يُثير الجمود الذي تشهده محادثات إحياء الاتفاق النووي أو ما يُعرف بـــــــ «خطة العمل الشاملة المشتركة» المخاوف من انهيار الاتفاق النووي كليًا، مما سيدفع إيران للاستمرار في نشاطاتها النووية بينما تلعب «لعبة الغميضة» مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ومنذ توقيع الاتفاق النووي أصدر مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابع للأمم المتحدة قراره الثاني ينتقد فيه إيران، ولكن المفارقات الغريبة أن القرار لم يرقى إلى حد إحالة القضية برمتها إلى مجلس الأمن الدولي. ويعود سبب هذا النقد «خفيف اللهجة» إلى امتناع إيران المتكرر عن تقديم ردود ذات مصداقية تقنية حول مواقعها الثلاثة غير المصرح بها للرقابة منذ عام 2019م عندما كشفت إسرائيل عن الأرشيف النووي الإيراني الذي اطلعت عليه القوى الكبرى بالإضافة إلى وكالات الأمم المتحدة المعنية، تفيد هذه التقارير ذات المصداقية أن طهران تبني منشآتٍ جديدةٍ لتوسيع نطاق برنامجها النووي.
ولم يحظ حتى هذا القرار المخفَّف ضد إيران بدعم روسيا أو الصين، في حين أكدت الولايات المتحدة مواصلتها الجهود الدبلوماسية لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي ردّها على قرار محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في 9 يونيو الجاري، أغلقت إيران أو أزالت كليًا 27 من كاميرات المراقبة من مواقعها النووية الرئيسية دونما أي اعتبار لأي اتفاق ضمانات بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. وتتصاعد حدة الأجواء الجيوسياسية في الشرق الأوسط، لا سيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية ودول ترويكا لم تفرض أي عقوبات على إيران إزاء عدم التزامها باتفاق الضمانات بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
واتهمت إيران إسرائيل بمقتل عالمين إيرانيين بتسميم طعامهما، ومن جانب آخر شنَّت إسرائيل هجمات غير معهودة توقف على إثرها الجسر الجوي الإيراني الذي ينقل الأسلحة إلى سوريا وحزب الله في لبنان؛ حيث ألحقت الهجمات الإسرائيلية أضرارًا بالمدرج المدني وبرج مراقبة الحركة الجوية في مطار دمشق الدولي وأخرجتهما من الخدمة منذ ذلك الحين. كما تعرّضت شحنة الأسلحة الإيرانية عن طريق البر في داخل العراق للهجومٍ أيضًا. وردت إيران على الهجمات الإسرائيلية بشن هجمات إلكترونية التي لم تكن فعالة جدًا فحسب، بل فريدة من نوعها أيضًا. وعلى سبيل المثال، اخترقت وحدة إلكترونية إيرانية شبكة الإنذار الصاروخية في إسرائيل وتمكّنت من إطلاق إنذاراتٍ كاذبة، مما هزَّ مصداقية أجهزة الإنذار داخليًا. وفي المقابل تعرَّضت طهران لهجمات إلكترونية أيضًا. وستتفاقم هذه الحالة إلا إذا توصلت الولايات المتحدة وإيران لاتفاق بشأن إحياء خطة العمل الشامة المشتركة. وفي حال انهارت المحادثات النووية برمتها وظلت أنظمة مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية غير متصلة أو متوقفة عن العمل، ستستطيع إيران تطويرَ الأسلحة النووية على الرغم من أنها موقعة على معاهدة حظر الانتشار النووي. وحسب التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر في 30 مايو الماضي، فقد بلغ مخزون طهران من اليورانيوم المخصّب حوالي 25 كيلوغرامًا أي بنسبة 60 في المئة، بينما يمكنها أن تعمل على تخصيب كميات أكبر في حال استخدامها عددًا أكبر من أحدث أجهزة الطرد المركزي. وبإمكان إيران تصنيع قنبلة نووية واحدة من خلال إنتاجها 25 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسبة 90 في المئة أو أكثر.
ومع ذلك، فقد أبدت كلٌ من موسكو وبكين معارضتهما لقرار مجلس المحافظين الأخير على الرغم من ارتكاب إيران لانتهاكاتٍ صارخة لاتفاق الضمانات بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي وأنظمة التفتيش الدولية. وعلى الرغم من أن روسيا لا تُعيق الضربات الاستباقية الإسرائيلية ضد إيران أو مقراتها في سوريا وغيرها، إلا أنها تُعارض في الوقت نفسه اتخاذ أيّ تحركاتٍ متعددةِ الأطراف لمعاقبة حليفها؛ إيران. ولن يتغير موقفها في حال أُحيل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن الدولي. وفي أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبحت إيران أحد مورّدي الذخائر وقطع الغيار لموسكو في الوقت الذي تسعى فيه للوصل إلى اتفاق تعاون إستراتيجي لمدة عقدين من الزمن، وقد اقترحت ذلك أثناء زيارة الرئيس إبراهيم رئيسي لموسكو في يناير الماضي. وتعتبر زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 22 يونيو الجاري، استمراراً لنفس النهج الذي أصبح أكثر أهميةً من أي وقت مضى، في خضم التقلبات في الساحة الجيو-إستراتيجية، وفي مؤتمرهما الصحفي المشترك، أعرب وزيرا الخارجية عن أملهما في استئنافٍ مبكر لمحادثات فيينا مع دولة الترويكا.
وبقدر ما تستفيد إيران من علاقاتها الإستراتيجية مع روسيا، فإنها تستخدم تلك العلاقة لكي تُعزز من نفوذها مع الغرب في خضمّ أزمة الطاقة العالمية المتفاقمة وعدم الاستقرار الجيو-إستراتيجي. ويبدو أن جهود الكرملين ضد أوكرانيا والتهديدات الموجهة إلى الدول الأعضاء الصغرى في الناتو، قد أجبرت واشنطن على تبني لهجة أكثر تصالُحية مع إيران، وهذا ما جعل الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتبنى قرارها الأخير عديم الفائدة. بالنسبة للولايات المتحدة، فإن الخيارات المطرحة على الطاولة سيئة: إما إحياء الاتفاق النووي وتشجيع سلوك إيران التخريبي في الشرق الأوسط، أو التخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة وازدياد احتمالات وقوع حروب بالوكالة والانتشار النووي.
ومع اتجاه المفاوضات بين إيران وجيرانها العرب نحو المجهول، فقد تؤدي لهجة واشنطن التصالحية مع طهران إلى إثارة المشاكل خارج نطاق الشرق الأوسط. ومع تصاعد الحرب الباردة الثانية قد تختار بيلاروسيا أن تكون دولةً نووية بمباركة روسيا، لاسيما وأن لديها تاريخٌ طويل وخبرات كبيرة في مجال التكنولوجيا النووية. فعلى سبيل المثال، يرجع عدم إحراز تقدم في العلاقات مع كوريا الشمالية إلى حدٍ كبير إلى استرضاء جيرانها النوويين. وبالقياس، لن تخف حدَّة مخاطر الانتشار النووي مع عودة إيران إلى الاتفاق، في حال توصَّلت جميع الأطراف لتسوية بشأن تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظمة إرهابية.
وأشار مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بأن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة أمرٌ مستحيل دون عودة إيران إلى الامتثال الكامل لالتزاماتها النووية. وحتى في حال الوصول إلى حلٍ توافقيٍ مبكر في فيينا أو غيرها كما هو مزمعٌ في يوليو القادم، سيبقى إحياء الاتفاق النووي متوقفًا على إصدار الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارًا يؤكد التزامَ الجانب الإيراني بإعادة تشغيل كاميرات المراقبة، والالتزامَ بإجراءات تقديم التقارير للوكالة، ولكن ستبقى إشكالية المواقع الثلاثة المشتبه بها وغير المعلن عنها قائمة. وستتابع محادثات فيينا التزامَ إيران بخطة العمل الشاملة المشتركة، بما في ذلك تسليم اليورانيوم المخصّب الزائد وإزالة أجهزة الطرد المركزي المحظورة. وسيتعين على الولايات المتحدة رفعَ العقوبات التي أُعيد فرضها خلال عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في حال اكتمال الإجراءات المطلوبة وإجراء عملية التصديق التقني. وبسبب تصرفات إيران الأخيرة في الشرق الأوسط، وإزالة كاميرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تعرّضت آفاق إحياء الاتفاق النووي لنكسة كبيرة. وكلما أبقت إيران على أنشطتها التخريبية طي الكتمان، ستزداد مخاوف جيرانها ومخاوف الغرب أيضًا بشأن ازدياد مخزونها من اليورانيوم المخصب ذا الجودة العالية
