بين الانتقام والمرونة: ردود أفعال أوروبا على التعريفات الجمركية

https://rasanah-iiis.org/?p=37437

شن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هجمة تجارية جديدة على أوروبا، جعلت العديد يتوجس من إعادة سناريو حروب التعريفات لعام 2018، لكن هذه المرة رد الاتحاد الأوروبي بمزيد من الوضوح الاستراتيجي. وبين الانتقام والمرونة، يتبنى الاتحاد نهجًا محسوبًا بدقة، يتسم بالحزم ومدروس والأهم من كل هذا يوحد جميع أعضاء الاتحاد تحت رؤية طويل الأمد، ورغم الانقسامات الداخلية حول اتخاذ خطط قصيرة الأجل، مع دفع بعض الأعضاء مثل فرنسا إلى انتقامٍ سريع والبعض الآخر مثل إيطاليا وهنجاريا إلى تبني استراتيجية تقوم على المفاوضات أولًا، اتفق الاتحاد الأوروبي في نهاية المطاف على تبني موقف منسق متعدد الأوجه في هذه المرحلة الحاسمة. 

تكشف استراتيجية الاتحاد الأوروبي الثلاثية المتمثلة في تبني مقاومة محسوبة، وتهدئة مدروسة، ودعم محلي قوي أن الاتحاد فاعلٌ جيوسياسي ناضج عازم على إعادة رسم نظام التجارة العالمي أكثر من مجرد كونه اتحادًا قادرًا على امتصاص ارتدادات هذه الأزمة. وأشعلت هذه التعريفات (التي تستهدف الصادرات الأوروبية الأساسية من السيارات والمنتجات الزراعية والصناعية) التوترات عبر الأطلسي، وشكلت تحديًا أمام صمود الاقتصاد الأوروبي والتزاماته بالتعددية الاقتصادية، وفي هذا السياق كان الرد الأوربي عبارة عن مزيج من التدابير الدفاعية المضادة مع إعادة الضبط الاستراتيجي بالإضافة إلى الدفع قدمًا نحو تعزيز الاعتماد على الذات، كل هذه العوامل تشكلت من دروس النزاعات التجارية السابقة والتحولات التي يشهدها النظام العالمي.  

في البداية رأى البعض في فرض ترامب تعريفات جمركية (تراوحت من 25% على واردات الصلب والسيارات إلى 10% على واردات القطاعات الأخرى)   أنه سناريو مكرر لسياسة تجارية سابقة، لكن ردود الفعل العالمية، ولاسيما رد الفعل السريع من الجانب الصيني (التي وصلت الآن إلى فرض تعريفات مضادة على البضائع الأمريكية بنسبة 125%) مع اضطرابات في أسواق المال أجبرت الجانب الأمريكي على التراجع مؤقتًا. ومنذ اليوم الأول لهذه الحملة أعلن الاتحاد الأوروبي عن تدابير مضادة مما دفع ترامب إلى تهدئة نهجه التصعيدي في التعريفات الجمركية وعلَّقها لمدة 90 يومًا مع أوروبا قبل تنفيذ فرض الرسوم الجمركية المتبادلة بنسبة 20%.  وعلى صعيد موازٍ، أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين عن تعليق الاتحاد الأوروبي التعريفات الجمركية الانتقامية لمدة لمدة 90 ، مما يشير إلى انفتاح الاتحاد على التفاوض ولكن بحذر.

إن هذه التعليق المدروس ليس استسلامًا، فقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذه الخطوة بــــ «الهدنة الهشة» مشيرًا أن  «الرسوم الجمركية البالغة 25% على الصلب والألمنيوم والسيارات، والرسوم الجمركية الشاملة البالغة 10%، لا تزال سارية». ودعا ماكرون الاتحاد الأوروبي لــ«حشد جميع أورق  الضغط المتاحة» لحماية الاقتصاد والحيلولة دون تدفق المنتجات من دول ثالثة في الأسواق الأوروبية، مؤكدًا أن «فرنسا ليست الدولة الأكثر تأثرًا: إذ تُمثل الصادرات إلى الولايات المتحدة 1.5% من ناتجنا المحلي الإجمالي، مقارنةً بـ 3% لإيطاليا، و4% لألمانيا، و10% لإيرلندا»، لكنه أقرّ بأن لقرار ترامب تداعيات أوسع نطاقًا على أوروبا والعالم.

