بين الانتقام وضبط النفس.. خيارات أوروبا الإستراتيجية في أزمة الرسوم الجمركية عبر الأطلسي لعام 2025م

https://rasanah-iiis.org/?p=37890

تشهد العلاقات الاقتصادية عبر الأطلسي، في شهر يوليو من هذا العام، أشدّ توتُّراتها ضراوةً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 12  يوليو،  فرض رسوم جمركية بنسبة 30% على جميع الواردات من الاتحاد الأوروبي والمكسيك، بدءًا من الأول من أغسطس، ممهِّددًا  الطريق إلى رفعها أكثر، إن ردَّ الجانب الأوروبي بالمثل. ويأتي هذا القرار في سياق أشهر من االتوتُّر المتصاعد بين واشنطن وبروكسل؛ إذ بات ترامب يعتمد اعتمادًا متزايدًا على الرسوم العقابية، كورقة ضغط لانتزاع تنازلات من الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء. وبوجود عجْزٍ تجاري بلغ 235.6 مليار دولار، لصالح الاتحاد الأوروبي في عام 2024م، لم تعُد إدارة البيت الأبيض تتوانى للحظة، عن الطعن في هيكلية وعدالة واحدة من أكثر الشراكات الاقتصادية تكاملًا في العالم.

بالنسبة للاتحاد الأوروبي، لا يمثِّل هذا التحوُّل مجرَّد تهديد للوصول إلى الأسواق الأمريكية، بل أزمة هيكلية وإستراتيجية في آنٍ واحد؛ فبعد موجة أولى من الرسوم في أبريل، تراوحت بين 10% على السِلَع العامَّة، و25% على السيارات، و50% على المعادن الصناعية، انطلقت مفاوضات لتجنُّب الانزلاق في انهيار لا تُحمَد عقباه في العلاقة الاقتصادية بين الجانبين. وكانت هذه المحادثات تتقدَّم بخُطى حذِرة نحو تسوية، لكن التصعيد الأمريكي الأُحادي الأخير أعاد خلْط الأوراق من جديد، وأجبر صانعي القرار في الاتحاد على الاختيار بين سيناريوهين سيِّئين: إمّا القبول باتفاق غير متوازن مُثقَلٍ بالرسوم، أو الاستعداد لحرب تجارية مع أكبر اقتصاد في العالم. وفي هذا الصدد، يقول البروفيسور خوسيه كارلوس دييث من جامعة القلعة في مدريد، إنَّ «نسبة الـ30% ستؤثِّر بشدَّة على جزء كبير من الصادرات الأوروبية، خصوصًا المنتجات الصناعية، ذات المحتوى التكنولوجي المنخفض».

تكمُن المعضلة الأوروبية في نهْج إدارة ترامب غير المتكافئ؛ إذ تحدِّد الولايات المتحدة بوضوح مواطن انزعاجها، وهو العجز التجاري المزمن، ومن ثمَّ تضغط ضغطًا اقتصاديًا شاملًا على مختلف القطاعات والدول، ويجد الاتحاد الأوروبي نفسه مضطرًّا إلى الموازنة بين اعتبارات متباينة: الحفاظ على وحدة داخلية بين 27 اقتصادًا مختلفًا، وحماية المعايير التنظيمية الأساسية المتعلِّقة بسلامة الغذاء، والسياسات الرقمية، والمعايير البيئية، وتخفيف الصدمة الاقتصادية، الناجمة عن تصاعُد الرسوم، دون التفريط في مكاسب إستراتيجية محورية.

وتواجه قطاعات أوروبية رئيسة تهديدًا مباشرًا من استمرار التصعيد، فصناعة السيارات الألمانية، التي تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التصدير إلى الأسواق الأمريكية، معرَّضة لأضرارٍ جسيمة؛ بسبب الرسوم على السيارات وقِطَع الغيار. أمّا المنتجون الزراعيون في فرنسا وإسبانيا، فيخشون خسارة تدريجية في حصصهم السوقية، من النبيذ والجبن والمشروبات الروحية. في حين تتدهور قدرة شركات الصلب والألمنيوم على المنافسة، بعد فرْض رسوم بنسبة 50%، ولم تسلم الصناعات المتقدِّمة مثل الطيران والأدوية والآلات من هذا االتوتُّر، إذ باتت هي الأخرى في مرمى نيران الأزمة.

ومع ذلك، لا تزال مطالب إدارة ترامب غامضة، فإلى جانب الدعوات لمعاملة تجارية بالمثل، ألمح المفاوضون الأمريكيون إلى أهداف مألوفة: توسيع دخول المنتجات الزراعية الأمريكية، وزيادة واردات أوروبا من الغاز الطبيعي المُسال، والمعدّات العسكرية الأمريكية، وتعزيز التعاون بشأن معايير التكنولوجيا الناشئة، لا سيّما في سياق التنافس مع الصين. وعلى الرغم من أنَّ الاتحاد الأوروبي أبدى انفتاحًا للنقاش، حول الطاقة والتعاون العسكري والصناعات الإستراتيجية، لكنَّه يرفض بشدَّة الضغوط الأمريكية بشأن معايير الغذاء، وأنظمة ضريبة القيمة المُضافة، التي تشكِّل ركائز أساسية في السوق الأوروبية الموحَّدة. وقد شدَّدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، مؤخَّرًا على أنَّ هذه القضايا ليست نقاطًا تفاوضية، بل تمَسّ جوهر الحوكمة الأوروبية.

أمام هذا الواقع الحاد، اختلفت نبرة الزعماء الأوروبيين، فقد غلبت البراغماتية الاقتصادية على مواقف برلين وروما؛ إذ دعا المستشار الألماني فريدريش ميرتس، إلى إبرام اتفاق سريع لحماية الصناعة الألمانية، فيما رأت رئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، أنَّ نظام رسومٍ يتراوح بين 10% و30% قد يكون مقبولًا، إذا حال دون ما هو أسوأ. وتُدرِك العاصمتان أنَّ الوقت يداهمهما، وأَّن التصعيد الإضافي قد يُلحِق أضرارًا جسيمة باقتصاداتهما المعتمدة على التصدير. في المقابل، لا تزال باريس ومدريد متوجِّستين من التنازل السريع، إذ انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نهْج ترامب، واعتبره استفزازيًا وغير مبَّرر، ودعا إلى موقفٍ أوروبي أكثر صلابة. أمّا وزير المالية إيريك لومبارد، فقد طالب بتأجيل التسوية عِوَض التعجُّل، مؤكِّدًا أنَّ العدالة على المدى الطويل تفوق المكاسب الآنية.

يعكس هذا التباين مزيجًا من المصالح الوطنية، واختلاف التقديرات، حول نوايا ترامب. ففي حين تعتقد بعض العواصم أنَّ ترامب يسعى إلى تحقيق «نصر» سياسي قُبيل احتدام موسم الانتخابات الأمريكية، وترى أنَّ تنازلات رمزية قد تكون كافية لتهدئة الوضع، تحذِّر أخرى -خصوصًا فرنسا وإسبانيا- من أنَّ الاستسلام الآن، لن يؤِّدي إلا إلى تشجيع واشنطن على فرْض مطالب جديدة لاحقًا، لا سيّما في القطاعات، التي لا تزال أوروبا فيها معرَّضة للخطر، مثل الخدمات الرقمية أو الطيران.

ويُواجه الاتحاد الأوروبي قرارًا حاسمًا، بشأن ما إذا كان عليه تفعيل الحزمة الأولى من التدابير الانتقامية، التي أُعِدَّت ردًّا على الرسوم الأمريكية على الصُلب والألمنيوم. وتشمل هذه الحزمة سِلَعًا أمريكية –كالدواجن، وعصير البرتقال، والتبغ، واليخوت الفاخرة، والدرّاجات النارية، والألماس- بقيمة 21 مليار يورو. وكان الأوروبيون قد قرَّروا في مطلع أبريل 2025م، تعليق تنفيذ هذه الإجراءات؛ لمنح المفاوضات فرصة، ولا يزال هذا التعليق ساريًا حتى مساء 14 يوليو 2025م.

وفي الغرف المغلقة، يقِرُّ المسؤولون الأوروبيون، بأنَّ أفضل سيناريو مُتاح لم يعُد استعادة الوضع السابق، بل إدارة الأضرار والحفاظ على هامشٍ من المرونة على المدى البعيد. والسيناريو الأرجح، إذا توصَّلت إليه الأطراف قبل الأول من أغسطس، هو اتفاق إطار يضع سقفًا للرسوم بين 10% و30%، مع منْح إعفاءات جزئية لقطاعات أساسية، مثل السيارات والمعادن والأدوية. في المقابل، يسعى الاتحاد الأوروبي إلى الحصول على ضمانات بعدم التصعيد من الجانب الأمريكي، إضافة إلى جدول زمني منظَّم، لاستمرار المفاوضات حتى أواخر عام 2025م. وعلى الرغم من أنَّ هذا الترتيب ليس مثاليًا، لكنَّه يمنح أوروبا متنفَّسًا، ويحول دون اضطراب اقتصادي فوري.

لكن مثل هذا الاتفاق، يتطلَّب من بروكسل تمرير تسوية سياسية صعبة على الدول الأعضاء؛ فعلى الرغم من أنَّ المفوضية الأوروبية عملت بجِدّ للحفاظ على جبهة موحَّدة، لا تزال االتوتُّرات قائمة. إذ تميل ألمانيا وإيطاليا إلى المرونة، وتخفيف الضغط على قطاعات معينة، بينما تُصِرُّ فرنسا وإسبانيا على السيادة التنظيمية والتوازن. وتضغط إيرلندا لحماية صادراتها من المشروبات الروحية ومكوِّنات الطيران، في حين تُبدي دول شرق أوروبا -الأقلّ اعتمادًا على التجارة مع الولايات المتحدة- قدرًا أقل من الاستعجال. حتى المجر، التي ألمحت في البداية إلى اتفاقٍ منفصل، تعرَّضت لضغوط أوروبية للالتزام بالموقف الموحَّد.

ومن المفارقة أنَّ نهْج ترامب القاسي، قد ساهم في تعزيز وحدة الموقف الأوروبي؛ فاستهدافه لجميع الدول الأعضاء في آنٍ واحد، قلَّص فُرَصِه في اتّباع سياسة «فرِّق تسُد». ويُشير الدبلوماسيون الأوروبيون إلى أنَّ تقلُّبات ترامب وميله إلى تبديل مواقفه وتصعيد تهديداته، جعلت من السهل على الحكومات المتحفِّظة تبرير تمسُّكها بخط بروكسل الجماعي. ومع ذلك، لا يعني هذا أنَّ الخلافات الداخلية قد حُسِمت، بل إنَّها أُرجِئت تحت الضغط.

وعلى المدى القريب، يجب على أوروبا تبنِّي استجابة متعدِّدة المستويات؛ الأولوية الآن هي التوصُّل إلى اتفاقٍ مؤقَّت يمنع تصعيد الرسوم إلى 50%، ويُبقي على مساحة للتفاوض. فأزمة التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لعام 2025م، ليست تفاوضًا بالمعنى التقليدي، بل تمرين لإدارة أزمة في ظل خللٍ إستراتيجي في موازين القُوى. ولا يمكن لأوروبا أن تستسلم، لكنَّها كذلك لا تحتمل حربًا تجارية قد تُجهِز على تعافيها الاقتصادي، وتُذكي النزعات الحمائية داخل الاتحاد. التحدِّي الأكبر هو احتواء التداعيات، والدفاع عن تماسُك المشروع الأوروبي، والحفاظ على قدْرٍ من الاستقرار في العلاقة عبر الأطلسي، إلى أن تتهيَّأ فرصة للتفاهم مع إدارة أمريكية أكثر تعاونًا مستقبلًا. أمّا الآن، فعلى الاتحاد أن يتحلَّى بالوضوح والتنسيق والحكمة، فقد يكون القبول بـ«صفقة سيِّئة» أمرًا لا مفرّ منه. أما تجنُّب «أسوأ صفقة»، فلا يزال ضرورة إستراتيجية لا تقبل التهاون.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير