم المطروحة، وإنَّما كانت مجرَّد دعاية انتخابية فشلت بعدها وعود وخطابات التيّارات السياسية المحتلفة في تنفيذ تلك الشعارات وتطبيقها على أرض الواقع، وبدلًا من ذلك أصبحت الحكومة أكثر انغلاقًا، مع تزايُد الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ويبرُز السبب الآخر لمثل هذا الشكّ من جانب الناخب الإيراني، في انخفاض الثقة ببرامج وشعارات القوائم الانتخابية، إلى حالة الصراعات الداخلية للأحزاب، وغياب الإجماع بين تيّارات الحزب الواحد حتى من الاتفاق في ما بينها، على مبدأ المشاركة أو تحديد قائمة واحدة من المرشَّحين، فكيف يمكن التوصُّل إلى تفاهم واتفاق حول قضايا وطنية كُبرى وخطيرة في مؤسَّسة مثل البرلمان الإيراني. وتكشف الشعارات الاقتصادية لكُلٍّ من الأحزاب السياسية المتنافسة، عن غياب خطاب اقتصادي مختلف عن شعارات وبرامج انتخابات الدورات السابقة، قادر على تقديم حلول منطقية لخروج الدولة من المأزق الاقتصادي القائم، الذي يشكِّل مصدرًا لكثير من الاستياء الداخلي، وسبببًا مانعًا من القبول الجماهيري لعلمية التصويت الانتخابي.
ثالثًا: نتائج الانتخابات ونسبة المشاركة ودلالاتها
1. تراجُع شعبية «الإصلاحيين» وإحباطهم: لقد باتت سيطرة «المحافظين» على مقاعد البرلمان الثاني عشر، أمرًا محتومًا، خصوصًا بعد استبعاد معظم المرشَّحين «الإصلاحيين» من مجلس صيانة الدستور، ومقاطعة بعض الأحزاب «الإصلاحية» للانتخابات، وخسارة أغلبية من بقِيَ منهم في السباق الانتخابي. فحسب النتائج الأولية في العاصمة طهران، لم يتمكَّن أيٌّ من المرشَّحين، الذين شاركوا في الانتخابات ضمن قائمة «صوت الشعب» في طهران، وضمَّت «إصلاحيين» و«معتدلين»، من دخول البرلمان، أو الحصول على الأصوات الكافية التي تحول دون انتقاله إلى الجولة الثانية، وحتى علي مطهري رئيس هذه القائمة فشل في دخول البرلمان الجديد. وبذلك، تكون هذه هي المرة الأولى خلال السنوات الأخيرة، التي يخسر فيها «الإصلاحيون» و«المعتدلون» في جميع دوائرهم الانتخابية بالعاصمة طهران، كما يُشير ذلك إلى تراجُع تأثير «الإصلاحيين» ودورهم في الحياة العامَّة، أو رُبّما إلى يأس الناخبين في الإصلاح، وإحباطهم من التيّارات كافة. ولا ننسى أنَّ النظام قد لعِبَ دورًا في هذا التمزق، الذي يبدو على جبهة الإصلاح، إذ حَرَم رموزهم ومرشَّحيهم من خوْض المنافسة من البداية. وقد كان من الملفت مقاطعة الزعيم «الإصلاحي» محمد خاتمي المشاركة في الانتخابات، وهذه أول مرَّة يتّخِذ قرارًا بمقاطعة الانتخابات البرلمانية، وقد يشير ذلك إلى إحباط واسع النطاق بين «الإصلاحيين»، بما في ذلك رموزهم وقياداتهم.
2. تركيبة برلمانية أكثر تشدُّدًا: جرى إعلان النتائج النهائية للانتخابات في 18 محافظة، من مجموع 31 محافظة، كما بلغ عدد الفائزين بمقاعد مجلس الخبراء 48 نائبًا، كما جرى فرْز الأصوات في 190 دائرة انتخابية من أصل 208 دوائر لانتخابات مجلس الشورى، حسب ما أعلن المتحدِّث باسم لجنة الانتخابات في إيران محسن إسلامي. كما كشفت النتائج أنَّ الانتخابات ستذهب إلى جولة ثانية من الانتخابات البرلمانية، بعد إعلان فوز 201 عضوًا من أصل 290. وحسب النتائج المُعلَنة فإنَّ 15 شخصًا من المرشَّحين في طهران، احتلُّوا مقاعدهم في البرلمان القادم، بعد حصولهم على الأصوات اللازمة للفوز في الجولة الأولى، بينما انتقل 15 آخرون إلى الجولة الثانية. واحتلَّ أعضاء جبهة الصمود «المتشدِّدة» المراكز الثلاثة الأولى في العاصمة، وهم محمود نبويان وحميد رسائي وأمير حسين ثابتي منفرد، بينما حلَّ رئيس البرلمان المنتهية دورته محمد باقر قاليباف في المرتبة الرابعة، وهي رسالة إلى الجنرالات «الأُصوليين»، الذين لعبوا دورًا بارزًا في البرلمان الحادي عشر. وقد يُسفر ذلك عن خسارة قاليباف موقعه رئيسًا للمجلس، لوجود خلافات عميقة بينه وبين أعضاء بارزين في جبهة الصمود. لذلك، يمكننا أن نفترض أنَّ اليمين القوي والمتطرِّف سيقود البرلمان، ومن المحتمل أن يكون سِجِلّ البرلمان الثاني عشر أسوأ من سِجِلّ البرلمان الحالي، وقد يتحوَّل البرلمان إلى غرفة للاقتتال بين عناصر التيّار «المتشدَّد» بمختلف توجُّهاته.
3. مهمَّة مُتوقَّعة لمجلس الخبراء الجديد: على الرغم من عدم وجود تنافس بين «المحافظين» و«الإصلاحيين» في انتخابات مجلس الخبراء، لكن النتائج النهائية لمجلس الخبراء في دورته السادسة، لم تخلُ من المفاجآت، إذ فقد رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام صادق آملي لاريجاني، مقعده في مجلس الخبراء، واحتلَّ المركز الخامس والأخير بمحافظة مازندران. وتُعَدُّ هذه النتيجة بمثابة استفتاء ضد لاريجاني، وقد تُخرجه من المنافسة في خلافة المرشد. بينما حقَّق إبراهيم رئيسي انتصارًا كبيرًا في محافظة خراسان الجنوبية، بحصوله على 275463 صوتًا، أي أكثر من 82% من الأصوات بدائرته الانتخابية. وهي نتيجة متوقَّعة، في ظل استبعاد المنافسين الجَدِّيين له. ومع فوز رئيسي وهزيمة لاريجاني، فإَّن الساحة تكون ممهَّدة أمام خامنئي لعملية إعادة هيكلة المجلس واختيار قيادته، وذلك تمهيدًا لدوره المتوقَّع بشأن اختيار المرشد القادم.
4. المشاركة الأقلّ منذ الثورة: لقد بلغت نسبة المشاركة 41%، بينما كان يُعوِّل النظام على نسبة مشاركة أوسع تحدُّ من أزمة الشرعية، وتعزِّز فُرَصه وهامش المناورة في تسويق أنَّ النظام يحظى بشعبية في الداخل أمام الخارج. لكن انخفضت نسبة المشاركة إلى مستوى قياسي، بل أقلّ من نسبة الانتخابات البرلمانية في 2020م، التي سجَّلت أدنى نسبة مشاركة في تاريخ الانتخابات الإيرانية منذ 1979م. وبذلك يتواصل انخفاض منحنى المشاركة في الانتخابات، وتبعًا لذلك يستمِرّ تراجُع شعبية النظام الإيراني، ولم يعُد بالإمكان دحْض الادّعاءات الدولية بأنَّه فاقد الشرعية، خصوصًا من الولايات المتحدة الأمريكية، التي شكَّك المتحدث باسم خاريجتها ماثيو ميلر، أن تكون الانتخابات في إيران حُرَّة ونزيهة مهما كانت نتائجها، وانتقد استبعاد آلاف المرشَّحين.
وجاءت هذه المشاركة المواضعة نسبيًّا، على الرغم من دعوات المرشد وإجراءات النظام، بما في ذلك رفْع عدد المرشَّحين في الدوائر الانتخابية إلى 52 مرشَّحًا في كل دائرة، ومدّ وقت التصويت إلى ساعات إضافية، من أجل رفْع نسبة المشاركة، باعتبارها دليلًا على شرعيته. وبينما اعتبر معارضو النظام الإيراني أنَّ هذه المشاركة المنخفضة دليل على تراجُع الشرعية، فإنَّ النظام نظر إليها بصورة إيجابية، وذلك في ظل دعوات المقاطعة من أطراف داخلية وخارجية للانتخابات، وبحُجَّة أنَّ نسبة المشاركة في بلدان مختلفة، بما في ذلك الديمقراطيات الغربية، لا تتخطَّى نسبة مشاركة الناخبين في الانتخابات الإيرانية.
وعلى الرغم من محاولات التبرير، فإنَّ استمرار تراجُع نسبة المشاركة في الانتخابات الإيرانية، يكشف عن أنَّ مسألة المشاركة الشعبية في الاستحقاقات الانتخابية، لم تعُد أولوية بالنسبة للنظام لترسيخ شرعيته، التي اهتزَّت كثيرًا، بقدر استمرار «المحافظين» في السيطرة على جميع مؤسَّسات النظام، كما يثبت أنَّ النظام بات يدرك تراجُع شعبيته، فلجأ إلى السيطرة على جميع المؤسَّسات بالوسائل كافة.
5. مشاركة متواضعة للشباب: لقد رصد متابعو الانتخابات على الأرض، وجود شبه غياب للشباب، ويبرِّر هذا العزوف حالة الإحباط، في ظل خلو العملية الانتخابية من المنافسة الحقيقية، وفي ظل موجة الغضب الشعبي، التي اجتاحت إيران خلال السنوات الأخيرة، وهو عزوف مُتوقَّع بالنظر إلى المشاركة الواسعة لهؤلاء الشباب في الاحتجاجات الأخيرة، التي أعقبت مقتل مهسا أميني في أنحاء إيران كافة، التي ظهرت معها الفجوة الواسعة بين هؤلاء، الذين يمثِّلون الجيل الجديد، والنظام الإيراني الذي لم يجِد طريقة للتعامل معهم، غير القمع والحملات الأمنية لإسكات أصواته المعارضة.
خلاصة
لم تقدِّم الانتخابات الإيرانية جديدًا، وقد فقدت أهمّ غاياتها، وهي إدماج تطلُّعات الجماهير في مؤسَّسات الحُكم، إذ أصرَّ النظام على عملية هندسة مُسبَقة، من أجل ضمان استحواذ العناصر الأكثر ولاءً له على السُّلطة التشريعية، واستبعاد العناصر المعارضة كافة، حتى لو كانت محسوبة على النظام. ويُشير ذلك إلى بقاء الوضع على ما هو عليه في ما يتعلَّق بالسياسات، ومردودها الشعبي، كما يُشير إلى بقاء حالة الاحتقان والغضب، وهو أمرٌ قد يرشِّح الأوضاع إلى مزيد من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية، على غرار ما شهِدَته إيران خلال الفترة الماضية من حكومة إبراهيم رئيسي. ومن جهة أخرى، فإنَّ هذه الانتخابات تصُبّ في جهود النظام، من أجل ضخّ مزيد من العناصر الموالية في مراكز صُنع القرار، والعمل على ضمان عملية انتقال سلِس للسُّلطة ما بعد خامنئي. لكن بينما ترك النظام قطاعًا عريضًا من النُّخبة والجماهير على هامش العملية السياسية، بما في ذلك الانتخابات، فإنَّ أيّ عملية انتقال قد تكون محفوفة بالمخاطر.