ولعل من المحاسن غير المقصودة لقرار ترامب تعامله مع الاتحاد ككتلة واحدة بفرض رسوم متساوية عليهم جميعًا وبهذا أعفى أعضاء الاتحاد من الانشغال في انقساماتٍ بينية، ومع ذلك تصاعدت التوترات الداخلية، فقد اتحد فرنسا وإيطاليا على حماية صادراتهم من النبيذ والمشروبات الروحية من التدابير الانتقامية، خوفًا من أن ينتقم ترامب بفرض رسوم مضادة مدمرة قد تصل إلى 200% على النبيذ الأوروبي والشمبانيا الفرنسية. كما حثَّ ماكرون أصحاب الصناعات على التمسك في الاستثمارات الأمريكية  مما أثار حفيظة ألمانيا حيث يخشى أن يتجاوز أصحابُ الشركات الاتحادَ الأوروبي ويسعوا لنيل تنازلات مباشرة من إدارة ترامب. 

تعد هذه الخلافات خطيرة، لاسيما عندما تندرج التدابير المضادة تحت أُطر قانونية مختلفة؛ إذ يمكن للمفوضية المفوضية الأوروبية إقرار التعريفات الجمركية بتصويت أغلبية مؤهلة، لكن التدابير الأكثر صرامة مثل تقييد الوصول إلى الأسواق  تتطلب اجماع المجلس، أما سياسات مثل الضرائب الرقمية فهي تندرج ضمن صلاحيات الدول الأعضاء (أي كل دولة ونظامها الداخلي)، مما يُعقد الحالة أكثر.

ولا يزال الاتحاد الأوروبي يعمل على اعداد تدابير مضادة لتعريفات الجمركية على السيارات مع تمسكه في تدابيره السابقة. وحتى مع الإيقاف لمدة 90 يومًا، الآلية لتنفيذ التدابير جاهزة، وهذا ما أكدت عليه  فون دير لاين أن التحضيرات مستمرة   وقد يصبح فرض مزيد من التدابير أمرًا ضروريًا. وفي هذا المسعى، تعزز «أداة الاتحاد الأوروبي الجديدة لمكافحة الإكراه  | ACI»  قدرة الاتحاد على مجابهة هذه التعريفات بتقديم حلول غير جمركية، مثل تقيد الوصول إلى الأسواق الأوروبية وحظر استيراد بعض البضائع،  لكن من غير المرجح أن يفعلها الاتحاد إلا في حال تصاعد التوترات، ومع ذلك تبقى وسيلة ردع قوية.

 وعلى عكس نهج ترامب الصادم والمدوي، يتبع الاتحاد الأوروبي نهجًا تصعيدًا تدريجي؛ إذ استهدفت التدابير الانتقامية الأولى نطاقًا ضيقًا من الصادرات الأمريكية، تصل إلى 21 مليار يورو ردًا على التعريفات الأمريكية التي فرضت على صادرات المعادن الأوروبية بقيمة 26 مليار يورو. هذا التباين مقصود، وبه ترسل بروكسل رسالة إلى واشنطن أن الباب مفتوح للتفاوض وليس للحرب. وهذا مع استعداد أوروبا وعملها على تدابير للمراحل المستقبلة التالية، بدءًا من التعريفات على السيارات ومن ثم قد تنتقل إلى توسيع نطاق التدابير الانتقامية، هذا النهج التدريجي يحث على ضرورة اللجوء إلى الحوار مع ترك مجال للمناورة الدبلوماسية

وعلى مستوى الأعضاء في الاتحاد، اتخذت الحكومات الأوروبية تدابير لمواجهة هذه التعريفات، حيث أعلن رئيس الوزراء الإسباني بدرو سانشيزه عن حزمة بـــ 14.1   مليار يورو، تشمل ضمانات ائتمانية بقيمة 6 مليارات يورو لتخفيف ارتدادات الأزمة  على المتضررين، ومن المتوقع أن تسير حكومات أخرى على هذا النهج.  في غضون ذلك، يدرس البنك المركزي الأوروبي تخفيض أسعار الفائدة بنسبة كبيرة لدعم الطلب ومن المرجح جدًا أن يخفض البنك المركزي أسعار الفائدة للمرة السابعة في المستقبل القريب. تجنب العديد من صانعي السياسات في الاتحاد من تناول تفاصيل هذه الحدث بوضوح، لكن لدى المستثمرين والاقتصاديين ثقة بأن ضغوط الرسوم الجمركية الأمريكية ستدفع إلى خفض الفائدة عن المعدل الحالي البالغ 2.5%. وهذا التدابير ليست مجرد رد فعل، بل جزء من طموحات أوسع نطاقًا تؤكد على السيادة الاقتصادية لأوروبا.

ومن المفارقات، أن هذه الصدام التجاري قد يعطي أوروبا فرصةً لإعادة رسم دورها في الساحة العالمية، ومع تراجع ترامب عن سياسته الحمائية، ولو مؤقتًا، يظهر نظام الاتحاد الأوروبي الموثوق والقائم على القوانين مصدرَ استقرار، ولا يزال الاتحاد الأوروبي يُسير علاقاته التجارية على  البنود نفسها مع بقية دول العالم، وهذه ميزة تحد من تداعيات التعريفات الجمركية الأمريكية.

ومع ذلك، ترددت أوروبا في تولي هذه المهمة بالكامل؛ لذلك إن ترددها في خفض التعريفات الزراعية المرتفعة أو التقدم بطلب الانضمام إلى «اتفاقية الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ |CPTPP»التابعة لتكتل «الهندي والهادئ»  التجاري  إلى نهج حذر أكثر منه رؤيوي. ومع ذلك، ثمة تقدم جارٍ؛ فقد تراجعت النمسا عن معارضتها لاتفاقية الاتحاد الأوروبي مع ميركوسور، وحتى فرنسا تُعيد النظر في موقفها.

نادرًا ما تكون الحروب التجارية من أجل التجارة فحسب؛  إذ تشير تصريحات ترامب المبهمة حول ربط التواجد العسكري للولايات المتحدة في أوروبا بالمفاوضات حول التعريفات الجمركية إلى خلط استراتيجي أعمق، وعلى النقيض نجد أن أوروبا تسعى جاهدة للتوصل الى اتفاق منطقي واضح. وفي هذا الصدد صرح المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرتس أن انسحاب ترامب «ردٌ على حزم أوروبا» مشيرًا إلى عزمه زيارة واشنطن قريبًا. ربما الآن تعلّم الاتحاد الأوروبي كيف يخوض غمار الأزمات الشرسة حسب قواعده التي يحددها هو، والآن يعد العده، وذلك باللجوء إلى فرض تعريفات مضادة مع تدابير معينة، وتجنب الانزلاق في دوامة تصعيد لا نهاية لها، بالإضافة إلى الاستثمار في استقلالية الاتحاد الاقتصادية دون الدفع نحو عزلته الاقتصادية. وعليه، سترسم تداعيات هذه الأزمة شكل العلاقات عبر الأطلسي وتحدد مكانة أوروبا في الاقتصاد العالمي الذي يزداد تمزقًا وتفتتًا. ومن المنظور الأوروبي، ما حصل من الجانب الأوروبي ليس ردًا على سياسة ترامب التجارية فحسب بل استعداد لما يخفيه المستقبل في طياته.  

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير