بناء الدول شرطٌ لتفكيك شبكة النفوذ الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=35484

بواسطةد.محمد بن صقر السلمي

تمدّ إيران شباكَ نفوذها عبر منطقة الشرق الأوسط، مستغِلَّةً فراغات السُلطة في بعض الدول، حيث يِجدُ وكلاؤها من غير الدول هشاشةً في مؤسَّسات دولهم. وتقوم إستراتيجية إيران على استخدام شبكة النفوذ كوسيلة لتحقيق غاية إيجاد عُمق إستراتيجي لنفسها؛ لتُصبح لاعبًا إقليميًا أساسيًا، دون أن تُحمِّل قيادتها تكاليف تلك الإستراتيجية بشكل مباشر. وفي هذا السياق، فإنَّ الفاعلين من غير الدول يبسطون لإيران نفوذًا في المنطقة، دون أن يكلِّفوها سياسيًا ما يجب أن تدفعهُ مقابل تحقيق طموحاتها الأيديولوجية، في ظل تبنِّيها سياسةَ «الإنكار المقبول»، التي تُسدِل الستار على وجه الفاعل الحقيقي؛ وبالتالي تُعيق أيّ محاولات أمام كبْح جماح أجندتها وأيديولوجيتها دون زعزعة استقرار المنطقة بأكملها.  

وفي سبيل وضع إستراتيجية فاعلة لمواجهة وكلاء إيران وشركائها، وتفادي التصعيد العسكري في نفس الوقت، فإنَّ الخيارَ الأنجع والأنسب، هو تنفيذ سياسة تركِّز على الشد من أزر كيان الدولة ومؤسَّساتها في الدول العربية، التي تعاني من الهشاشة السُلطوية، مثل العراق ولبنان واليمن. ذلك أنَّ توطيد سُلطة الدولة ومؤسَّساتها، ودعْم هذه العملية وإيجاد ما يحفِّز لها، سيؤدِّي إلى إيجاد ضغط مضاد لإيران ولميليشياتها. وما تعانيه تلك الدول من أزمات سياسية متكرِّرة، سببها في الأساس طبيعة أنظمتها السياسية، وإذا ما أرادت حلَّ أزماتها ومواجهة إيران، فلن يكون الحل الأمثل لها استخدام القوّة بهدف استعادة الردع، كما يحدُث بعد كل تصعيد عسكري أعقب السابع من أكتوبر.

بل يجب أن تقوم الإستراتيجية الجديدة على تعزيز بناء الدول، بعد إنهاء الصراعات العسكرية؛ لأنَّ الرد على سلوك إيران الإقليمي عسكريًا، لن يكون كافيًا لردع نفوذها الأيديولوجي في المنطقة، بخلاف إستراتيجية بناء الدول، التي تهدف إلى اقتلاع نفوذ إيران في المنطقة من جذوره. وفي سبيل ذلك، فإنَّ الخطوة الأولى هي تأسيس ضغطٍ من داخل تلك الدول ضدّ نفوذ إيران، وتقوم الإستراتيجية الجديدة على ثلاث ركائز؛ الأولى هي التركيز على تحسين الحوكمة وبناء الدولة، وقد يتِم ذلك من خلال تعزيز قُدرة الحكومات في الدول المنكوبة بالصراعات من خلال إصلاح الإدارات العامَّة، وهي خطوة نحوَ زيادة فاعلية مؤسَّسات الدولة، كما يجب على السُلطات الوطنية تبنِّي إجراءات تكافح بها الفسادَ لاستئصال الفساد الممنهج. والركيزة الثانية هي إصلاح قطاع الأمن، بهدف تعزيز مبادرات تحقيق أمن المجتمع، وبناء الثقة بين قوّات الأمن والشعب. والثالثة هي الالتفات إلى التطوير الاقتصادي لجذب الاستثمارات الأجنبية، وكذلك إيجاد بيئة بنّاءة للمستثمرين من الخارج. وفي هذا الصدد، ينبغي الاستثمار في البنية التحتية والخدمات الحيوية لتحفيز النمو الاقتصادي.

وترمي جوانب الإستراتيجية الثلاثة إلى التماسك المجتمعي، وتحقيق الشمولية والمصالحة الوطنية بعد صراعات امتدَّت لعقود، حيث أنَّ التواصل مع القُوى الإقليمية -على المستوى الدبلوماسي- سيُقلِّل التدخُّلات الخارجية، وسيُساهم في دعم مبادرات التعاون الإقليمي على التصدِّي للتحدِّيات المشتركة، مثل الإرهاب، ومحاولات التهريب، والقضايا البيئية. وعلى المستوى الدولي، ينبغي على الدول الهشَّة إقامة شراكات ثُنائية إستراتيجية مع القُوى الدولية المهتمَّة بالاستقرار الإقليمي؛ إذ إنَّ من شأن تلك الشراكات أن تعزِّز الحوكمة، وتقِف في وجه نفوذ الأطراف المتحاربة.

ولن يكون هذا النهج الشامل سبيلًا إلى تجاوُز المخاوف الأمنية الآنية فحسب، بل إلى وضْع حجر الأساس لاستقرارٍ وازدهار بعيد المدى. ولعلَّه من الواضح، أنَّ انتشار الأطراف الفاعلة من غير الدول، قد احتدَّ منذ ما يزيد عن عقديْن؛ بسبب الحربيْن الأمريكيتين في أفغانستان (2001م – 2021م)، وفي العراق (2003م – 2011م). وحاليًا، يجب أن تدفع المخاوف من اندلاع حرب إقليمية وسط التوتُّرات بين إيران وإسرائيل، الأطرافَ العربية والدولية إلى إيجاد ردٍ سياسي على ما تفرضُه الدول الهشَّة من مخاطر؛ إذ إنَّ تلك الهشاشة قد تنتشر في المنطقة، في حال لم تُعالَج، والخيار الوحيد المُتاح لحلِّها، هو الرد على استغلال إيران لها من داخل تلك الدول اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا؛ لتجنُّب سيناريو التصعيد الإقليمي غير المُحبَّذ. وفي ظل استغلال إيران للاستقطاب الأيديولوجي في لبنان والعراق واليمن، فإنَّ الهشاشة في تلك الدول لن تُحَل في غمضة عين، بل من خلال إستراتيجية طويلة المدى، تضمن الرد على ما تواجهُه تلك الدول من تحدِّيات داخلية، وما تفرضُه من مخاوف على الصعيد الدولي بشمولية. وضمن تلك الإستراتيجية، تتصدَّر المصالحة الوطنية الشروط؛ لأنَّها ستُقدِّم المصالحَ الوطنية على النفوذ الخارجي، لا سيّما الإيراني، وستذهب بتلك الدول إلى ما هو أبعد من لعبة الشد والجذب والتنافس الإقليمي والدولي ذات المحصِّلة الصفرية. ويمكن تحقيق المصالحة الوطنية من خلال اتفاقٍ إقليمي بهدف منْع تصادُم مصالح القُوى الكُبرى، خصوصًا أنَّ دولَ المنطقة تسعى إلى تقليص اعتمادها على القُوى الخارجية.

وقد يكون بروز أجندات مستقِلَّة للدول العربية مثالًا تحتذي به الدولُ الهشَّة، التي عليها أن تركِّز على تنميتها الاجتماعية والاقتصادية، بدلًا من أن تكون جزءًا من ألعابٍ محصِّلتها صفر. فمثلًا في السياق الفلسطيني، يجب أن يضعَ الفلسطينيون أجندتهم السياسية بأنفسهم، وأن يرسموا مسارهم بعيدًا عن المحدِّدات الخارجية، إذا ما أرادوا الوصولَ إلى آمالهم وتطلُّعاتهم. وهذا النهج الوحيد، الذي سيقودُهم إلى الإجماع الوطني على أجندةٍ وطنيةِ الصيغةِ والهدف، تتوافق مع مصالحهم وغاياتهم. وفي هذا المسعى، فإنَّ أمامَ الفلسطينيين وغيرهم ممَّن يواجهون ظروفًا مأزومة في المنطقة، تحدِّيًا كبيرًا لتجاوز الخلافات، والوصول إلى ما يخدم مصالحهم الوطنية الكُبرى.

المصدر: Arabnews


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية