بين المذهبية والمدنية.. أزمة قانون الأحوال الشخصية في العراق

https://rasanah-iiis.org/?p=36250

انفجرت أزمة دينية وسياسية في الآونة الأخيرة بالمجتمع العراقي، بين الأحزاب «الشيعية»، وفي القلب منها كتلة «الإطار التنسيقي» من جانبٍ، والعلمانيين أو ما يسمى بـ «التيار المدني العراقي» من جانب آخر، بسبب «مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959م»، الذي يسعى «الشيعةُ» لتمريره عبر البرلمان العراقي بمقترح يدعمهُ الإطار التنسيقي، ويهدفون من ورائه لتقنين الفقه الجعفري في قانون الأحوال الشخصية للشيعة، والفقه الحنفي في قانون الأحوال الشخصية للسنة، وقد جوبِهَ هذا «القانون المقترح» برفض واسع وانتقادات كبيرة من الناشطين والمجتمع المدني؛ بسبب أن «القانون الجديد سيسمح بزواج القاصرات ويظلم المرأة ويسلبها حق الحضانة»، ونحو ذلك من انتقادات.

وقد عاد الجدل المتعلق بالقانون مرةً أُخرى بعد إصرار بعض الفاعلين على تمريره عقِب أن اضطرَّ البرلمان في يوليو الماضي إلى تأجيل تعديل القانون إلى إشعار آخر بعد عاصفة انتقادات من ناشطين مدنيين ومنظمات حقوقية ومدنية وهيئات دولية. ومن المنتظر أن يُجريَ البرلمان العراقي، الذي أنهى قراءته الأولى لمشروع القانون في 04 أغسطس 2023م، قراءتين أخريين ومناقشةً لمشروع القانون قبل أن يُقرر التصويت عليه لسنِّهِ بشكل رسمي.               

فما أسباب الخلاف بين الجانبين الإسلامي والمدني، وما إمكانية التوفيق بين وجهات النظر بينهما، وما موقف المرجعية الدينية الشيعية والسنية من ذلك القانون؟ هذا ما سيحاول التقرير مناقشته.

أولًا: لماذا الآن؟ البيئة والتوقيت!   

يُطرح سؤالٌ مهم متعلق بأسباب إصرار كتلة أحزاب «الإطار التنسيقي» على إجراء تعديل قانون الأحوال الشخصية الآن، رغم أنَّ القانون الساري، هو قانون الأحوال الشخصية النافذ رقم 188 لسنة 1959م، لا يحتاج إلى تعديلات جوهرية، وكان يمكن العمل به حتى تتم مشاورات مجتمعية واسعة تشارك فيها كل أطياف المجتمع، ويستبعد منه الهواجس ويلقى قبول الأكثرية! لكن ثمة إصرار من «الإطار التنسيقي» على تعديل القانون وفرض قراءةٍ دينية معينة في أسرع وقت قبل انتهاء دورة البرلمان. هذا يُثير استغراب البعض؛ ذلك أنَّ ثمة قوانين مطروحة أمام البرلمان منذ سنين، ومع ذلك لم يتم البت فيها حتى الآن، مثل قانون النفط والغاز، وقانون سُلم الرواتب، وقانون الجنسية، وغيرها من قوانين. وبالتالي؛ فإنَّ السؤال المطروح هنا: هل مقترح تعديل القانون من باب الضرورة الاجتماعية أو السياسية؟ أم هو من باب المصالح السياسية لبعض الكتل البرلمانية التي تُفكر في كَسب تأييد الناخبين في الانتخابات القادمة؟! يمكن حصر أسباب هذا الإصرار على تمرير القانون الآن في سببين: سببٌ ديني مذهبي؛ وسببٌ سياسي:

1- السبب الديني والمذهبي: يتمَثل في الصراع على الحواضن «الشيعية»، فمنذ أسابيع وتحديدًا في مايو الماضي، دخل مقتدى الصدر في معركةٍ مذهبية مُتعلقة بتحويل يوم الغدير إلى عطلة رسمية، حتى أقرَّ البرلمان عيد الغدير عطلةً رسمية في عموم العراق، في حين لم يرد أي ذكر ليوم تأسيس الجمهورية الذي يُصادف 14 يوليو من كل عام؛ وبالتالي اعتبرَ البعض حينئذ هذا القانون تكريسًا للطائفية وتراجُعًا عن مبادئ الدولة الوطنية المدنية، وبناءً عليه أبرزَ الصدر نفسه كقائد شيعي يهتم بالجوانب المذهبية التي تُمثل مركزيةً لدى عامة الجماعة الشيعية.    

ويبدو أن الإطار التنسيقي التقطَ الخيط وعمل على «التترُس» خلف المذهبية مُنافسًا الصدر على الحواضن الشيعية، خشيةَ فقدِ جمهور الشيعة لصالح الصدر في الانتخابات المقبلة. كذلك فإنَّ الإطار التنسيقي يسعى إلى التقرب من المرجعية الشيعية التي اتخذ الصدرُ خطوات نحوها في الآونة الأخيرة، ومثل هذه القوانين المذهبية التي من شأنها أن تجعل تنظير الفُقهاء ورجال الدين في أبواب الأحوال الشخصية، واقعًا عمليًا وقانونيًا يتحاكم إليه الناس وترتكز عليه المحاكم في الأحكام والقضايا، وهذا لا شكّ يطمئن رجال الدين والفقهاء، ويقرب وجهات النظر بين الفريقين؛ الفقهاء والإطار التنسيقي، بل ربما يُساهم في التغاضي عن نقاط خلافية في شؤون الدولة، من أجل تحقيق الهدف الأكبر لكليهما وهو حاكمية «فقه آل البيت»، وتقنينه عبر المؤسسات الرسمية للدولة.     

لكن المفارقة، أنَّ الحوزة الشيعية النجفية لا تؤمن بـ «ولاية الفقيه المُطلقة» في زمن الغيبة، إنما تؤمن بمحدودية الولاية وتعلُقها بالحسبة وأمور حولها، وبالنسبة لفقه الدولة، فتؤمن وفقًا للتنظير المعلن بدولة مدنية، فكيف يتسنى هذا مع دعم فقهاء النجف لتعديل قانون الأحوال الشخصية؟

والجواب؛ أن النجف وإن لم تؤمن بـ «ولاية الفقيه المطلقة»، إلا أنها تنظُر لمثل تلك التعديلات على أنها تعديلات تجرى من خلال المؤسسات المدنية والقانونية «البرلمان»؛ وبالتالي فهي ليست إكراهًا للناس، ولا حملًا لهم على مذهب «مستورد» أو مُغاير، وإنما هي تعديلات دالّة على إرادة الناس ومذهبهم وثقافتهم، كذلك فهي تعديلات في رأي فقهاء النجف لا يقودها الفقيه إنما تقودها الدولة ومؤسساتها المدنية المنتخبة. والواقع أن للفقهاء كلمة نافذة في هذه التعديلات حتى خرج بعضهم ليقول إنَّ قانون 1959م إنما «شرَّعهُ ملحدون لا يؤمنون بالدين».  

2- السبب السياسي: يتمثَّل في إدراك الإطار التنسيقي أنَّ فترة سيطرته على المؤسسة التشريعية لتمرير القوانين والتشريعات الهامة الخادمة للأجندة الإيرانية ولمصالحه في الدولة العراقية، لن تدوم لفترة طويلة مع تنامي الحديث عن الانتخابات البرلمانية المبكرة، وتوقعه صعوبة تكرارها في البرلمان في ظل تلميحات التيار الصدري بالعودة إلى المشهد السياسي وتعاظم فرص القوى المدنية التي تشكَّلت منذ الاحتجاجات التشرينية، والمكونين السني والكردي في الانتخابات التشريعية. كما يسعى الإطار التنسيقي قبل انتهاء الدورة البرلمانية إلى كسب أصوات الناخبين الشيعة، وضمان بقائه فاعلًا بين الحواضن الشيعية، وقريبًا في نفس الوقت من الحوزة الدينية ومنافسًا لأهم تيار يهدده في الانتخابات المقبلة وهو «التيار الصدري». وبالتالي؛ رفعَ من حِدة الخطاب الديني والمذهبي، وربما «الطائفيّ» ليعزز موقعه داخل حواضنه، ويعزز شرعيته الدينية إضافةً إلى مغازلته للإيرانيين الذين يريدون عِراقًا إسلاميًا في قوانينه وتشريعاته، مما يقرب العراقيين أيضًا من ولاية الفقيه والوليّ الفقيه!

وقد تردد أنّ القوى السياسية الشيعية تعمل على صفقة مُقايضة مع القوى السنية لإقرار تعديل قانون الأحوال الشخصية وتمرير قانون العفو العام. وقانون العفو العام كان جزءًا من اتفاق القوى السياسية على تشكيل الحكومة الحالية برئاسة السوداني، ويعتبر من أبرز مطالب الأحزاب السنية في العراق منذ عشرين عامًا، إذ تؤكد منظمات حقوقية أنَّ القوات العراقية اعتقلت الآلاف من السُنة دون سند قانوني تحت بند مكافحة الإرهاب. وقد أشارت المراسلة الصحافية ديبورا آموس، في كتابها المهمّ «أفول أهل السُنة»، إلى معاناة أهل السُنة منذ الغزو الأمريكي للعراق، بسبب استهدافهم من قبل الميليشيات العنيفة مثل «جيش المهدي» حينئذ. وأشارت آموس، في الوقت نفسه إلى استحالة تأسيس عراق مدني علماني إلا مع إنهاء التراجع السُني في المؤسسات والمشهد العراقي برمته، وكذلك عودة آلاف اللاجئين السُنة الذين أُجبروا على الفرار من استهداف الميليشيات الطائفية. في المقابل؛ فإنَّ النخبة الحاكمة اليوم المتمثلة في الإطار التنسيقي لا تأبهُ لمثل تلك الانتقادات ولا تريد في الأساس إدماجَ أهل السنة في لُبّ الهوية العراقية، لأنهم لا يريدون دولةً مدنيةً علمانية بقدر ما يريدون دولةً مذهبية على مقربة من طهران. وهذا يستدعي العمل الإقليمي والدولي لتجنب صراعات طائفية مستقبلية ربما تهدد الأمن القومي للمنطقة بأسرها، أو تُساهم في تفكيكٍ مجتمعي واسع بالعراق يؤثر على الإقليم كله ودول الجوار. 

ثانيًا: الجدل القانوني والدستوري حول التعديلات

اختلف العراقيون حول مدى دستورية وقانونية مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية، إلى فريقين؛ الأول يرى دستوريته، والثاني يرى عواره الدستوري.

1- دستورية التعديلات: يستند المؤيدون لتعديل قانون الأحوال الشخصية إلى المادة 41 من الدستور العراقي، والتي تنُص على أنَّ العراقيين «أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم وينظَّم ذلك بقانون»؛ وبالتالي يرون أن هذه المادة تُعطي الحق لكل طائفة دينية أو مذهبية، الاحتكام إلى معتقدها في جانب الأحوال الشخصية، وتكييف ذلك قانونيًا في أن توضع مدونة فقهية سنية وشيعية عن طريق الوقفين السني والشيعي بجانب المدونة الوضعية القائمة، تكون تلك المدونات مرجعًا للقاضي حين إصدار الحكم، ويقرّر ذلك عند عقد الزواج أيضًا كلٌ من الرجل والمرأة، أي مرجعية الاحتكام عند الانفصال! كذلك يقول المؤيدون، إنَّ من حق الإطار التنسيقي والأغلبية البرلمانية أن تُشرع ما ترى من قوانين، باعتبارها أغلبيةً وفقًا للقواعد الديمقراطية.

