في بيان جماعيّ أعلنت ستّ دول أوروبية، هي: فنلندا وهولندا وبلجيكا والدنمارك والسويد والنرويج، انضمامها إلى آلية دعم التبادل التجاري (إنستيكس) إلى جانب الدول المؤسِّسة لهذه الآلية وهي فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا.
آلية «إنستيكس»، التي تعني أداة دعم الأنشطة التجارية، دشنتها دول الترويكا الأوروبية -فرنسا وبريطانيا وألمانيا- في أعقاب انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من «الاتفاق النووي» المبرم مع إيران عام 2015، ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الآلية مخطَّط لها أن تعمل خارج النظام المالي العالمي كعملية مقايضة، حتى تتجنب الشركات الأوروبية المستخدمة للآلية احتمالية الوقوع في مغبة العقوبات الأمريكية. منذ إطلاق «إنستيكس» في 31 يناير بداية العام الجاري ودول الترويكا تسعى إلى الحصول على التصديق الرسمي من جميع دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين على هذه الآلية، ورغم عدم وجود استجابة داعمة منذ بيان التدشين، فإنّ الدول الست المذكورة انضمت في التاسع عشر من نوفمبر إلى الآلية وعززت موقف الدول المؤسِّسة.
هذا الانضمام في هذا التوقيت لا بد أن يكون له دلالاته، إذ إنّ الآلية لم تُفعَّل رسميًّا حتى اللحظة، وموقف إدارة الولايات المتحدة لم يتبدَّل في صرامته وتحذيره للشركات المتعاملة مع إيران بتعرُّضها للعقوبات الاقتصادية المفروضة.
فما الدوافع المحفزة لهذه الدول الستّ لكي تنضمّ إلى هذه الآلية؟ وما أسباب وتداعيات انضمامهم إلى الآلية في هذا التوقيت؟ وما الذي ترمي إليه دول الاتحاد الأوروبي التسع في ممارساتها المتباينة مع السياسات الأمريكية؟ هل بالإمكان أن تشتمل هذه الآلية في تعاملاتها على أكثر من قطاعات الغذاء والدواء؟ أم أن كل ما يدار حول الآلية والانضمام لا يعدو أن يكون ممارسات ترغيب وتهدئة دبلوماسية للحكومة الإيرانية بعد خروقاتها وتقليصها لالتزاماتها النووية؟
أولًا: دوافع الانضمام ومواقف الأطراف المعنية
1- دوافع الدول الست الأوروبية:
أكدت فنلندا وهولندا وبلجيكا والنرويج والسويد والدنمارك في بيانها المشترك بعد الانضمام إلى آلية «إنستيكس» دعمها لدول الترويكا في مساعيها لتطمين إيران بالتزام الاتحاد الأوروبي بـ «الاتفاق النووي» وتيسير التجارة بين أوروبا وإيران. فالانضمام تعزيز من آلية «إنستيكس» وإظهار للجهود الأوروبية المبذولة لتسهيل التجارة مع إيران، وكذلك تعبير صريح عن التزام الاتحاد المتواصل بخطة العمل الشاملة المشتركة المتمثلة في «الاتفاق النووي».
علاوة على ما سبق، تهدف دول الاتحاد الأوروبي إلى تنظيم جهودها وتوحيد صفّها كقوّة قرار عالمية يمكنها الإيفاء بوعودها جنبًا إلى جنب مع تمكين دولها الأعضاء من تحقيق مصالحها ولو كانت ضد مصالح القوى الأكثر تأثيرًا في العالم، كأمريكا أو روسيا أو الصين.
2- دول الترويكا الأوروبية:
رحبت دول الترويكا بانضمام الدول الست الأخرى، معبرة عن التزام وجدية الاتحاد الأوروبي في موقفه تجاه «الاتفاق النووي» مع إيران، مطالبةً إيران بالعودة إلى التزاماتها النووية، ومؤكدةً على وجوب الامتثال لبنود الاتفاق وخفض حدة التصعيد في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
3- إيران:
رغم ترحيب إيران الرسمي المبدئي بآلية «إنستيكس»، فإنّ المسؤولين الإيرانيين عبّروا عن إحباطهم تجاه بطء الاستجابة الأوروبية. ومع انضمام الدول الست فإنّ الرأي الإيراني ما زال متباينًا ما بين تقدير للجهود والنيات الأوروبية وبين يأس من تحقيق نتائج واقعية ما دام هذا الانضمام غير مترجم إلى تعاملات اقتصادية من خلال هذه الآلية، التي من الممكن أن تخفف من حدة العقوبات الأمريكية.
4- الولايات المتحدة الأمريكية:
تستمر الإدارة الأمريكية في ملاحقة أي شركة أو منظمة تنتهك العقوبات التي فرضتها على إيران، ومع أنها لم تصرح رسميًّا ضد انضمام الدول الست الأوروبية ودعمها لآلية «إنستيكس»، فإنّ بعض المسؤولين الأمريكيين عبروا عن استيائهم من قرار الحكومات وكذلك توقيته الذي واكب قمع الحكومة الإيرانية للاحتجاجات الشعبية داخل إيران.
ثانيًا: التداعيات والتحديات المحتملة
دول الترويكا الأوروبية بالإضافة إلى الدول الست المنضمة إلى آلية «إنستيكس» تسعى إلى تحقيق أهداف عدة، أهمها إنقاذ «الاتفاق النووي»، إلا أنّ لها بالتأكيد أهدافًا سياسية وأمنية أخرى كالحفاظ على أمنها القومي وأمن حلفائها في الإقليم، وأيضًا الرغبة في رفض الانصياع وإظهار الاستقلالية عن سياسات الإدارة الأمريكية التي ربما أظهرت تجاهلًا صريحًا -في نظر كثير من الدول الأوروبية- للمكانة السياسة والاقتصادية للاتحاد الأوروبي.
فانضمام الدول الستّ يؤكد اتساع رقعة الخلاف بين السياسة الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، لكنه يظهر أيضًا الانقسام بالداخل الأوروبي بحكم قلّة عدد الدول الداعمة للآلية، وهي بالكامل الدول الإسكندنافية ودول غرب أوروبا بخلاف دول الشرق التي لا ترغب في إثارة حنق الإدارة الأمريكية.
التباين الأوروبي-الأوروبي يتمثل كذلك في عزوف دول الجنوب الأوروبي، مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا، عن الانضمام إلى الآلية، وهي الدول ذات التبادل التجاري المؤثر مع إيران. والتمايز الأهمّ نجده في تصريحات ممثلي الاتحاد الأوروبي وحكومات الدول الأوروبية التي لا تتقيد بقرارات المنظمة الأوروبية. فعلى سبيل المثال كان للممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي إشارة بكون استمرار مبيعات النفط والغاز الإيراني من ضمن نقاط الاجتماع المنعقد على مستوى وزاريّ بين إيران وممثل الاتحاد الأوروبي ودول الترويكا، في أعقاب انسحاب إدارة الرئيس ترمب من الاتفاق النووي العام الماضي، بينما مسؤولو دول الترويكا أو أيّ دولة أوروبية أخرى لم يصرحوا حتى الآن بتضمين مبيعات النفط في أي مقترح لقناة تبادل تجاريّ مع إيران. النظرة الواقعية لتداعيات قرار الانضمام إلى آلية «إنستيكس» ترجح كفة الرأي القائل بأنّ انضمام الدول الست إلى جانب الترويكا الأوروبية ولو كان بمثابة رسائل صارمة ضد تجاهل الحليف الأمريكي لدور الاتحاد الأوروبي، إلا أن تشغيل الآلية سيظل ذا تعقيد كبير، وفي حال تشغيلها فالشركات والبنوك الأوروبية الكبرى لن تخاطر بمصالحها مع الولايات المتحدة، فعواقب الإقصاء من السوق الأمريكية أعظم بكثير من الخسائر المحتملة من قطع الأعمال مع إيران.
إضافة إلى أنه من المرجَّح أن القناة الأوروبية لن تكون مناسبة للقيام بالأعمال التجارية الكبيرة من وإلى إيران، فضلًا عن القيام باستثمارات داخل إيران إذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ العقوبات الأمريكية لا تستهدف فقط التحويلات المالية، بل البضائع والسلع وتحركاتها.
جانب الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ تدشين آلية «إنستيكس» أكّد وما زال يؤكد على استمرار حملة الضغوط القصوى الاقتصادية دون تأثر من جراء تدشين هذه الآلية الأوروبية، والموقف ثابت لم يتغير بعد انضمام ست دول إضافية. فالتباينات ما بين دول غرب أوروبا وأمريكا في ما يخص «الاتفاق النووي» والعقوبات الأمريكية أحادية الجانب تشي بعمق الخلاف وتوسّع الهوّة في سياسات هاتين الكتلتين العالميتين، ولكن الجانب الأمريكي يبدو أكثر قدرة على فرض سياساته على الشركات العالمية بحكم حجم اقتصاده ومصالح كبرى الشركات العالمية في السوق الأمريكية.
من جهة أخرى، فإنّ تشغيل الآلية يتطلب تنازلات من الجانب الإيراني، وامتثالًا لسياسات منظمات مالية عالمية تحارب الفساد وغسل الأموال، وجُلّ هذه المنظمات وشروطها يرفضها الحرس الثوري -حمايةً لأدواره المشبوهة خارج إيران-الذي بدوره يضغط على مجلس تشخيص مصلحة النظام داخل النظام الإيراني بغية منعه من التصديق على هذه الاتفاقيات.
وإذا افترضنا تسليم إيران بشروط واتفاقيات تدشين الآلية تبعًا لانضمام الدول الست الأوروبية إلى الآلية بجانب ضغوط دول الترويكا، فإنّ الآلية ستقتصر على قطاعات أساسية لا يعوِّل عليها النظام الإيراني لتخفيف أثر العقوبات الأمريكية. فشمول الآلية لقطاع النفط مستبعَد جدًّا لعدم قدرة دول الاتحاد الأوروبي على معارضة العقوبات الأمريكية أو إجبار الشركات الخاصة تحت مظلّتها على عدم الانصياع لهذه العقوبات.
خبراء إيرانيون أكَّدوا أنّ آلية «إنستيكس» ولو عكست رغبة الاتحاد الأوروبي في التهدئة مع إيران، إلا أنها لم تقدّم ميزة تُذكَر لطهران، ولا يمكن بالتالي التعويل عليها من وجهة نظر حكومتهم. فانضمام ست دول أوروبية أخرى إلى الآلية لا يعني كثيرًا للإيرانيين ما لم يحدث تبادل تجاريّ من خلالها وتُفعَّل بشكل رسميّ، لتتعدى مجرد شمولها لقطاعات الغذاء والدواء إلى قطاع النفط وتصديره. من الخبراء الإيرانيين من ينظر إلى هذا الانضمام وإلى الآلية من الأساس بتوجُّس باعتبارها وسيلة تسويف مطبقة بتنسيق أوروبي-أمريكي لتهدئة الجانب الإيراني في الوقت الراهن، ومن ثم إرغامها على قبول اتفاق نوويّ جديد.
ثالثًا: احتمالات المستقبل
1- تفعيل جزئيّ:
يعني هذا السيناريو تفعيل الآلية لتشمل فقط القطاعات الأساسية غير المعرضة للعقوبات الأمريكية، وهي قطاعات الغذاء والدواء. يمكن للآلية أن تطبَّق ويمكن للمساعي الأوروبية والإيرانية أن تبصر طريق النور، لكن المؤشرات لا تشي بشمول الآلية لتعاملات مؤثرة في الاقتصاد الإيراني. فالآلية تحتاج إلى فترة من الزمن لكي تكسب الثقة، ولن يتعامل فيها إلا الشركات الصغيرة والمتوسطة التي ليس لها أيّ مصالح في السوق الأمريكية، والتي تكون بمأمن من التعرض للعقوبات الأمريكية.
العوامل المحفزة للسيناريو تتمثل في كون القطاعات الأساسية مثل الغذاء والدواء خارج نطاق العقوبات الأمريكية، وسعي دول الاتحاد الأوروبي لأن يكون لها دور بارز في الوصول إلى حلّ سلميّ ينقذ الاتفاق النووي ويقلل من التصعيد في المنطقة، وكذلك تكليل المساعي الدبلوماسية بالنجاح بتفعيل الآلية جزئيًّا وإظهار الالتزام الأوروبي تجاه إيران واستقلال دوره خارج عباءة الولايات المتحدة.
من جهة أخرى، لهذا السيناريو عوامل إحباط عدة، منها: عدم تعويل إيران على تعاملات الغذاء والدواء التجارية في مواجهتها للعقوبات الأمريكية، وبالتالي تخاذلها في التصديق على متمّمات الآلية وشروطها. في المقابل قد يكون تردد كثير من الدول الأوروبية، والشركات الصغيرة والمتوسطة تحت مظلّتها، في الدخول في آلية «إنستيكس» مخافة إثارة غضب الولايات المتحدة، عاملًا مساهمًا في إحباط هذا السيناريو.
2- انضمام شكليّ دون تفعيل:
ويعني هذا السيناريو الاستمرار في التهدئة مع إيران من دون تفعيل الآلية، مع حث دول أوروبية أخرى على الانضمام وإظهار الالتزام تجاه إيران.
ومما يحفز وقوع هذا السيناريو العوامل التالية: بطء الإجراءات الأوروبية، وعدم قدرتها على إجبار الشركات العالمية تحت مظلة الاتحاد الأوروبي على الانصياع لقرارات الاتفاق النووي خوفًا من تكبُّد العقوبات والإقصاءات الأمريكية، وتعقيدات تطبيق الآلية اقتصاديًّا إذ إنه مخطط لها أن تعمل بطريقة المقايضة، وتراخي الجانب الإيراني في قبول الشروط الأوروبية بتوقيع الاتفاقيات المتممة للآلية بسبب عدم ثقته بالدور الأوروبي لمواجهة العقوبات الأمريكية والحد من آثارها السلبية.
إذا ما حدث هذا السيناريو فسيكون من جانب أول بمثابة الإبقاء على متانة العلاقات الأوروبية-الأمريكية رغم إشارات العتاب المرسَلة ضدّ التهميش الأمريكي بحق الدور الأوروبي، ومن جانب آخر الاستمرار بالضغط على إيران لضمان امتثالها للالتزامات النووية وإرغامها في المدى القريب على التفاوض وعقد اتفاق جديد. في المقابل هنالك عوامل إحباط تسير عكس وقوع هذا السيناريو، وهي استمرار التصعيد الإيراني في تقليص الالتزامات النووية، أو ربما تصديق طهران على الاتفاقيات المتممة للآلية ومن ثم تدشين الآلية الإيرانية المقابلة لتفعيل «إنستيكس» الأوروبية، وكذلك عزم الشركات الصغيرة والمتوسطة الأوروبية على التعامل التجاري مع إيران. وبناءً على مؤشرات السيناريوهين فإنّ السيناريو الثاني هو الأكثر ترجيحًا، خصوصًا على المدى القريب، إلا أنه من الممكن أن يتمثل السيناريو الأول على المدى المتوسط أو البعيد إذا ما تحققت العوامل المحفزة لوقوعه.