كان اقتراح محمد خاتمي من أجل المصالحة الوطنية في أعين كثيرين اقتراحًا خامًا وسابقًا لأوانه، والردّ عليه أيضًا كان متوقَّعًا منذ البداية، لكن المرشد عوضًا عن اختيار السكوت إزاء هذا الاقتراح ومِن ثَمَّ يطويه النسيان، كما هي عادته، كشف جميع أوراقه معًا بجوابه السلبي الواضح، وألقى على عاتقه مسؤولية استمرار الوضع القائم وتبعاته، وأثبت ثانية أنه ليس مستعدًّا هو أو أنصاره الأمنيون و”الحرسيون” من أمثال حسين طائب وشريعتمداري، للتصالح أو التراجع عن موقفهم.
في الحقيقة رفض المصالحة الوطنية سُجّل إلى جانب أخطاء المرشد كثاني خطأ استراتيجي لا يمكن تعويضه، بالطبع الخطأ الأول هو الجملة التي كرَّرها عام 2009 وقال فيها إنّ رأيه أقرب إلى رأي أحمدي نجاد، وبعدها انهارت الدولة آنذاك، هذا يعني -حسب معرفتنا بمحمد خاتمي والظروف الداخلية- أنه يقصد بالمصالحة الوطنية فقط انفتاح الأجواء قليلًا أمام التيَّار الإصلاحي داخل النظام، وليس حتى إجراء انتخابات حرة ونزيهة، أو إعلان العفو العامّ، أو أن يعود المتنورون والصحفيون الذين هربوا من إيران خوفًا على أرواحهم.
ربّما انخدع خاتمي الباحث عن المصالحة بحيلة بعض الأمنيين المدروسة الذين يُقال إنهم قبلوا اقتراح الإصلاحيين التفاوض فقط حول بعض المصالح خوفًا من ترامب. مهما يكُن فإن اقتراح خاتمي المصالحة الوطنية يشبه مركبة مهترئة تؤدّي مَهَمّة طائرة “إيرباص”.
انعكاس التوتُّرات في حكومة ترامب على إيران
خلال الأيام الأولى التي تَسلّم فيها ترامب زمام السلطة، وعندما أصبحت قضية التهديد العسكري ضدّ إيران وتمزيق الاتفاق النووي جدّية، كان جميع المسؤولين ينتظرون العدّ التنازلي لبدء الأزمة في العلاقات بين إيران وأمريكا، لكن قرارات المحاكم الأمريكية حول منع دخول أتباع بعض الدُّوَل إلى أمريكا، جعلت الأمنيين في إيران يتصورون أنّه لا يجب “القبول بالموت خوفًا من الحُمّى”، ولا يجب الابتهاج بالإصلاحيين بسبب ترامب.
قبل يومين خطا ترامب أكبر خُطاه الخاطئة، واتّهم في حوار صحفي جميع وسائل الإعلام الأمريكي بالكذب، وجعل البيت الأبيض يواجه جميع قنوات أمريكا الخبرية. إنّ استقالة مستشار الأمن القومي الأمريكي، وطلب “نيويورك تايمز” إجراء تحقيقات حول علاقات حكومة ترامب بروسيا، مؤشّر على الأزمات الجديدة في أمريكا، الأمر الذي من شأنه تأخير البَتّ في ملف إيران وإلغاء الاتفاق النووي في الوقت الحالي، لذا يمكن تصوُّر أن الخطر المسمّى “ترامب” ليس خطرًا فوريًّا يواجه إيران، لكن مع هذا فالجميع متفقون على أن إيران تواجه حقيقةً طريقًا مسدودًا سياسيًّا واقتصاديًّا، والخروج من هذا الطريق، سواء بوجود تهديدات ترامب أو بعدم وجودها، أمر ليس بسهل.
ثماني أزمات مدمّرة ومتسلسلة تهدّد إيران
بإلقاء نظرة على أزمات إيران خلال العامين الماضيين، التي اختار خامنئي السكوت إزاءها على العكس من اقتراح المصالحة الوطنية، نرى أنّ الصعيد السياسي والاجتماعي في إيران مليء بالأزمات؛ كارثة رشّ الحمض على وجوه النساء في أصفهان، وأزمة اختلاسات المسؤولين والمؤسسات الحكومية المتتالية لمليارات الدولارات، وقضية الرواتب الفلكية، وملفّ سعيد الطوسي، والكشف عن 63 حسابًا بنكيًّا باسم رئيس السلطة القضائية شخصيًّا، وإيداع 20 مليار تومان (5 ملايين و200 ألف دولار تقريبًا) أرباحًا شهرية في حساب صادق لاريجاني، وملفَّات الفساد المنتشرة في البلديات، وتسليم أملاك البلدية الباهظة الثمن لأصحاب النياشين، وكارثة انهيار مبنى “بلاسكو”، وظهور فشل إدارة بلدية طهران، والأشدّ إيلامًا من ذلك كلّه أزمة الغبار الوطنية التي تهدّد كلّ محافظة الأحواز وهجرها من السكّان وتحوُّلها إلى محمّرة “خرّمشهر” وعبدان أُخرى. كلّ هذه الأزمات تشير إلى أنّ دولة باسم إيران يحكمها نظام يسمي نفسه “الجمهورية الإسلامية” طِبقَ المواصفات العالَمية، تواجه مخاطر حقيقية، واستمرار هذه العملية بمثل هذا الأداء سيحمِّل النظام والدولة خسائر لا يمكن تعويضها.
العوامل المذكورة ستؤدّي بطبيعة الحال إلى الفرضية البديهية التي تقول إن المشكلات البنيوية والذاتيّة لـ”الجمهورية الإسلامية”، التي ينبع أهمُّها من الدستور والصلاحيات “السماوية” لولاية الفقيه، فضلًا عن عناد الطبيعة، لا يمكن إزالتها أو إصلاحها. بعد 38 سنة أظهرت “الجمهورية الإسلامية” كلّ ما بوسعها إظهاره، وهذه المُدّة كافية لجَنْي ثمار أي نموذج سياسي. بعد 38 سنة أصبح توفير لقمة الخبز والعمل والماء الصالح للشرب والسكن والصحّة والتعليم والراحة النسبية لجميع فئات الشّعب أصعب من ذي قبل، بل لا يمكن الوصول إليه.
إنّ أقلّ ما يمكن أن يوفّره نموذج للتنمية هو تأمين الاحتياجات الضرورية الأولية التي يحتاج إليها المواطنون من أجل حياتهم اليومية، لكن الأزمات الثماني التي أُشيرَ إليها حلّت محلّ الأمن والاستقرار والماء والكهرباء والمواصلات المجانية، التي كان الخميني يَعِد بها عندما قدم إلى إيران، لكن اليوم، في ظلّ تهديدات الرئيس الأمريكي التي تتكرر يوميًّا، يجب اللجوء إلى طريق حلّ مختصرة تغيّر مسار التهديدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وفي نفس الوقت يمكنها إيجاد حلّ إجرائي، وأكثر حنكة، وأقلّ ضررًا، للخروج من جميع هذه الأزمات السياسية والإدارية.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بركسيت)، أو بعبارة أخرى نموذج التصويت الشعبي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من عدمه، اقتراح جُرّب في عدة دول للاستمرار أو عدم الاستمرار في وضع معيَّن، وفي الحقيقة إذا لم يكُن اقتراح المصالحة الوطنية ناجعًا في التخطيط للمستقبل، فأكثر الحلول أمانًا هو مشروع شبيه بـ”بركسيت”. خلال السنوات العشر الأخيرة طُبّق هذا المشروع في ثلاث دول مهمَّة للاختيار بين الاستمرار في الأوضاع الموجودة من عدمه:
1- التصويت على استقلال اسكتلندا عن بريطانيا (18 ديسمبر 2014)
في هذا الاستفتاء الذي شارك فيه 85% من الاسكتلنديين، صوّت ما نسبته 56% ضدّ الانفصال عن بريطانيا، في حين كانت نسبة من يرغبون في الانفصال 44%، وانتهى النقاش بذلك حول الانفصال عن بريطانيا.
2- اللجوء إلى الاستفتاء حول استقلال كيبك الناطقة بالفرنسية عن كندا
تُعتبر ولاية كيبك الناطقة بالفرنسية أكبر ولايات كندا مساحةً، فهي أقلّ بقليل من مساحة إيران. جرى في هذه الولاية خلال عامي 1980 و1995 استفتاءان لتنظيم الإجراءات القانونية التي تمهّد للانفصال عن كندا، وباءت كلتا المحاولتين بالفشل، وفي عام 2014 مُنِيَ الحزب القومي المتطرف الذي يدعم الانفصال في الانتخابات بهزيمة نكراء أمام الحزب الليبرالي الذي يعارض الانفصال، وبهذا أُغلق ملفّ هذه القضية إلى الأبد دون حرب أو إراقة للدماء، لكن خلال عملية الاستفتاء التي صاحبَتها شعارات برّاقة من دُعاة الانفصال، كان الشعب الكندي يفكّر في أن مصالحه الاقتصادية سوف تتعرَّض للخطر في حال الانفصال عن كندا، وأن كثيرًا من الفرص سوف تضيع، لذا رأوا أنّ من الواجب أن لا يُسلِّموا أنفسهم للمشاعر.
3- البركسيت وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي
بعد استفتاء يونيو 2016 انسحبت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مما جعل بريطانيا والاتحاد الأوروبي في مواجهة تبعات سياسية واقتصادية جديرة بالاهتمام، في خريطة التصويت صوّت الاسكتلنديون وسكان إيرلندا الشمالية ضدّ الانسحاب، لكن الإنجليز وأهالي ويلز، فضلًا عن سكّان لندن، كانوا يريدون الخروج من الاتحاد، لكن بعد هذا الاستفتاء ظهرت رغبة لدى إيرلندا الشمالية واسكتلندا في العودة مجدَّدًا إلى الاتحاد من خلال إجراء استفتاء مرة أخرى.
“بركسيت” إيران
إن المصالحة الوطنية هي طريق لحلّ الاختلاف المتأزم البنيوي المستعصي في وجهات النّظر، الذي لم تتمكن المجتمعات المختلفة من إيجاد حلّ له بالطرق المعتادة، في حين سيتسبب استمرار هذه المشكلات بعد سنوات في إضعاف جميع البنى السياسية والاجتماعية، وعلى هذا الأساس عادة ما يكون الأشخاص الذين يقدّمون اقتراح المصالحة الوطنية (مثل أولئك الذين يطالبون بالنزاهة حول الحسابات البنكية، أو الذين يصرّون على إجراء انتخابات نزيهة دون عنصرية، أو حتى الذين يؤكّدون موضوعات جديدة مثل البيئة) هم الذين لديهم استعداد للتنازل عن مصالحهم من أجل المصلحة العامّة.
على النقيض من ذلك، ففي جميع الأنظمة السياسية يُعتبر الأشخاص الذين لا يحتملون اقتراح المصالحة الوطنية ويعارضونه، هم أنفسهم مسبِّبي الجزء الأكبر من الأزمات المستعصية، ومن تهدّد المصالحة مصالحهم الشخصية.
بناءً على هذا، إذا لم تتمكّن الأنظمة السياسية من توفير طريق للخروج من الأزمات القديمة المستعصية من خلال المصالحة الوطنية، ودعوة من طُردوا للعودة إلى المشاركة في جميع المجالات، فعلى ساحة العلاقات الدولية خيارات أخرى مطروحة جُرّبت سابقًا.
في ما يخصّ إيران، إذا كانت “الجمهورية الإسلامية” ونظام ولاية الفقيه متّصلَين بالسماء، واستمرارًا لمسيرة الأنبياء، كما يزعمون، فإن إجراء استفتاء مثل ما حدث في بريطانيا أو كندا أو اسكتلندا، سيؤدّي إلى تأييد هذا النظام بما يحتو عليه من عناصر ومؤسسات، وإلا، فإذا تَقَرَّر أن يواجِه اقتراحُ المصالحة الوطنية، كحلٍّ مقترَح للخروج من الأزمة، الرّفضَ وكلام الهراء، فقد يأتي اليوم الذي لا يمكن فيه إنقاذ الدولة حتى بالمصالحة الوطنية.
السّادة مديرو الدولة الأساسيون، الذين تزيد أعمارهم في الغالب على 80 عامًا ولديهم مجموعة من أنواع السرطانات والأمراض المستعصية، ليسوا قلقين إزاء مستجَدَّات الأعوام العشرة القادمة ولا المصالحة الوطنية، لأننا نعلم أين سيكونون بعد عشر سنوات، لكنّ جيل الشباب إذا أصابه اليأس والإحباط إزاء السنوات العشر المقبلة ولم يتمكّن من بعث الأمل في نفسه، في هذه الحالة قد يجد فريق ترامب بالتعاون مع إسرائيل الحلّ لمستقبل إيران.
مادة مترجمة عن موقع زيتون
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز