بيان الخارجية السعودية ومسار القضية الفلسطينية

https://rasanah-iiis.org/?p=34062

أعلنت وزارة الخارجية السعودية في تصريح رسمي أنها أبلغت الولايات المتحدة في السادس من فبراير 2024م بأن الرياض لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون إقامة دولة فلسطينية، كما أوضحت المملكة أن التطبيع مرهون بوقف العدوان الإسرائيلي وانسحاب القوات كافة من قطاع غزة.

وقد جاء هذا الإعلان ردًّا على التصريح الذي صدر عن المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، جون كيربي، بأن إدارة الرئيس جو بايدن لا تزال تعمل على تحقيق التطبيع بين السعودية وإسرائيل، وقد وجد هذا الموقف السعودي صدى كبيرًا داخليًّا وخارجيًّا، باعتباره يؤكد موقف المملكة من الصراع، ويحمل تأثيرات مهمة في التفاعلات الخاصة بالأزمة، وذلك بالنظر إلى التطورات التي يشهدها الصراع في غزة، فضلًا عن أنه سيكون ورقة ضغط مهمة على الولايات المتحدة من أجل الضغط على إسرائيل لتغيير مواقفها بشأن الحملة العسكرية غير المسبوقة على قطاع غزة.

أولًا: السياق والخلفية

من المعلوم أن المحاولات الأمريكية لتحقيق اختراق في مسألة تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل كانت  تجري على قدم وساق قبل حرب غزة، وكانت إدارة بايدن على وشك وضع اللمسات الأخيرة لاتفاق تاريخي، لكن جاءت عملية «طوفان الأقصى» ثم الحرب الإسرائيلية على غزة لتضع حاجزًا أمام المُضي قُدمًا في هذا الطريق، إذ وقفت السعودية المحاولات الأمريكية لمناقشة مسألة التطبيع، تحت وطأة الحرب الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة.

فعلى مدى قرابة ثلاثة أشهر منذ بداية الأزمة، ترك احتدام الصراع تداعيات إنسانية كارثية كان من الصعب تجاوزها، إذ شنت إسرائيل هجومًا قاتلًا على غزة في أعقاب هجوم شنته حماس في 7 أكتوبر 2023، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 27585 فلسطينيًّا وإصابة 66978 آخرين، بينما يُعتقد أن ما يقرب من 1200 إسرائيلي قُتلوا في هجوم حماس.

وقد أدى الهجوم الإسرائيلي إلى نزوح 85% من سكان غزة داخليًّا وسط نقص حاد في الغذاء والمياه النظيفة والأدوية، في حين تضررت أو دُمِّر 60% من البنية التحتية للقطاع، وفقًا للأمم المتحدة.

علاوة على ذلك، أظهر اليمين الإسرائيلي مواقف متشددة بشأن فكرة الدولتين، وراهنت إسرائيل في البداية على عملية التهجير لشعب غزة نحو مصر، فقد تغيرت القناعات العربية عمومًا، والسعودية على وجه الخصوص، واستعادت القضية الفلسطينية أولويتها، ووحدت موقف الدول العربية، وظهرت خلافات عميقة مع الولايات المتحدة بشأن موقفها ومساندتها اللا محدودة لإسرائيل، التي انعكست سلبًا على الأمن والاستقرار الإقليمي ككل.

وفي هذا الإطار حاولت إدارة بايدن أن تمارس ضغوطها على شركائها الإقليميين، بمن فيهم المملكة، من أجل إقناعهم بقبول السياسة المنسقة التي تتابعها مع إسرائيل بشأن قطاع غزة، وخططها من أجل المستقبل، لكن رفضت الدول العربية، ومعها المملكة، تأييد الموقف الأمريكي-الإسرائيلي.

ومع أن الصراع وتسويته وبحث خطط المستقبل كان هو محور السياسة الأمريكية في المنطقة وجولات عناصر إدارته، لم تتخلَّ إدارة بايدن خلال هذه الجولات عن أملها في أن تُعيد مسار المفاوضات مع السعودية من أجل تحقيق مكسب سياسي أولًا لبايدن قبل الانتخابات المزمع عقدها نهاية عام 2024، وثانيًا لأجل دفع إستراتيجيتها الإقليمية وتأكيد نفوذها، وأخيرًا لتجاوز تأثيرات حرب غزة في هذا المسار الذي يعوّل عليه رافعةً لتغيير المنطقة.

وقد كانت الولايات المتحدة ترغب في أن تفصل مسار الحرب عن مسار التطبيع، وذلك لتضييق الخناق على الفلسطينيين وحصرهم في الزاوية بلا أفق في المستقبل، ولفرض واقع جديد ربما على دول الطوق، لا سيما مصر والأردن، وكانت واشنطن تضغط على الرياض في هذا الإطار، وهنا يشار إلى أنه خلال يناير 2023م أرسل الرئيس بايدن ثلاثة من كبار مستشاريه إلى الرياض، وقال البيت الأبيض إن هدفهم كان «مناقشة المسائل الثنائية والإقليمية، بما في ذلك المبادرات الرامية إلى تعزيز رؤية مشتركة لمنطقة شرق أوسط أكثر سلمًا وأمنًا وازدهارًا واستقرارًا ومترابطة مع العالم».

لكن مع احتدام الصراع وخروجه عن السيطرة، اتضح للولايات المتحدة أن إستراتيجيتها ونفوذها في المنطقة لا يمكن أن يتعزز دون التعاون مع الحلفاء، ومن هنا بدأت الإدارة الأمريكية تسمع إلى نصائح دول المنطقة، بما فيها السعودية، وبدأت تغيير مواقفها من الأزمة تدريجيًّا وصولًا إلى بحثها عن هدنة ووقف لإطلاق النار بعد إصرار تام في البداية على هدف القضاء على المقاومة الفلسطينية، الذي ثبت أنه أمر قد يجر المنطقة إلى صراعات مفتوحة.

ثانيًا: الأبعاد والدلالات

يحمل الموقف السعودي أبعادًا ودلالات متعددة يمكن توضيح أهمها على النحو الآتي:

1. تباين في المواقف مع إدارة بايدن:

يبدو أن السعودية قد أزعجتها محاولة الإدارة الأمريكية الترويج أن مسار التطبيع ممكن، والادعاء بأن المناقشات حول اتفاق التطبيع السعودي-الإسرائيلي تتقدم بشكل منفصل عن المحادثات بشأن وقف إطلاق النار في غزة، مع وجود استعداد لاستكمال المفاوضات بالرغم من المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، ويؤكد ذلك أن الموقف السعودي أعقب زيارة بلينكن مباشرة للرياض، كما أعقب مباشرة رد المتحدث باسم البيت الأبيض، جون كيربي، عندما سئل خلال مؤتمر صحفي في السادس من فبراير 2023 عما إذا كان تأمين صفقة الرهائن بين حماس وإسرائيل واتفاق التطبيع بين السعودية وإسرائيل جزءًا من نفس الجهود الأمريكية، قال المسؤول الأمريكي «إن القضيتين شيئان منفصلان». وهكذا يهدف البيان السعودي إلى قطع الطريق على محاولة فصل مسار الصراع عن مسار التطبيع المأمول من إدارة بايدن.

2. تأكيد موقف ثابت من القضية الفلسطينية:

ومع أن الموقف السعودي أكد تمسك السعودية بموقفها الراسخ من القضية الفلسطينية، غير أنه لم يكن الأول، فقبل أيام وعلى هامش منتدى دافوس، قال وزير الخارجية السعودية، الأمير فيصل بن فرحان، في حوار أجراه مع شبكة «سي إن إن» في 20 يناير 2024م: «إن المملكة العربية السعودية لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم تُحل القضية الفلسطينية أولًا»، وقد أضاف البيان أن «المملكة العربية السعودية كانت دائمًا ثابتة على القضية الفلسطينية وضرورة حصول الشعب الفلسطيني الشقيق على حقوقه المشروعة»، وهو موقف مقابل لموقف حكومة نتنياهو برفض فكرة إقامة دولة فلسطينية من الأساس.

ويشير ذلك إلى وجود التزام المملكة موقفها على الرغم من الضغوط من الجانب الأمريكي، وعلى الرغم من الاعتراض الإسرائيلي.. إضافة إلى ذلك فإن السعودية منذ بداية الأزمة قد أظهرت دعمًا سياسيًّا كبيرًا للفلسطينيين، ووجهت انتقادات حادة لمواقف وتصريحات حكومة نتنياهو، واستخدمت أدواتها السياسية والدبلوماسية من أجل وقف الحرب الكارثية، ناهيك بالدعم الإنساني لقطاع غزة المتمثل في القوافل الإغاثية عبر الجو والبحر والبر، وكذلك التبرعات الشعبية التي تخطت حاجز 166 مليون دولار أمريكي.

3. موقف حاسم معارض لسياسات ونهج إسرائيل:

لم يتوقف التصريح السعودي على تأكيد إقامة الدولة الفلسطينية، بل إنه أكد وقف العدوان الإسرائيلي، وانسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، وبالتالي يمثل الموقف السعودي إعادة توجيه البوصلة العربية نحو أولوية القضية الفلسطينية ومركزيتها، كما يعكس هذا الموقف من موقع القيادة المطالب العربية التي لا خلاف بشأنها، التي هي محل إجماع، سواء ما يتعلق بوقف العدوان، أو الانسحاب الإسرائيلي من غزة، أو إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس، وذلك وفق قواعد وضوابط الشرعية الدولية. وبالمقابل هو رفض قاطع لسياسة المتطرفين في إسرائيل ورغبتهم الجامحة في القفز على حقوق الشعب الفلسطيني. وقد سبق ورفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اقتراحًا من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يقضي بتطبيع السعودية العلاقات مع إسرائيل مقابل الموافقة على تزويد الفلسطينيين بمسار نحو إقامة الدولة.

4. محاولة لنيل اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية:

لا تسجل السعودية موقفًا من وراء هذا التصريح، بل إنها تطالب وتضغط من أجل اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، لا سيما من جانب الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، حيث دعا البيان السعودي مجلس الأمن الدولي والدول الدائمة العضوية إلى الإسراع في الاعتراف بالدولة الفلسطينية حتى يتمكن الشعب الفلسطيني من الحصول على حقوقه المشروعة وحتى يتحقق السلام الشامل والعادل للجميع، بذلك تضغط السعودية على إسرائيل والولايات المتحدة والمجتمع الدولي وتستغل الظروف الراهنة لإحداث نقلة نوعية للقضية الفلسطينية. وفي حين أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو رفض حل الدولتين تقريبًا وأن نسبة كبيرة من الإسرائيليين ستعارض إطار عمل يستند إلى حدود ما قبل عام 1967، فإن البيان السعودي يلقي بالمسؤولية على أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

ثالثًا: التداعيات والتأثيرات

لقد صاحب إعلان الخارجية السعودية نقاشًا كبيرًا بشأن تداعياته وتأثيراته على أكثر من صعيد، ويمكن إبراز أهم هذه التداعيات والتأثيرات:

1. تراجع أولوية التطبيع:

في ظل الموقف السعودي الحاسم، الذي رهن تطبيع العلاقات مع إسرائيل بمستقبل الدولة الفلسطينية، بل والانسحاب من قطاع غزة وإنهاء العمليات العسكرية، وفي ظل موقف حكومة نتنياهو من رفض إقامة الدولة الفلسطينية، فضلًا عن التعقيدات الضخمة التي تقف أمام استعادة الوضع الذي سبق 5 يونيو 1967، فإنه من الواضح أن مسألة التطبيع ستكون بعيدة المنال في الوقت الراهن، ناهيك بالعودة إلى المفاوضات الخاصة بها. فالمؤكد أن مجريات الصراع والتغييرات بعد حرب غزة، بما في ذلك تغير الديناميات الإقليمية، والانتخابات الأمريكية التي تداهم بايدن، تشير إلى أن مسألة التطبيع لن تكون لها الأولوية خلال المرحلة الراهنة، لا من جانب السعودية ولا من جانب إسرائيل، ولا حتى الولايات المتحدة التي تلقت الرد السعودي الحاسم على محاولة إدارة بايدن فصل المسارات.

2. ورقة ضغط على إدارة بايدن وحكومة نتنياهو:

إن الموقف السعودي هو بمثابة ورقة ضغط مهمة على إدارة بايدن من أجل ممارسة ضغوط متزايدة على الحكومة المتطرفة في إسرائيل، وذلك لأجل إقناعها بتغيير مواقفها أو البحث عن أطراف أكثر اعتدالًا للتعاون معها بهذا الشأن، وقد ظهر ذلك من تصريحات بلينكن بعد زيارته الرياض في السادس من فبراير بأنه على الحكومة الإسرائيلية أن تتخذ قرارات صعبة والتحرك نحو حل الدولتين، إذا كانت تريد تطبيع العلاقات مع المملكة العربية السعودية، ومع أن حكومة نتنياهو ترفض حل الدولتين، ففي الحقيقة تواجه وضعًا صعبًا، وقد تدفع الضغوط نحو تغييرها، بما في ذلك الضغوط الأمريكية التي تبدو أنها قد اقتنعت بأولوية السلام الشامل على التطبيع المحدود.

3. تعزيز الزخم الدولي بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية:

من خلال توجيه السعودية طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية إلى أعضاء مجلس الأمن، مثل الولايات المتحدة، وليس إلى إسرائيل، يمكن النظر إلى أن الرياض تقدم طريقة للالتفاف على رفض حكومة نتنياهو حل الدولتين، كما أنها تشجع مسارًا دوليًّا للاعتراف بالدولة الفلسطينية للضغط على إسرائيل، مستغلة التعاطف الدولي مع الفلسطينيين بعد مأساة غزة، وتغير مواقف بعض الحكومات من الصراع، كإعلان وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون أن حكومته تدرس الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، وكذلك ما أفاد به موقع أكسيوس الإخباري أن الولايات المتحدة تدرس نفس الخطوة بعد رفضها فترة طويلة على أساس أن هذه الخطوة يجب أن تأتي بعد اتفاق إسرائيل والفلسطينيين على حل الدولتين.

4. رسم خارطة طريق للاستقرار الإقليمي:

يرسم الموقف السعودي خارطة طريق نحو الاستقرار المستدام، ويكرس مبادرة المملكة المهمة لأمن واستقرار المنطقة، التي تنطلق على أسس راسخة من العدالة والاستقرار، بدلًا من الفوضى والصراع، فدون حل عادل للقضية الفلسطينية، لا سلام حقيقي، وقد أوضح ذلك وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، بقوله «لكي ترى المنطقة سلامًا حقيقيًّا واستقرارًا حقيقيًّا وتكاملًا حقيقيًّا يحقق فوائد اقتصادية واجتماعية لنا جميعًا، بما في ذلك إسرائيل، فإن ذلك يجري من خلال السلام، ومن خلال عملية ذات مصداقية ولا رجعة فيها لإقامة دولة فلسطينية»«».

5. تعزيز المكانة والقيادة:

يترجم الموقف السعودي حالة إجماع عربي، وربما إقليمي ودولي كذلك، ومن ثم هو يعزز مكانة السعودية وقيادتها الإقليمية. كما يغلق الموقف السعودي الحاسم الباب أمام الدعاية التي تحاول النيل من مكانة المملكة وصورتها في العالمين العربي والإسلامي، ويكشف عن اتساق مواقفها مع القضايا المركزية التي تتحمل المسؤولية عنها بحكم مكانتها الدينية والتاريخية، التي هي رصيدها الحقيقي والمؤثر في الصعيد العالمي، وقد ظهر هذا بوضوح في الاحتفاء واسع النطاق بالبيان السعودي من مختلف الاتجاهات والتيارات. والأهم أن الموقف السعودي سيكون مؤثرًا في مسار الحرب الدائرة على قطاع غزة، التي هي محل اهتمام شعبي كبير داخليًّا وخارجيًّا، إذ إنه يشكل ورقة ضغط مهمة وهائلة بما يعكسه من موقف موحد، رسميًّا وشعبيًّا، ضد العدوان الإسرائيلي، وإذا استمرت إسرائيل وقياداتها المتطرفة في مغامرتها دون إدراك، فإنها تراهن بمستقبل إسرائيل برمته.

خلاصة

لقد وجد الموقف السعودي الحاسم بربط مسار التطبيع بتحقيق الأولويات الفلسطينية، وهي وقف العدوان والانسحاب من غزة وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967م وعاصمتها القدس، صدى واسعًا، واعتبره عديد من الدوائر إعادة ضبط للبوصلة، وتوجيه مسار التفاعلات الإقليمية نحو السلام المستدام والاستقرار، بدلًا من الفوضى التي كان محركها الأساسي التغاضي عن حقوق الشعب الفلسطيني، وهذا الموقف يكشف بوضوح عن رجاحة السياسة السعودية خلال الفترة الماضية، التي عوَّلت فيها على تهدئة التوترات الإقليمية وتصفير المشكلات، سبيلًا لبناء شرق أوسط جديد أساسه الأمن والاستقرار ورفاهية الشعوب، وقبل كل ذلك ضرورة إيجاد تسوية نهائية لفلسطين المحتلة وشعبها المشتت، الذي أصبح أجندة سياسية لمغامرات عديد من الدول والتنظيمات.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير