حال الإقليم: إيران المارقة والصراعات اللا متناهية في المنطقة
تشير أدبيات العلاقات الدولية إلى أن “الدولة المارقة” هي تلك الدولة التي تسعى إلى خلق صراعات غير متناهية بدول الجوار الإقليمي، وتخضع لنظام شمولي يعتمد أدوات غير مشروعة في التمدد والانتشار، والتدخل في شؤون دول الجوار، ويسّخر أموال شعبه لبناء إمبراطورية وهمية للهيمنة الإقليمية، بيد أن الجمهورية الاسلامية الإيرانية لم تحد عن تلك الأخيرة، إذ لم تفتأ تتخذ من الاستقطاب الطائفي والتجسس ودعم الأذرع الشيعية في المنطقة أدوات جوهرية ومرتكزات رئيسية، لخلق حالة من “الصراعات اللامتناهية” داخلها، تجعلها دولاً هشة ممزقة من ناحية، وتكرس زعامتها الإقليمية وتحقيق حلمها التاريخي بتكوين إمبراطوريتها الفارسية الكبرى (الهلال الشيعي)، حتى وإن كان ذلك على حساب مواطنيها أو جيرانها من ناحية أخرى، مستغلة في ذلك التحولات الدراماتيكية التي يشهدها النظام الإقليمي (الاضطرابات السياسية التي يشهدها الإقليم منذ اندلاع ثورات الربيع العربي)، أو الدولي، أو الاثنان معاً.
كما تشير الأدبيات ذاتها إلى أن “الصراعات اللا متناهية” تنتج رويداً رويداً، وتستمر طويلاً عند قيام وحدة دولية ما بـ”تسييس” مكونات وحدة دولية أخرى، من خلال بعض الأدوات غير المشروعة، بقصد خلق فتنة أو أزمة داخلية مثلاً، إلى أن تصل لدرجة من درجات الصراع، أو نمط من أنماطه، ثم إلى صراع وجود في حقيقته، وحينئذ يأخذ شكل المعادلة “الصفرية”، بمعنى أن خسارة نقطة من قبل هذا الفريق تضاف إلى الفريق الآخر.. وهكذا.
وعليه، فإن الصراع هنا يتخذ نمطاً صلباً يفتقد لأي شكل من أشكال المرونة السياسية، وقد يؤدي في النهاية إلى تفتيت الدولة وتقسيمها، نتيجة الصراع الطائفي الدامي بين مكوناتها وفصائلها على نحو يوفر فرصة سانحة للتلاعب بمصيرها وملاذاً آمناً للجماعات الإرهابية، وهو ما تجسده إيران في دول مثل (العراق سوريا واليمن ولبنان وغيرها من الدول) منذ انتصار ثورتها في 1979، فبعد عودته من منفاه، قال الخميني: “على العرب أن يعتادوا على الحكم الفارسي من الآن فصاعداً”، ومنذ ذاك التاريخ بدأت المؤشرات التي تفضح الأطماع والنوايا الإيرانية في الظهور شيئاً فشيئاً، والتي تشكل في حد ذاتها تهديداً حقيقياً وجدياً للأمن القومي العربي وللأمة العربية بأثرها .
وفي هــذا السياق، سنتطرق عبر سلسلة حلقات متتالية، ليس فقط للتدخل الإيراني في دول الإقليم، فهو لم يكن معلوماً إلا لمن أصابه ضعف في البصر وعمى في البصيرة، بل سنتناول “حال الإقليم” أو الدول التي ابتليت بالداء الإيراني، بدءاً بالعراق، وكيف تحولت من دول متماسكة قوية إلى أخرى متهالكة متجزئة متقطعة الأوصال تموج بـ”الصراعات اللامتناهية ” بين مكوناتها وفصائلها السياسية منذ أن دشنت إيران استراتيجيتها القديمة القائمة على المد الشيعي بمجيء نظام الملالي بداية ثمانينيات القرن المنصرم، حتى استراتيجيتها الجديدة مطلع الألفية الجديدة القائمة على تعزيز التمدد والتحكم في الممرات الدولية، والاستحواذ على مناطق نفوذ جديدة وأوراق ضغط، وكذا مستقبل هذه الدول المصابة بالأذى الإيراني القائم، وسبل مواجهته على الأمدين القصير والطويل، بهدف وقف وتحجيم الدور الإيراني الخطير، خاصة بعد أن بدت واضحة طبيعة العلاقات الأمريكية – الإيرانية وتوزيع الأدوار، خاصة بعد توقيع طهران الاتفاق النووي مع مجموعة (5+1) وهي: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، فرنسا، بريطانيا، ألمانيا.
» الحلقة الأولى(1-3): المشهد العراقي حتى النصف الأول من العام 2016
مثّل الغزو الأمريكي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين في مايو 2003، فرصة سانحة للجمهورية الإيرانية لبدء تنفيذ مخططاتها الطائفية في العراق، مستغلة في ذلك الانشغال بالدور الأمريكي كقوة “احتلال مباشر”، ومدت نفوذها بقوة إلى الداخل العراقي، حتى أصبحت اللاعب الأبرز على الساحة العراقية ورقماً في المعادلة الداخلية، ربما أكثر من المحتل المباشر ذاته، ودخلت من ثنايا موضوعين أساسيين، الأول يتمثل في استغلال الأخطاء التي وقعت فيها الإدارة الأمريكية لعملية نقل السلطة إلى العراقيين خلال الفترة الانتقالية بترسيخها نظام المحاصصة الطائفية، وتمثل الثاني في العملية الانتخابية العراقية، مستخدمة في ذلك إحدى أهم وأخطر أدواتها في العراق، وهي تحريك الطائفة الشيعية العراقية وميليشياتها المسلحة، لاسيما أن إيران بعد أن خاضت حرباً قاسية وموجعة لمدة ثماني سنوات مع العراق في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، أصبحت أجهزتها الأمنية والمخابراتية السرية والعلنية على دراية واسعة بالتضاريس السياسية والطائفية داخل العراق.
ولا نكاد نرى دليلاً على مدى التوغل الإيراني في العراق أوضح من اضطرار الولايات المتحدة للتباحث معها حول مستقبل العراق، وذلك في ظل الصدام القوي بين واشنطن وطهران بسبب برنامج طهران النووي آنذاك في ما يظهر على أنه اعتراف ضمني من الولايات المتحدة بعدم قدرتها على تحييد إيران في الشأن العراقي، وتلقفت إيران تلك التطورات الناتجة عن الأخطاء الأمريكية في نقل السلطة، ودعمت الحكومات الشيعية، وسارعت بالاعتراف بها وتوطيد العلاقات معها، وهو ما أعطى لطهران موطئ قدم في العراق في كل الحكومات التالية تقريباً، إذ عملت على ترسيخ القاعدة التي بدأتها الولايات المتحدة بـ”تعزيز النهج الطائفي في اقتسام السلطة”، واستكملت تنفيذ استراتيجيتها في العراق من خلال محاولة التحكم في “العملية الانتخابية العراقية” عن طريق حلفائها العراقيين أنفسهم، والمساهمة في تطبيق سياسة العزل السياسي ضد أعضاء البعث السابقين، وتواصل الدور الإيراني بعد انتهاء الانتخابات، لتتدخل في مرحلة تشكيل الحكومات المتتالية، لتصبح عراقية الأصل إيرانية القرار، ثم بناء الدولة العراقية بالصورة التي تناسب المشروع الإيراني عبر حل الجيش العراقي، وصياغة دستور خلا تماماً من الإشارة إلى عروبة العراق، واكتفى بالقول: “إن الشعب العربي في العراق جزء من الأمة العربية”، وأخيراً الإطاحة برموز أهل السنة وإقصاؤهم من الجسد السياسي.
ولم تسلم الشؤون الخارجية للعراق من التدخلات الإيرانية شأنها في ذلك شأن التدخلات في الشؤون الداخلية، إذ اعترضت إيران على الاتفاقية الأمنية بين العراق والولايات المتحدة المتعلقة بتحديد وضع القوات الأمريكية وانسحابها من العراق، ولهذا اضطر رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي للذهاب إلى طهران، في محاولة لطمأنة نظام طهران، والتعهد بأن ينص الاتفاق النهائي على منع الولايات المتحدة من مهاجمة إيران انطلاقاً من الأراضي العراقية، واستفادت إيران مرة أخرى من أخطاء واشنطن بسيطرة تنظيم “داعش” على مساحات واسعة من العراق، إذ تلاقت مرة أخرى المصالح الأمريكية والإيرانية من أجل القضاء على التنظيم، إذ يصعب تخيل قدرة الجيش العراقي وحده على التصدي لمقاتلي داعش دون مساعدة “قوات الحشد الشعبي” الموالية لطهران، وما اعتراف وزير الدفاع العراقي “خالد العبيدي” بالدعم الكبير الذي تلقاه هذه القوات من إيران إلا دليلاً على ذلك، وعلى هذا الأساس تغاضت واشنطن عن الدور الإيراني غير المسبوق في العراق الذي يرقى لمرتبة “الاحتلال” والذي شمل:
› تمويل وتدريب ودعم المليشيات الشيعية المسلحة؛ كفيلق بدر وقوات الحشد الشعبي التي تشارك في الحرب الدائرة الآن ضد داعش بالعراق، وارتكبت جرائم ضد أهل السنة بالأماكن التي تم تحريرها وجيش المهدي التابع لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وينتشر عدداً آخر من المليشيات الشيعية الموالية لإيران كحزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية وقوات بدر وعصائب أهل الحق وحزب الله العراقي.
› إرسال المستشارين والجنود العسكريين إلى داخل العراق؛ والدلالات على ذلك لا حصر لها، منها تأكيد قائد القوات البرية الإيرانية مطلع العام 2016 على وجود عناصر تابعة للجيش الإيراني في العراق بالتنسيق مع الحكومة العراقية لمواجهة داعش، تأكيد لجنة الدفاع بالبرلمان العراقي 2015 امتلاكها وثائق تثبت وجود 30 ألف مقاتل إيراني في العراق على الأقل، تأكيد السياسي العراقي “عدنان الباجة جي” بتاريخ 16/6/2016 أن طهران هي من توجه الأجهزة العسكرية وشبه العسكرية على الأرض، وتخطط لها برامج تحركاتها على الساحة العراقية، إشادة وزير الخارجية العراقي الأسبق بالتظاهرات التي تخرج في العراق للمطالبة بإنهاء التدخل الإيراني، كما أثبتت الوقائع على الأرض قتل قيادات كبرى في الحرس الثوري الإيراني على جبهات القتال في العراق مثل الجنرالين حميد تقوي وصادق ياري.
› الدعاية المذهبية وحملات الرعاية الاجتماعية التي تقوم بها المؤسسات الخيرية الإيرانية، مثل مساعدة الفقراء والمتضررين من حالة عدم الاستقرار وافتقاد الأمن في العراق، وإعادة بناء الأماكن الشيعية المقدسة، وإرسال الفرق الطبية، وإرسال رجال الدين الإيرانيين من “المجمع العالمي لأهل البيت”.
» المطامع الإيرانية في العراق
إن مصالح إيران الاستراتيجية في العراق هي أكثر من مجرد محاولة منهجية ومنظمة لصياغة “عراق جديد” ذي مواصفات خاصة وتركيبة معينة تضمن تحقيق هذه المصالح، بل كبداية لتنفيذ مخططاتها العبثية التي لن تتحقق وفقاً لصناع القرار في إيران سوى بالاحتلال الإيراني للعراق، لذلك فإن نقطة الارتكاز الطبيعية، بل والواقعية، لفهم حجم الاحتلال الإيراني للعراق هي الإدراك الصحيح لأبعاد وطبيعة المصالح الاستراتيجية الإيرانية الراهنة تجاه العراق ودول المنطقة، وهذه المصالح واضحة نسبياً، وفي معظمها معترف بها بشكل صريح، ومن ثم فاحتلال العراق لإيران له عدة أهداف:
1-الحيلولة دون ظهور العراق من جديد كتهديد لها، حتى تتمكن من إكمال مشروعها الصفوي لاحتلال المنطقة بتبنيها استراتيجية معقدة ذات ثلاثة محاور: (أولها) التشجيع على ديمقراطية الانتخابات كوسيلة لإنتاج الحكم الشيعي، (ثانيها) العمل على خلق درجة من الفوضى الداخلية يمكن السيطرة عليها، (ثالثها) الاستثمار في سلسلة واسعة من الفاعلين العراقيين من الشيعة، لضمان السيطرة الإيرانية على الوضع.
2-استهداف الطائفة السنية بالعراق، والقضاء على أي نفوذ أو دور سياسي لهم في مستقبل العراق والمنطقة، يضاف إلى ذلك هدف استراتيجي مهم هو ترهيب السُّنة في المنطقة من الوقوف ضد إيران وطموحها الإقليمي، وهذه الأهداف المركبة والمتداخلة تتحقق من خلال الاحتلال الإيراني المباشر أو غير المباشر للعراق.
3-العمل على حرمان الأكراد من إقامة دولتهم المستقلة، لأن ذلك يشجع القومية الكردية في إيران على الانفصال، وفي الوقت ذاته لا تريد طهران أن تظهر بشكل معاد لمطالب الأكراد بالحكم الذاتي في العراق، حتى لا تتنكر لتوجهاتها الثورية الثابتة والمعلنة في الدستور بدعم المستضعفين في الكون ضد القوى المستكبرة، وهذه المصالح كلها لن تتحقق سوى باحتلال إيران للعراق.ويجب ألا ننسى النفط العراقي كمصلحة استراتيجية مهمة لطهران، حيث ترى إيران أن مساعدتها للشيعة للسيطرة على نفط الجنوب ستسمح لها بالتحكم فيه، إنتاجاً وسعراً، ولو بصورة غير مباشرة، وكذلك حال الأكراد إذا سيطروا على نفطهم، فإن ذلك سيحرم السُّنة من الثروة الوطنية العراقية، وهذا يعتبر، من وجهة نظر طهران، أكبر انتقام منهم.
» حال العراق الآن: صراعات لا متناهية ودولة مجزأة
رغم أن الولايات المتحدة هي “المحتل المباشر”، إلا أن إيران هي “المحتل الحقيقي” للعراق بحرس الثورة وجيش القدس وعملائها الشيعة الموالين لها أكثر من ولائهم للعراق، وإذا ما نظرنا الآن إلى العراق، سنلحظ بكل بساطة ويسر انتشار “الصراعات اللا متناهية” والتي أسفرت عن “عراق مجزأ مهترئ”، نتيجة حالة الصراع الطائفي الدامي بين كافة فصائله ومكوناته، ويغيب فيه جيش وطني قوي يقوى على حماية العراق ووحدته، ويدرأ الدعوات إلى تقسيمه إلى كيانات منفصلة شيعية وكردية، ويحول دون انسلاخ العراق عن انتمائه العربي.
وفي ما يلي أبرز مؤشرات الصراعات اللا متناهية بالعراق:
أولاً: على الصعيد الأمني
(1) احتلال تنظيم “داعش” لبعض المدن العراقية الحيوية، حيث استغل التنظيم حالة الاضطرابات الأمنية وضعف الأجهزة الحكومية والجيش على الأرض نتيجة الأزمات المتتالية، والأسباب المزعومة للتنظيم باضطهاد الشيعة للسنة، وبادر باحتلال بعض المدن الحيوية، منها الموصل والفلوجة والأنبار ونينوى وكركوك وصلاح الدين وأجزاء من ديالى، وذلك منذ أكثر من عامين.
(2) عدم وجود جيش وطني قوي يمثل عنواناً للوحدة العراقية، حيث باتت الخطة الإيرانية واضحة جداً لجهة استبدال الجيش الوطني بـ “حرس ثوري” على الطريقة الإيرانية، عماده مليشيات “الحشد الشعبي” التي باتت عملياً تمثل القوة الضاربة في العراق.
والخطورة هنا أن هذا “الجيش” الجديد تجري تعبئته أيديولوجياً على قاعدة مذهبية صافية وضد المكونات العراقية الأخرى، ما يضع العراق في حرب أهلية طائفية ومذهبية إلى أمد غير منظور، وأهم نتائج ذلك زوال السيادة الوطنية العراقية.
(3) تحول العراق إلى بؤرة وملاذ لتجمع الإرهابيين من مختلف دول المنطقة، حيث حل العراق محل أفغانستان كميدان لتدريب الجيل المقبل من الإرهابيين، وأن العائدين منه سيحلون مكان الأفغان العرب، وأنه مع زيادة عدم الاستقرار هناك بعد سقوط “صدام” وإقصاء السنة، فإن مئات المقاتلين تدفقوا على العراق عبر الحدود المفتوحة، ووجدوا أطناناً من الأسلحة التي لا تخضع لأية حراسة، وأن النزاع في هذا البلد ساعد الإرهابيين على إيجاد ملاذ وسط فوضى الحرب، وقدم لهم أرضاً للتدريب، ومنطقة للتجنيد، وفرصة لتحسين الخبرات التكتيكية.
(4) مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشردين، وذلك نتيجة تصاعد أعمال العنف وتعدد أشكالها؛ حيث اتخذ التصعيد الأمني خلال الفترة الأخيرة بعدين رئيسيين، الأول من جانب القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي الموالية لإيران ضد “داعش، والتي وسعت من نطاق العمليات العسكرية التي تشنها ضد مدن “المثلث السني”، بهدف القضاء على ما تصفه بالتمرد، والجماعات الإرهابية فيها، وإخضاعها لسلطة الحكومة، مما أسفر عن وقوع مآس إنسانية كبيرة، تمثلت في سقوط القتلى والمصابين، أما البعد الثاني فيتمثل في أعمال العنف والمقاومة التي تشنها الجماعات المسلحة ضد قوات الأمن العراقية والمدنيين العراقيين؛ مما أسفر عن تدمير البنى التحتية، وهدم آلاف المنازل، ونزوح عشرات الآلاف من مدنهم.
ثانياً: على الصعيد السياسي
(1) ضياع العراق الموحد، والدعوة لتقسيمه إلى ثلاثة كيانات منفصلة: التحالف الأميركي الإيراني أجرى مبضعه في الجسد العراقي، وحسم في تقسيمه الجغرافي، حيث سبق للأميركيين أن باشروا بهذا التقسيم مطلع تسعينات القرن الماضي من خلال دعم الأكراد، وها هي إيران تستكمل التقسيم في سائر المناطق. ولا أحد يتحدث اليوم عن عراق موحد على ما كان عليه سابقاً، بل تسود هواجس عما يتطلبه استكمال التقسيم من جراحات ديموغرافية لخلق مناطق سكانية صافية الانتماء المذهبي والإثني، وهو ما يعني مزيداً من الحروب الأهلية وشلالات الدماء بين أبناء العراق.
(2) الصراع الطائفي الدامي بين مكونات الجسد العراقي: في الفترة الأخيرة كثرت الدلائل على أن هذا البلد أصبح يعيش، على الأقل، مراحل متقدمة من حرب عرقية وطائفية قد تنتهي إلى تفتيته وانهياره، الأمر الذي دفع العديد من المراقبين إلى الاعتراف بأن الوضع بات كارثياً، وأدت تلك الأوضاع المتدهورة إلى شيوع ظواهر أمنية خطيرة في هذا البلد، عمقت بدورها من حالة الانفلات الأمني التي يعانيها، يأتي في مقدمتها ظاهرة اختطاف وقتل الرهائن، والتي تعددت مبرراتها ما بين الأهداف الاقتصادية بغرض دفع الفدية، والأهداف السياسية بهدف الضغط على الحكومة، وبعض الدول التي توجد لها قوات في العراق أو رعايا يعملون به، علاوة على العاملين في الشركات العاملة في مجالات إعادة الإعمار؛ لإجبارها على مغادرة البلاد.
ثالثًا: على الصعيد الاقتصادي
استكمال مسلسل إفقار العراق؛ فبعدما أمعن الأميركيون فيه لدى احتلالهم المباشر له عام 2003، استكملت إيران المسلسل، ولعل أهم مظاهر هذا الإفقار يتجلى في نهب الثروات العراقية من خلال فئة واسعة من أهل الفساد العراقي والإيراني، حيث كان العراق يعتبر من أغنى الدول العربية في موارده، فإذا به اليوم يعاني الملايين من سكانه من الفقر والجوع، وتشير الدراسات الدولية إلى أن العراق يحتل المرتبة الأولى عالمياً في معدل الفساد ونهب ثرواته.
» مستقبل الدور الإيراني في العراق
في ظل احتلال العراق مكانة كبرى في الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن أيضاً على المستوى الديني كذلك، فإنه لا يبدو أن إيران تنوي تفويت أية فرصة في العراق، سواء حالية أو قادمة، بل إن الأحداث التي تشهدها المنطقة تدفع إيران باتجاه إيلاء العراق اهتماماً أكبر، فسيطرة داعش على أجزاء كبيرة من العراق، أثبتت أهمية العراق الأمنية بالنسبة إلى إيران، كونها لعبت دور حاجز لزود خطر هذا التنظيم عنها، وكذلك الأمر في ما يتعلق بالأزمة في سوريا، لذا فإن عدم قدرة إيران على حسم الحرب بعد أكثر من 5 سنوات من مختلف أشكال الدعم لحليفها الأسد، وكذلك أزمة انخفاض أسعار النفط، وأزمة اليمن، كلها تؤكد عدم امتلاك إيران رفاهية التخلي، ولو جزئياً، عن مكاسبها في العراق.
وفي مقابل هذا، فإن استمرار سياساتها الطائفية في بغداد قد تؤدي إلى سيادة حالة “الصراعات اللا متناهية” التي تشهدها العراق لفترة طويلة جداً، ومن ثَم قد يتكرر مشهد استغلال داعش للانتفاضة العشائرية ضد المالكي، والتي جاءت رداً على فضه لاعتصاماتهم المناهضة لسياساته الطائفية، وذلك ما يُثير مخاوف من “عصر إيراني قادم” قد تمثل العراق نقطة انطلاق له، وتجد تلك التخوفات دعائمها في التحركات الإيرانية الواسعة في المنطقة، سواء في سوريا أو لبنان أو اليمن.
(وسوف نتطرق في الحلقة الثانية للمشهد السوري). الجزء الثاني (2-3)