2- العوار الدستوري: على الناحية الأخرى، يرفض المعارضون من التيار المدني التعديلات لأسباب، أهمها من وجهة نظرهم؛ تكريس الطائفية، وزواج القاصرات، كما يعتبرون أنَّ فكرة «تكييف» قانون عام على اجتهادات فقهية مذهبية ودينية سيؤدي إلى «مأسسة الحالة الطائفية» من خلال سَن قوانين تُقسم المجتمع طائفيًا وتعود به إلى قوانين دينية تكون المرأة أول ضحاياها. كذلك يُردد الرافضون لتعديل القانون، أنَّ التعديلات من شأنها أن تُفقد القاضي هيبتهُ، وتُعلي عليه المرجع الديني والمأذون الشرعي، مما يُعد تعارُضًا مع النصوص الدستورية المتعلقة بالسلطة القضائية. كذلك فإنّهم يقولون؛ إنَّ التعديلات من شأنها أن تقضي على مبادئ الدولة المدنية التي عمل على حفظها الدستور العراقي.

ثمة أسباب أخرى متعلقة ببنية الدولة العراقية التي لا تتحمل مثل هذه التعديلات في نظر الرافضين، إذ يقولون إنها ستحولُ العراق إلى دولة «طائفية»، ويعتبرون التعديلات تراجُعًا عن فقه الدولة المدنية الوطنية. وثمة أمثلة مركزية يستدلون بها على العوار القانوني لمقترح التعديل، أولها: أن المقترح لا يُعطي الحق للقاضي بتطليق زوجة المفقود، وإنما يجعل الحق لمراجع الدين والفقهاء، باعتبارهم «أولياء شرعيين»، أما القاضي فلا ولايةَ له في التحقيق. وثانيها: أنَّ المقترح سيسمح بزواج البنت في سن التسع سنوات. والثالث: أنَّ المقترح سيحرم المرأة من ميراث زوجها في بعض البنود، كالعقار والأرض! والرابع: يتمثل في سلب حضانة الأطفال من الأم. والخامس: أنه عند حدوث خلاف بين مذهبي الزوج والزوجة أو بين مرجع التقليد لكلٍّ منهما، سيتعرَّض أحد الطرفين للظلم.

ثالثًا: دلالات وتداعيات أزمة تعديل القانون

تكشف أزمة قانون الأحوال الشخصية في المجتمع العراقي عن حِزمة من الدلالات والتداعيات غايةً في الأهمية لكونها ترتبط بقضية هوية الدولة العراقية ومستقبلها في ظل تجاذُب العراق بين تيارين رئيسيين: الأول؛ مذهبي داعم لـ «طأفنة» الدولة العراقية وهويتها الشيعية ممثلًا في قوى الإطار التنسيقي المدعومة من إيران، وهو التيار الأقوى في العراق بالنظر إلى ما يمتلكهُ من أدوات القوة والنفوذ بما يجعلُه قادرًا على التأثير في المعادلة العراقية وبينها القدرة على تمرير مشاريع القوانين الخادمة لأجندته «الطائفية». والثاني؛ داعم لمسار الدولة بمفهومها الوطني والاستقلالي ممثلًا في القوى الوطنية والمدنية الساعية نحو إرساء العراق الجديد، وهو التيار الأضعف لافتقاده أدوات القوة والنفوذ مقارنةً بالإطار التنسيقي، وفيما يلي أبرز الدلالات والتداعيات للأزمة:

1– خطورة سيطرة الإطار التنسيقي على البرلمان العراقي: يحكم العراق نظامٌ سياسي برلماني، بمعنى أن الأغلبية البرلمانية لها الحق في تسمية رئيس الحكومة وتشكيل الحكومة العراقية، وبما أن الإطار التنسيقي المدعوم من إيران أصبحَ الأغلبية في البرلمان العراقي بعد انسحاب نواب التيار الصدري من البرلمان، فأصبح الإطار يُشكل الكتلة الأكبر المهيمنة على البرلمان، والتي تمكنهُ من تمرير القوانين أو تعطيلها، وهنا تكمن الخطورة في أن النظام البرلماني يُتيح له ذلك بموجب الدستور العراقي؛ وبالتالي وصول الإطار التنسيقي إلى مبتغاه في تحقيق الهدف الأسمى، والمتمثل في «تغيير هوية الدولة» العراقية إلى الهوية «المذهبية الشيعية» بما يُمهد لإلغاء الهوية المدنية. وهذا يكشف عن مدى خطورة كافة القوانين الخادمة لإرساء الهوية الشيعية والطائفية للدولة العراقية، والتي أقرَّها البرلمان العراقي منذ أن تحوَّل الإطار التنسيقي إلى الكتلة البرلمانية الأكبر.

2- خطوة جديدة على طريق إرساء الهوية الشيعية للعراق: يُعد مشروع قانون تعديل قانون الأحوال الشخصية حلقةً ضمن حلقات عديدة تم خلالها تمرير مشاريع «طائفية» في البرلمان العراقي لفرض الهوية الشيعية للدولة العراقية منذ سيطرة الإطار التنسيقي على البرلمان العراقي، حيث سبق أن صوَّت البرلمان العراقي بالموافقة على مطلب زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر باعتبار يوم أو «عيد الغدير» الموافق الثامن عشر من ذي الحجة عطلةً رسمية ضمن قانون العطلات الرسمية بالبلاد، ما من شأنه فرض سردية شيعية على بقية سرديات الطوائف والعِرقيات العراقية، ما أثار التوتر بين الطوائف والعرقيات بمطالبة أبناء المكون السني باعتبار ذكرى «يوم سقيفة بني ساعدة» عطلةً رسمية مماثلة بالبلاد، ومطالبة المكونين الكردي والتركماني أيضًا بإقرار عطل رسمية تخلدُ أحداثًا كردية وتركمانية ذات أبعاد رمزية هامة لكِلا المكونين.

3- تفسير جديد لمعضلة النظام السياسي العراقي: تكشف الأزمة عن تفسير إضافي لمعضلة النظام العراقي منذ سيطرة الشيعة على الحكم عام 2003م، بإبرازها أن المكون الشيعي الحاكم يفتقد لبرامج وطنية على مستوى الدولة والهوية الجماعية للمجتمع العراقي التي تعمل لصالح كافة أطياف ومكونات الجسد العراقي دون استثناء أو إقصاء أو تهميش، وإنما يمتلك برامجَ مذهبية طائفية لخدمة الهوية الفرعية أو الطائفة الشيعية والاستراتيجية الإيرانية التوسعية فقط؛ وبالتالي خالفَ النظامُ العراقي تحت الحكم الشيعي القواعدَ الجوهرية الحاكمة لنجاح الأنظمة السياسية، والتي يتقدمها مصلحة الجماعة الوطنية والأمن القومي الجماعي والهوية الوطنية الجامعة للجسد العراقي التي تجعل النظام قادرًا على طرح الحلول لتسوية أزماته، لكن نتيجة انحراف النظام العراقي-واقعيًا- عن مهمته الجوهرية بخدمته فقط للأهداف السياسية الشيعية ذات الصلة بالأجندة الإيرانية لإرساء «هوية شيعية» تسهل تمرير المخططات التوسعية، بات النظام يدور حول أزماته غير قادر على معالجتها.

4– تنامي فرص اندلاع الصراعات الطائفية: يُعد المُضي في فرض هوية شيعية بموجب تعديل القوانين الخاصة بالبُعد والمذهبي على بقية المكونات الطائفية في مجتمع متعدد الطوائف والعرقيات، من شأنه تقوية شوكة المكون الشيعي وفرض مزيدٍ من هيمنته على مكونات ومقدرات ومفاصل الدولة العراقية، مقابل مزيدٍ من سخط واحتقان الشارع السياسي السُني والكردي، ما من شأنه إمكانية انفجار الشارع بما يُعزز من فرص اندلاع الصراعات الطائفية التي لم يَجنِ منها العراق سوى الدمار والخراب بتدمير الموارد والثروات وإهدار للطاقات البشرية وتفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية والخدمية المتفاقمة أصلًا. وتزداد خطورة اندلاع صراعات طائفية في ظل مرحلة غير مستقرة يعيشها العراق، بفعل تفشي الأزمات الداخلية وتحول العراق إلى ساحةٍ لتصفية الحسابات نتيجةَ انخراط الميليشيات الموالية لإيران في الصراعات الإقليمية، وقصفها الأهدافَ الأمريكية بالساحة العراقية.

خاتمة: مستقبل تمرير القانون في البرلمان

رغمَ اعتراض الكثير من الفئات الشعبية العراقية على تعديل القانون، غير أن السيناريو المرجَّح يتمحور حول تصويت البرلمان العراقي بالموافقة عليه في النهاية على ضوء عدَّة عوامل؛ أولها: دعم الإطار التنسيقي صاحب الكتلة البرلمانية الأكبر لتعديل القانون وبالتالي يحق له تمريره من الناحية التشريعية والدستورية. وثانيها: التأييد غير المباشر من الحوزة النجفية لتعديل القانون، حيث أن فقهاء ورجال دين مُقربين من المرجعية دعموا التعديلات وتضامنوا معها. وذلك طبيعي مع العقل الديني والحوزوي التقليدي، فمسائل الأحوال الشخصية تمثل لهم خطًا مركزيًا لا يمكن التراجع عنه، لأن الأحوال الشخصية هي مجال عملهم الحقيقي، وهي اللبّ من الكلام الفقهي المعاصر وجزءٌ من العلاقة بين المقلِّد والمقلَّد، وبالتالي؛ فإنّ أي مساس بها يمسّ سلطتهم الروحية على الناس بشكلٍ مباشر! وثالثها: يتمثل في التجارب السابقة للبرلمان في إقرار مشاريع قوانين مماثلة تخصُ إرساء الهوية الشيعية وآخرها قانون «يوم الغدير».

تكشفُ المعطيات السابقة عن حقيقةٍ باتت راسخةً في العقل الاستراتيجي لساسةِ شيعةِ العراق، تتمثل في مركزية المحدد المذهبي على بقيةِ المحددات في منطلقاتهم وأدواتهم وتوجهاتهم تجاه القضايا العراقية الداخلية والخارجية، فعندما يحين توقيت اختبار أو فرض المذهب تتقوقعُ وتتمترسُ التحالفات الشيعية خلفَ المذهب ضاربةً بعرض الحائط مفاهيمَ الدولة المدنية والهوية الجماعية، ما يجعلُ من التساؤل التالي مطروحًا للغاية: هل ما يجري في الساحة العراقية من مساعٍ مستمرة لإرساء الهوية الشيعية للدولة العراقية بموجب هيمنة الإطار التنسيقي على البرلمان، يُشير إلى أن المشروعَ الإيراني في العراق يخطُ خُطاه نحوَ مرحلةِ التمهيد لخلقِ نماذج مماثلة لولاية الفقيه؟

وختامًا: تكشفُ المعطيات أن تركَ الساحةِ العراقية لمكونٍ واحد للهيمنة وتمرير رؤاه الأُحادية دون مشاركة أو تشاور مجتمعي، والتفرُّد دون تدافعٍ سياسيّ معه في المعارك الانتخابية الماضية أدَّى إلى هيمنتهِ وتنفيذ أهدافهِ في تمرير القوانين الدافعةِ نحوَ إرساء الهوية الشيعية للعراق، وأن عدمَ التدافع السياسي في المعارك الانتخابية القادمة من شأنه مزيدٌ من تمدد المكون الشيعي نحو إنجازه مهمةَ إرساء الهوية الشيعية للدولة العراقية، ما من شأنه ارتفاع تكلفة المخاطر والتهديدات عن مواجهة المشروع الإيراني الذي باتت مواجهتُه في العراق مرتفعةً أصلًا للغاية. 

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير