تأثيــــرات‭ ‬النمـــوذج‭ ‬التنموي‭ ‬السعودي‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬الإيراني

https://rasanah-iiis.org/?p=34396

مقدِّمة

على مدى عقْدٍ مضى، ألقت المنافسة الإقليمية بظلالها على العلاقات السعودية-الإيرانية، لا سيّما صورة المملكة داخل إيران، إذ ركَّز الخطاب الرسمي الإيراني على تغذية الصورة السلبية الخاصَّة بالمملكة، لكن في الآونة الأخيرة، أصبح النموذج التنموي السعودية يحظى بانجذاب رسمي إقليميًّا ودوليًّا، بالنظر إلى عديد من التطوُّرات المهمَّة داخليًّا وخارجيًّا، وبالنظر إلى المؤشِّرات والأرقام، التي وضعت المملكة في مكانة مهمَّة على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد كانت إيران من الدول، التي ظهر داخلها تأثير النموذج السعودي، لا سيّما بين النُّخبة وقطاع عريض من الرأى العام الإيراني. وهو رُبَّما ما أثار حفيظة بعض أركان النظام ومؤسَّساته، وذلك باعتبار أنَّ هذا النظام ينظُر إلى المملكة على أنَّها منافس إقليمي، وأن تصحيح صورة السعودية في الداخل ومقارنتها بسياسات النظام ومشروعه تضعه في حرج، وتُفقده سَرْديته حول المملكة، ناهيك بشرعيته.

في هذا إطار هذه التطوُّرات، يُثار التساؤل حول حدود تأثير النموذج التنموي السعودي في الداخل الإيراني؟ وتنبثق عن هذا التساؤل الرئيسي تساؤلاتٌ فرعية، أهمُّها: كيف تفاعلت النُّخَب والرأي العام الإيراني مع التحوُّلات الجارية في السعودية على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية؟ وكيف تمكن قراءة تأثير ذلك في الداخل الإيراني؟

 ستحاول الدراسة الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال تحليل محتوى مواقف النُّخبة والشعب الإيراني، بعد عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في مارس 2023م، من حيث التطوُّرات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها السعودية، ودور الإستراتيجيات والخطَط والمشاريع التنموية، التي وضعتها المملكة، في إحداث نقلة تنموية حضارية، وتحسين حياة المواطنين السعوديين إلى مستويات تكاد تقترب من مصاف الدول ذات الاقتصادات الصاعدة في مختلف أنحاء العالم، فقد أثارت نجاحات المملكة في مختلف المجالات ردود فعل نخبوية وشعبية إيرانية ناقمة على النظام الإيراني، الذي تتوافر له إمكانات لا تقِلُّ عن الإمكانات السعودية، بينما ترزح إيران في براثن العُزلة والحصار والضغوط، التي خلَّفت حالة من الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المزرية، إذ يفيد ذلك التحليل في كشف مدى تأثير النموذج السعودي في النظام الإيراني، واستمراريته في سياساته الداخلية والخارجية.

وقد اعتمد هذا البحث على مادَّة جمعها الباحث، وهي الأكثر تفاعلًا من حيث الردود، أو أبرز المقالات والتحليلات خلال الفترة التي أعقبت عودة العلاقات بين البلدين، ومحتوى هذه المادَّة يخُصُّ: (1) التعليقات على بيان السعودية بشأن حقل الدرة. (2) المقالات والتعليقات والتحليلات بشأن تصاعُد دور المملكة في الأزمة الأوكرانية. (3) تعليقات الخبراء والنُّخَب وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي الإيرانيين بشأن التنمية في المملكة والنموذج السعودي. (4) التعليقات على فيديو ظهر فيه الإعلامي الرياضي السعودي خالد الشنيف ينتقد أرضية ملعب آزادي، الذي استضاف مباراة فريق النصر السعودي لكرة القدم ونظيره برسبوليس الإيراني في مسابقات البطولة الآسيوية، إذ جرى تحليل مضمون ومحتوى هذه المواد، التي نُشِرت خلال الفترة بين يونيو وسبتمبر 2023م، لتقديم مقاربة أكثر واقعية لمواقف الإيرانيين تجاه التطوُّرات الجارية في السعودية، وتأثير هذه الآراء والمواقف في العلاقات بين البلدين.

أولًا: مواقف وآراء النُّخَب الإيرانية من التطوُّرات في السعودية

بعد عودة العلاقات العلاقات السعودية-الإيرانية، ظهرت مؤشِّرات على وجود تغييرات مهمَّة تخُصُّ صورة السعودية داخل إيران، إذ أصبحت المملكة موضوعًا مُتداوَلًا بصورة أكثر إيجابية على مستوى النُّخَب والرأي العام الإيراني. ويمكن إلقاء الضوء على ملامح هذه الصورة في إيران استنادًا إلى رأي النُّخَب والجماهير في وسائل الإعلام المختلفة، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك على النحو الآتي: 

1. الأداء السياسي للسعودية داخليًّا وخارجيًّا:

كانت من المُلفِت من عيِّنة الدراسة وجود إعجاب داخلي على مستوى النُّخبة والجماهير بالأداء السياسي للسعودية على الصعيدين الداخلي والخارجي، وقد كان واضحًا أنَّ الرأي العام متأثِرٌ بشدَّة بجوانب مختلفة من الأداء السياسي للسعودية، وأهمّها:

أ. دور الدبلوماسية السعودية في النزاعات الدولية: كان من الواضح تشكُّل اتّجاه داخل إيران يرى أنَّ السعودية نجحت في أن تستثمر في علاقات متنوِّعة على الساحة الدولية، بما يخدم مشروعها الوطني، وأنَّ ذلك يعود إلى رؤية قيادة المملكة الشابَّة ممثَّلةً في ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بجانب نُخبة مؤهَّلة علميًّا، إذ أكدت الآراء تأهيل النُّخبة السعودية، ومعرفتها وعلومها، التي مكَّنتها من الحضور المؤثِّر، والتعبير عن الدولة وتمثيلها على أحسن وجه في الخارج، وهي إشادة وثيقة الصِّلة بالإشادة بمكانة السعودية، مقارنةً بإيران في ما يتعلَّق بجودة التعليم. ومن بين ما تتداوله النُّخَب الإيرانية براغماتية التيَّار الحاكم في السعودية، التي كان لها دور كبير في التحوُّل الذي تشهده المملكة. فعلى سبيل المثال، أشادت النُّخبة الإيرانية بالدبلوماسية السعودية، ودورها البارز في حل النزاعات الدولية، وموقف الإيرانيين من اجتماع السلام الذي استضافته مدينة جدة السعودية وحضره ممثِّلون من نحو 40 دولة، بما في ذلك البرازيل وإنجلترا والهند والصين والولايات المتحدة وتركيا وجنوب إفريقيا ودول الاتحاد الأوروبي، لحلِّ الأزمة الأوكرانية، إذ يرى الأستاذ الجامعي محمد مهدي مظاهري أنَّ عقْد هذا الاجتماع في جدة أمرٌ مهم من أبعاد مختلفة، منها أنَّ هذا الاجتماع كان واحدًا من الاجتماعات القليلة، التي استضافتها دولة عربية للتوسُّط من أجل إنهاء أزمة دولية، وكان دورها في السابق يقتصر في الغالب على المستوى الإقليمي، كالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والحرب في اليمن، والحرب الأهلية السورية، وانتقال السُّلطة في العراق، والأزمات السياسية في لبنان. واعتبر مظاهري أنَّ استضافة اجتماع دولي لإنهاء حرب روسيا ضدّ أوكرانيا، التي تُفسَّر أيضًا على أنَّها حرب بين الدول الغربية وروسيا، هي مثال جديد يُظهِر جهد هذه الدولة العربية لتأكيد دورها على الساحة الدولية[1]. فيما اعتبر السفير الإيراني الأسبق في السعودية، محمد حسيني، أنَّ اجتماع جدة، على الرغم من أنَّه لم ينجح في وقْف الأزمة الروسية-الأوكرانية، لكنَّه كان بمثابة انتصار كبير للسعودية، ونجح في إخراج قوَّة عُظمى مثل الصين، والقوى الناشئة في النظام الدولي مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، من الحياد السلبي، وعزَّز مكانتها إلى جهات فاعِلة ذات دور إيجابي محايد، فضلًا عن أنَّه خلَقَ مكانة عالمية للسعودية، خصوصًا بعد إقناعها الصين بالمشاركة، لأنَّ بكين لم تشارك الصين في اجتماع السلام، الذي عُقِد في الدنمارك لإنهاء الحرب في أوكرانيا[2].

ب. النموذج الحداثي والتنموي: طرَحَ الإيرانيون مقارنة بين نموذج التنمية في إيران، الذي اعتمد على خطَط خمسية فشلت في تحقيق التقدُّم المنشود، وبين رؤية المملكة، التي جعلتها تسبِق إيران بفارق زمني على صعيد التحديث والتنمية، على الرغم من الموارد التي يتمتَّع بها البلدان. فالسعودية من وجهة نظر النُّخبة الإيرانية نجحت في استغلال عوائد النفط في التطوير والتحديث، فيما لم تستفِد إيران من مواردها النفطية الهائلة، وضيَّعت فُرصة مهمَّة. ويُفيد بذلك علي قنبري، النائب السابق في البرلمان والمساعد الأسبق لوزير الجهاد الزراعي وعضو هيئة التدريس بجامعة «تربيت مدرس»، الذي قال: «نحنُ متخلِّفون بمقدار 15 عامًا عن دول الجوار. نحنُ في أحسن الأحوال متخلِّفون 10 سنوات، وفي أكثر الحالات واقعية متخلِّفون 15 عامًا عن الدول المحيطة، مثل السعودية وتركيا، وغيرهما». لقد فرضت التطوُّرات في السعودية على نُخَب إيران توجيه انتقادات للتيّارات «المحافظة» التي لا تزال تهاجم المملكة، وتحاول النيْل منها، من خلال تشويه الواقع، ووصْف المملكة بأنَّها دولة «غير متقدِّمة» أو «محافظة».

ج. السياسة الخارجية المتوازِنة بين الشرق والغرب: كانت تحرُّكات السعودية الخارجية مجال لفْت انتباه النُّخبة الإيرانية، فقد أشادوا بسياساتها المتوازِنة، وعلاقاتها المتنوِّعة والإيجابية مع كل الأطراف الدولية، وتنويع مصادر الدعم السياسي والاقتصادي، بما في ذلك الحفاظ على علاقات مؤثِّرة مع الأطراف كافة، بما في ذلك الأطراف المتنافِسة والمتصارعة، كالصين وروسيا واليابان والهند والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. كما أُشير إلى استفادة السعودية من الظروف الدولية الراهنة في تعزيز مصالحها وتحقيق استقلاليتها، يظهر ذلك في مقال لمحمود سريع القلم، مستشار الرئيس السابق حسن روحاني وأستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بهشتي، إذ يقول: «أحرزت 6 دول مكانة مهمَّة بين القُوى الوسطى، وهي البرازيل والسعودية والهند وجنوب إفريقيا وتركيا وإندونيسيا. وتعمل هذه الدول الست مع الشرق والغرب، وقد حافظت جميعها على علاقات جيِّدة مع روسيا. ويتمثَّل أساس هذه السياسة الخارجية في الاستفادة القصوى من إمكانيات جميع القُوى العظمى، كما أنَّها تمنح هذه الدول الست القُدرة على لعِب الأدوار والمساومة وخلْق أجواء -التحوُّط-»، ويطرح ذلك مقارنة تلقائية مع سياسة إيران الخارجية، التي بدأت بالتركيز على الشرق والابتعاد عن الغرب، وهي السياسة التي يبدو أنَّها لم تنجح في أن تحلّ مشكلات إيران وأزماتها. فبينما توسِّع السعودية نشاطها الدبلوماسي ودوائر حركتها، وتنخرط باعتبارها طرفًا فاعلًا في النظام الدولي القائم، فإنَّ إيران تتحرَّك في إطار ضيِّق ومحدود ومناهِض لهذا النظام وقِيَمه وقواعده ومبادئه، لهذا تظهر السعودية وسيطًا في أهمِّ الصراعات، وفاعِلًا في مجموعة العشرين، وفاعِلًا إقليميًّا ترغب روسيا والصين في ضمِّه إلى تجمُّعاتها، فيما يذهب رئيسي إلى بعض دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول الإفريقية لمواجهة العُزلة والضغوط والعقوبات[3].

د. فاعلية دور السعودية الإقليمي: باتت السعودية أهمَّ لاعب إقليمي من جانب إيران بفضل تبنِّيها سياسة تصفير المشكلات والتهدئة والتعاون. فحسب علي بيغدلي، خبير العلاقات الدولية في صحيفة «آرمان ملي»، فإنَّ «السعودية تسعى لإيجاد تنوُّع وتعدُّدية في المنطقة، كما تحاول إحداث تغيير في العلاقات في المنطقة[4]»، ويرى كوروش أحمدي، الدبلوماسي السابق، أنَّ السعودية تتمتَّع بالشروط اللازمة كي تتحوَّل إلى بوّابة العالم العربي، وقد وجدت بهذه الطريقة فُرصةً غير مسبوقة للتأثير المباشر وغير المباشر في الشرق الأوسط. ستؤثِّر السياسة الداخلية والخارجية لمثل هذا البلد، بلا شكّ في المنطقة بأسْرها. وعلى العكس من ذلك، تُوجِّه النُّخبة الإيرانية انتقاداتٍ للنظام في ما يتعلَّق بدورها الإقليمي، وتوجيه موارد البلاد للمشروع الإقليمي، الذي يتبنَّاه النظام، وذلك بخلاف السعودية، التي وجَّهت مواردها إلى الاقتصاد، وهو ما مكَّنها من أن تصبح قوَّة إقليمية مؤثِّرة. فحسب صادق زيبا كلام، الناشط السياسي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة طهران: «بعد 7 سنوات من الحرب في اليمن، وكل تلك النفقات، وخسائر اليمنيين وضحاياهم وتدمير بلادهم، أصبحت السعودية أقوى.. ألا ينبغي أن يتحمَّل النظام المسؤولية عن إهدار المصالح القومية للبلاد في اليمن؟[5]».

ه. تحسين الصورة وصناعة التأثير: تنظُر النُّخبة الإيرانية بإعجاب إلى جهود المملكة على صعيد القوَّة الناعمة، وتسخير الإمكانيات كافَّة لخدمة هذا الهدف، ويعقدون مقارنة مع صورة إيران على الساحة الدولية. من ضمن الموضوعات المُثارة، الدبلوماسية الرياضية والترفيهية، التي استندت إلى استقطاب النجوم وتنظيم الفاعليات الدولية الرياضية، وغيرها من الجهود. ويُشير علي فريدوني في صحيفة «ستاره صبح»، إلى ذلك بقوله: «يتنافس السعوديون مع الدول المجاورة، سعيًا لترسيخ مكانة المملكة وجهةً ترفيهيةً-رياضيةً رائدة في منطقة الخليج العربي»، ويضيف: «يسعى السعوديون إلى استخدام الرياضة، خصوصًا كرة القدم، أداةً من أجل الانخراط في الدبلوماسية مع دول العالم».

ومثالًا على المقارنات، التي تجري بين البلدين، فقد لقِيَ تعليق الإعلامي الرياضي السعودي خالد الشنيف، الذي قارن فيه ملعب آزادي بملاعب السعودية قبل 30 عامًا، تأييدًا واسعًا من الإيرانيين في وسائل التواصل الاجتماعي. وكان الشنيف يقارن جودة أرض ملعب آزادي، الذي أُقيمت فيه مباراة برسبوليس الإيراني مع فريق النصر السعودي ضمن منافسات دوري أبطال آسيا، وكانت أرضية الملعب قد تسبَّبت في إصاباتٍ لبعض اللاعبين. ويُشير الجدول رقم (1) لبعض الردود الإيرانية حول تعليقات الشنيف.

جدول (1): نماذج من تعليقات الإيرانيين المؤيِّدة للإعلامي الرياضي السعودي والساخرة من النظام الإيراني

الردود المؤيِّدة لتعليق الشنيفالردود الساخرة من النظام والناقدة له
كم هي مُرَّة الحقيقة!على النظام الإيراني أن يستحيي.
 ينبغي البكاء دمًا.أنا لا أقبل بكلامه أصلًا، عُدنا 100 سنة للوراء.
كم كان كلامه مُحِقًّا!نحنُ نستغرب حقًّا كيف قبِلوا باللعب في هذا الملعب؟ أعتقدُ أنَّ الأمر سياسي، إذ إنَّهم لم يريدوا للعلاقات بين البلدين أن تتدهور مرَّةً أخرى.
إنَّه يُشير إلى جزءٍ ممّا ابتُلينا به… لا يُوجَد شيء مميَّز.منذ أن وصل النصر ورونالدو إلى إيران، انكشفت كثير من عيوبنا، وتيقَّنا بأنَّنا أكثر الشعوب والدول تخلُّفًا على جميع الأصعدة.
إن كُنَّا متخلِّفين 30 سنة فقط، فنحن راضون بذلك، لكننَّي أعتقدُ أنَّنا متخلِّفون أكثر من ذلك بكثير.إنَّ لاعبًا قيمته الملايين، إن حصل له التواء في الكاحل، ينفق فريقه ودولته على علاجه بما يعادل بناء ملعب كامل.
ماذا عسانا نقول أمام الكلام الصحيح؟غريب في الحقيقة.. كيف سمَحَ الاتحاد الآسيوي لكرة القدم باللعب في حظيرة آزادي؟
تعالَ وانظُر إلى كل مكان في إيران، فسينفطر قلبك.اشكر الله ألف مرَّة [أيُّها الإعلامي] وليس مرَّةً واحدة يوميًّا، بأنَّك لا تعيش في هذه الأرض الخرِبة.
بالضبط، ورُبَّما أكثر من ذلك. لم يكُن لدينا شيء سوى هذا الملعب.أُقسِمُ أننَّي قُلتُ لصديقي قبل أسبوعين إنَّني أشعرُ بالحسرة.. لماذا لم أُولَد في دولة مثل السعودية، التي كل ما يهُمّ ملكها هو رخاء شعبه. هُنا كل أهداف الحكومة قتل شعبها. يا للحسرة، وألف أسف.
لا ينبغي لأحدٍ أن يحزن، لأنُّه مُحِقٌّ تمامًا في كلامه.كم هو مهذَّب هذا المذيع! حين يقول إنَّنا متخلِّفون 30 سنة فقط. لقد احترمنا بشكل كبير.
قال الحقيقة، ولا ينبغي أن نوجِّه له الشتائم[6]. 

المصدر: إعداد الباحث.

يتّضِح ممّا سبق، أنَّ التطوُّرات السياسية في السعودية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، أصبحت مثار إعجاب من جانب النُّخَب الإيرانية، إذ سجَّلت المملكة حضورًا مهمًّا في المحافل الدولية، وكان لها دور بارز في تقديم مبادرات ذات طابع دولي وإقليمي، تتواكب مع تطلُّعات المجتمع الدولي، وتستجيب للمواجهة الجماعية للمخاطر. ويتّضِح ذلك في سياساتها المناخية، ومشروعها للشرق الأوسط الأخضر، إضافة إلى ذلك أصبحت السعودية عاصمة للدبلوماسية الإقليمية، ووسيطًا لتسوية النزاعات.

2. الأداء الاقتصادي:

 كان من المُلاحَظ وجود اهتمام من جانب الإيرانيين بعديد من القضايا الاقتصادية المتعلِّقة بالمملكة العربية السعودية، غطَّت غالبية جوانب الاقتصاد والتنمية داخل المملكة، وقارنوا بينها وبين الوضع في الاقتصاد الإيراني، مع الحسرة واليأس في بعض الأحيان.. وتمكن الإشارة إلى الجوانب، التي حظِيَت باهتمام من جانب الإيرانيين، على النحو الآتي:

أ. النمو الاقتصادي والاستثمار البشري: تحدَّث مستشار الرئيس السابق والأستاذ الجامعي المرموق محمود سريع القلم، عن مجموعة من الملاحظات الاقتصادية الإيجابية، التي استشفَّها من خلال مشاركة وفد المملكة العربية السعودية في منتدى دافوس الاقتصادي السنوي 2023م، وهي كما يصفها[7]:

 (1) تفاؤل السعوديين ونظرتهم المستقِرَّة والإيجابية تجاه المستقبل الاقتصادي.

(2) ارتقاء مهارات اللغة والتحليل للوفد المشارك، التي تعكس جودة رأس المال البشري، خصوصًا التعليم داخل المملكة.

(3) تحقيق معدل نمو اقتصادي من بين الأعلى في العالم (8.7%)، وخطَط استثمارية لتعظيم حجم الثروة والاحتياطات النقدية، للوصول إلى 2 تريليون دولار بحلول 2030م.

(4) تحقيق مكانة مهمَّة بين القُوى الوسطى العالمية، وهي البرازيل والسعودية والهند وجنوب إفريقيا وتركيا وإندونيسيا، مع الحفاظ على علاقات جيِّدة مع الشرق والغرب.

وفي ذات السياق، وصف على قنبري، الأستاذ الجامعي والنائب البرلماني السابق، وضْع التنمية في بلاده، مقارنةً بالسعودية، قائلًا: «نحن متخلِّفون بمقدار 15 عامًا عن دول الجوار. نحُن في أحسن الأحوال متخلِّفون 10 سنوات، وفي أكثر الحالات واقعية متخلِّفون 15 عامًا عن الدول المحيطة، مثل السعودية وتركيا وغيرهما».

وقال الخبير الاقتصادي وحيد شقاقي: «إن لم نتمكَّن مع العقد الحالي (2020-2030م) من تحقيق نمو اقتصادي مرتفع، سيكون من المستحيل بالنسبة لنا الوصول إلى اقتصاد السعودية»، وأضاف: «دخلت السعودية الموجة الثالثة من المعرفة، وأحدثت تغييرات جوهرية في الاقتصاد المرتكز على المعرفة، وتغيَّر نظام الثروة لديها، وباتت تستفيد من العناصر المولِّدة للثروة، مثل الاقتصاد الافتراضي والذكي والأخضر والطاقات المتجدِّدة، بينما لا نزال نعيش في مرحلة الموجة الثانية». 

أمَّا عن جودة التعليم والاهتمام بالصحة، فقال إحسان بداغي، الكاتب الصحفي: «حسب نتائج اختبار بيرلز لجودة التعليم في المدارس، وقعت إيران في قعْر الجدول من بين 57 دولة مشاركة، ولم يتخلَّف عنها سوى الأردن ومصر والمغرب وجنوب إفريقيا. بينما احتلَّت السعودية مركزًا أفضل، مقارنةً بإيران. وتخطّط السعودية لزيادة عدد سُكّانها بنسبة 50% حتى عام 2030م، بينما تمنع إيران اختبارات الكشف عن وجود إعاقة لدى الجنين، وتصعِّب الوصول إلى أدوات منْع الحمل، وبعد ذلك يصِف كثير من السياسيين الإيرانيين حُكام السعودية بالرجعيين والجاهلين!».

وتؤكِّد هذه الآراء ترسُّخ النظرة الناقمة من النُّخَب الإيرانية تجاه أوضاع بلادهم الاقتصادية والبشرية، في مقابل، ليس فقط الإعجاب بالتنمية الاقتصادية السعودية، بل التيقُّن من الهوَّة الكبيرة بينهم وبين الاقتصاد السعودي، واليأس من اللحاق به على المدى القصير، في ظل استمرار الأوضاع السائدة. وبالتوازي مع آراء النُّخَب، فإنَّ آراء المجتمع تسير في ذات الاتّجاه بحجم هائل من الإعجابات، اقتربت من نصف مليون إعجاب لبعض المشاريع التنموية والريادية بالمملكة (انظر جدول 2).

جدول (2): أبرز مشاريع التنمية والموضوعات المتعلِّقة بالسعودية التي لاقت إعجاب الإيرانيين على المواقع ووسائل التواصل

الموضوععدد الإعجابات
مشاريع التنمية في المملكة – المكعَّب الذهبي بالرياض476000
أحدث مدينة في العالم، «ذا لاين» السعودية112125
قيمة أُصول صندوق الاستثمارات السعودي تصِل إلى 600 مليار دولار17560
البيان السعودي بأحقِّيتها فقط والكويت في حقل الدرة14482
مقال الدكتور محمد السلمي رئيس معهد «رصانة» على موقع «عصر إيران»، تحت عنوان: «تنافُس النماذج في منطقة الشرق الأوسط».1450
اجتماع جدة بشأن أوكرانيا – موقع «دويتشه فيله – إنستغرام»[8]4773

المصدر: إعداد الباحث.

 ب. السياسات والتخطيط الاقتصادي للمستقبل: مستشهدًا بالمقارنة بكفاءة السياسات الاقتصادي السعودية، قال حجت ميرزائي، عضو هيئة التدريس بكلِّية الاقتصاد بجامعة طبطبائي: «الخيار الصحيح في إدارة الاقتصاد، يجعلنا نصل بعد 15 عامًا إلى المستوى الحالي للسعودية، وإن أخطأنا، فستكون أوضاعنا أسوأ من الأوضاع الحالية في باكستان، في غضون عام ونصف العام».

 يتّفِق مع  ميرزائي، الخبير الاقتصادي سيامك قاسمي، قائلًا: «إن تغيَّر كل شيء في إيران اليوم، ووُضِعت التنمية أولوية في البلاد، وأُزيلت العقوبات، فإنَّه بناءً على معطيات البنك الدولي، تحتاج إيران 15 عامًا للوصول إلى مستوى الاقتصاد الحالي في السعودية، و13 عامًا للوصول إلى الاقتصاد الحالي في تركيا. إن أردتم قول الحقيقة، لم يعُد من الممكن ردْم هذه الهوَّة[9]».

ومثالًا على الفروق في السياسات والتخطيط المستقبلي، أشادت وكالة «سحام نيوز» الإيرانية بمحاولات وزير السياحة السعودي لتنمية قطاع السياحة والاستثمار بضخِّ 800 مليار دولار في هذا القطاع، في غضون 10 أعوام. بينما تدور أفكار وسياسات وزير السياحة الإيراني حول إعطاء السياح «إنترنت» مفتوحًا دون حجْب مواقع، ويسعى لإقناع استخبارات الحرس الثوري بعدم استخدام السيَّاح رهائن! ويمثِّل الجدول التالي جانبًا من تعليقات الإيرانيين المعجبة بالقيادات والسياسات السعودية على مواقع إيرانية، وحجم التفاعل معها من الإيرانيين أنفسهم (انظر جدول 3).

جدول (3): جانب من تعليقات الإيرانيين المعجبة بالقيادات والسياسات السعودية على مواقع إيرانية

التعليقعدد الإعجابات
هو [ولي العهد] يحوِّل السعودية إلى قوَّة عالمية، لكنَّنا لا نزال نبحث عن كاسر «بروكسي».3781
تحية لحاكمهم الوطني، الذي يفكِّر بمآلات الأمور وعواقبها.359
محمد بن سلمان واحد من أفضل الدبلوماسيين، الذين يعيشون في عصرنا143
تحية لحاكم السعودية، الذي يفكِّر بشكل صحيح16
يا الله، نحن نُكِنُّ الحب والاحترام لبِن سلمان[10]30

بينما استنكر مهدي بازوكي، أستاذ الاقتصاد بجامعة طبطبائي، عدم قُدرة إيران على تحقيق المُستهدَفات الاقتصادية طويلة المدى، قائلًا: «وفقًا لوثيقة الرؤية العشرينية، ينبغي أن نكون القوَّة الأولى في جنوب غرب آسيا. لم نكتفِ بعدم تحقيق ذلك، بل زادت المسافة بيننا وبين قطر والسعودية والإمارات وتركيا، وحتى أذربيجان». وأشار إلى نجاحات استثمارات صندوق التنمية الوطني، قائلًا: «على أعضاء صندوق التنمية الوطني الذهاب إلى النرويج والسعودية والكويت كي يروا كيف يديرون هذه الصناديق[11]».

وتُعَدُّ هذه الصناديق بالفعل من أنجح وأكبر صناديق إدارة الثروة في العالم، وتضع السعودية خطَّة للوصول بثروة الصندوق إلى 2 تريليون دولار بحلول 2030م. في المقابل، يجري استنزاف صندوق التنمية أو الثروة الإيراني كل عام من أجل دعْم الميزانية الحكومية، ولا يكاد تتبقَّى فيه إلا بضعة مليارات من الدولارات، على الرغم من كونها دولة نفطية كبيرة، الأمر الذي يبيِّن المفارقة الواضحة في الإدارة والسياسات الاقتصادية المُتَّبَعة في البلدين.

ج. التبادل التجاري مع الدول الصناعية الكُبرى: تحسَّر عدد من الاقتصاديين والباحثين الإيرانيين على حجم تجارتهم مع الدول الصناعية الكُبرى المصدِّرة للتكنولوجيا، كاليابان والصين، مقارنةً بالسعودية، ناهيك بدول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، التي انقطعت التجارة معها منذ إعادة فرْض العقوبات الأمريكية في 2018م.

يقول أبو الفضل كريمي، الباحث الايراني في قضايا العالم العربي: «تجاوز حجم التبادل الاقتصادي بين السعودية واليابان 33 مليار دولار في عام 2021م، ووصل إلى رقم رائع يبلغ نحو 47 مليار دولار في عام 2022م، بزيادة 42%، منها نحو 40 مليار دولار (39.78) تتعلَّق بالصادرات السعودية إلى اليابان. ولأغراض المقارنة، سنكتفي بذكر هذه الحقيقة الصادمة والمُرَّة، وهي أنَّ إجمالي صادرات اليابان إلى إيران في عام 2022م، كان أقلّ من 50 مليون دولار! وفي الحقيقة هذا الحجم التافه لا يعادل تبادلًا اقتصاديًّا بين شركتين اقتصاديتين كبيرتين[12]».

ويؤكد ذلك اقتصادي آخر، هو إحسان سلطاني، الباحث والمستشار الاقتصادي، قائلًا: «تراجعت إيران بشدَّة في مجال التجارة العالمية، حتى عن دول المنطقة. وهو مسار بدأ قبل أربعة عقود. وصل حجم التجارة الخارجية لإيران إلى أقلَّ من رُبع السعودية وتركيا والإمارات في عام 2022م».

أمّا عن حجم التجارة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وهو الصين، فتُشير صحيفة «بيام اقتصاد» الإيرانية إلى «ارتفاع حجم التبادل التجاري بين إيران والصين من 14.8 مليار دولار في سنة إبرام اتفاقية الـ25 عامًا، إلى 16 مليار دولار. بينما في هذه المدَّة الزمنية، ارتفع حجم التبادل التجاري بين السعودية والصين من 87 مليارًا إلى 114 مليار دولار.. لا داعي لمزيد من التوضيح!».

وفي ذات السياق، صرَّح محمود صدري، الصحفي في صحيفة «آرمان أمروز»: «إنَّ مجموع التبادلات بين السعودية والصين قد يصِل إلى 300 مليار دولار، والرقم المُستهدَف في المستقبل هو 500 مليار دولار. هذا الحجم من العلاقات، التي تشتمل على شراء الطاقة وتصدير الخدمات والتكنولوجيا، يتزامن مع توفير الحد الأقصى من مصالح الصين في حاجتها إلى الطاقة، وحاجتها إلى تصدير السِّلَع أيضًا[13]».

د. استقرار العملة ومؤشِّر سعادة المجتمع: متعجِّبًا من التدنِّي الكبير لقيمة العملة الإيرانية وتأثيره في جودة حياه الإيرانيين خلال السنوات الأخيرة، يضرب أحد رواد مواقع التواصل في تغريدة على موقع «تويتر» مثالًا على ذلك، قائلًا: «من خلال 100 ألف ريال سعودي، من الممكن شراء سيارة بي إم دبليو، فيما لا يمكن من خلال 100 ألف ريال إيراني سوى تنظيم هواء إطارات السيارة».

بينما قارن محمود صدري، الصحفي في صحيفة «آرمان أمروز» الإيرانية، ترتيب بلاده بترتيب السعودية في مؤشِّر السعادة العالمي، قائلًا باندهاش من الفرق الكبير بين استقرار وسعادة المجتمعين: «حسب أحدث تقارير مؤشِّر السعادة العالمي، احتلَّت إيران المركز 101، فيما احتلَّت السعودية المركز 30».

ه. الاستقلالية السياسية والاقتصادية: يرى الأستاذ الجامعي مجيد مرادي أنَّه «منذ أعوام طويلة نُطلِق شعار (الموت لأمريكا)، ونستهزئ بالسعودية بأنَّها تابعة لأمريكا، لكن حين ننظُر مليًّا، نرى أنَّنا أصبحنا عمليًّا تابعين لأمريكا، نسعى لاسترضاء أمريكا للموافقة على الإفراج عن أموالنا في كوريا الجنوبية لاستخدامها لأغراض مدنية. بينما تقاوم السعودية أمريكا، وأدخلت الصين إلى الشرق الأوسط. إنَّ الاقتصاد القوي هو الذي منَحَ السعودية الاستقلال السياسي، وليس شعارات مواجهة الاستكبار العالمي، وما أضرَّ باستقلالنا عمليًّا هو الاقتصاد الضعيف[14]».

و. بيئة الاستثمار والتفاوت في استغلال الثروات: يرى داؤود سوري، الخبير الاقتصادي المعروف والأستاذ السابق بجامعة أصفهان، أنَّ «الاستثمار الأجنبي لا يجري بالنقود فقط، وهي موجودة بكثرة في السعودية. الاستثمار يحدث في العلم والخبرة والإدارة والمشاركة في سلسلة إنتاج السِّلَع والخدمات والرفاهية الدولية! أي يُقصَد بيئة الأعمال الجاذبة. هذا ما تريده السعودية، وهو ما لا نملكه نحنُ ولا نريد أن نمتلكه. حفظ الله بلادنا من الجهل والكذب!».

ويؤكد ما سبق بيمان مولوي، الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي، قائلًا: «مبيعات النفط السعودية 326 مليار دولار في السنة، أي 27 مليار دولار في الشهر، أي 876 مليون دولار في اليوم، بينما نلهثُ نحن وراء نقودنا في صندوق النقد الدولي[15]. وفي المقابل، بلغت الأموال الضائعة على إيران من مبيعات النفط 4 تريليونات ونصف التريليون دولار، بسبب العقوبات. وفي قطاع التعدين، استثمرت السعودية في العامين الماضيين بخمسين مليار دولار على قطاع التعدين. وتعتزم الرياض زيادة إيراداتها من التعدين، البالغة 17 مليار دولار حاليًّا، إلى أكثر من 60 مليار دولار حتى عام 2030م».

وفي ذات السياق، يقول سيامك قاسمي، الخبير الاقتصادي: «بينما تقِف جماعة في طابور في إيران كي يصدِّعوا رؤوسنا ببشارة الإفراج عن 7 مليارات من أموال إيران المجمَّدة في كوريا الجنوبية، بدأت العام الماضي الإمارات والسعودية إطلاق استثمارات مباشرة في كوريا الجنوبية بقيمة 40 مليار دولار. في العام الماضي كانت إيرادات السعودية من النفط قرابة مليار دولار يوميًّا، أي إنَّ هذه المليارات السبعة، إيرادات السعودية في أسبوع واحد. يا إيران! كم غَدَوتِ فقيرة، إذ تكون 7 مليارات دولار إنجازًا بالنسبة لك»[16].

يتّضِح ممّا سبق، اهتمام النُّخَب الإيرانية بالأوضاع الاقتصادية لجيرانهم، خصوصًا المملكة العربية السعودية، واستشعارهم بعض الحسرة على حالهم أحيانًا للفوارق الكبيرة بين واقعهم الاقتصادي المتأخِّر، وهُم دولة نفطية قديمة، وبين التقدُّم الاقتصادي والتنموي الكبير مع جارتهم الغربية المملكة العربية السعودية، والفرق في نوعية الفكر والتخطيط الاقتصادي بعيد المدى، وما وصل إليه المجتمع من تفاوُت في الرفاهية والسعادة. ليس هذا فحسب، بل مقارنة ما وصلت إليه إيران من تبعية وحاجة إلى الغرب على أرض الواقع، على الرغم من إعلاء سياسات المقاومة والاستقلال السياسي والاقتصادي، في مقابل ما وصلت إليه المملكة من استقلالية وقُدرة على التأثير في المجتمع الدولي.

3. الآراء والمواقف الخاصَّة بالقضايا الدينية والثقافية:

وتشمل ما يأتي:

أ. توجُّهات رجال الدين: قبل التفاهمات السعودية-الإيرانية كانت النُّخَب الدينية الإيرانية تُعادي توجهات المملكة، وتقرنها دومًا بالمخطَّطات «الأمريكية والصهيونية»، بيْد أنَّ التفاهمات بين البلدين أحدثت تحوُّلًا ملحوظًا في أدبيات رجالات الحوْزة وخُطباء الجمعة، فقد جعلوا التقارب الإيراني-السعودي سبيلًا إلى وحدة الأمة ونبْذ خلافاتها.

تأتي خطبة الجمعة في إيران مثالًا على هذا التحوُّل، إذ إنَّ خطبة الجمعة تكون معمَّمة على جمهرة الخُطباء في عموم إيران، وبالتالي فهي دالّةٌ على سياسة النظام وتوجُّهاته[17]. ففي خطبة جمعة لـ«حـُجَّة الإسلام» حسن زومي، رحَّب بالاتفاق مع السعودية، وأكد أنَّ أمريكا وإسرائيل كانتا الرابح الرئيسي من العداوة الإيرانية-السعودية، واتّهم الحكومة السابقة، حكومة روحاني، بتدمير علاقة إيران مع الدول المجاورة، لكن الحكومة الثورية، أي حكومة رئيسي، تحرَّكت في سياسة حُسن الجوار. أيضًا أشار إمام جمعة كلستان إلى أنَّ الاتفاق الإيراني-السعودي دليل على القوَّة الإقليمية لإيران الإسلامية، وعلامة على هزيمة المعارضة الخارجية، مؤكدًا أنَّ الاتفاق يصُبُّ في مصلحة إيران والسعودية، والمنطقة كلِّها، والعالم الإسلامي بأسْره. أمَّا «حُجَّة الإسلام» حسن ترابي، فأكَّد في خطبة جمعة له أنَّ الاتفاق بين إيران والسعودية يُعتبَر هزيمة ثقيلة لأمريكا وإسرائيل، وهو نفس ما أكَّده «حُجَّة الإسلام» إسماعيل كاظمي، وزاد عليه هزيمة المخرِّبين في الداخل والخارج[18]. في حين أكد خطباء آخرون أنَّ هذا الاتفاق إذا جرى تنفيذه بشكل صحيح سيكون بداية لتشكيل «اتحاد العالم الإسلامي»[19]. وفي مؤتمر الوحدة الإسلامية هذا العام، ألمح «حُجَّة الإسلام» شهرياري في كلمته إلى أهمِّية التعاون الإيراني-السعودي، قائلًا: «الحدث الثالث، الذي يمكن اعتباره أهمَّ تغيير نحو التعاون والصداقة بين الدول الإسلامية، هو استئناف العلاقات السياسية بين السعودية وإيران، إذ بثَّ نور الأمل في قلوب مجدِّدي العالم الإسلامي، فقد تخلَّت المدرستان السياسيتان –العقائديتان- عن الصراع، ونفذت أعمالًا مؤثِّرة في مسار التعاون»، كما أثنى على التوجُّهات الجديدة للمملكة العربية السعودية، والخطاب الديني المنفتح[20]. ورجع عضو مجلس خبراء القيادة «حُجَّة الإسلام» محسن حيدري، التقارب السعودي-الإيراني إلى تنحية ما سمَّاه التيَّار «الوهَّابي» في معقله[21].

إذًا، كان موقف رجال الدين «المحافظين» متناغمًا مع مسار السُّلطة، معتبرين أنَّ الاتفاق إنجازٌ من إنجازات «الحكومة الثورية»، وأنَّ تخريب العلاقات مع دول الجوار كان بسبب الحكومات السابقة. لذا، فمن المرجَّح أن يبقى رجال الدين داعمين للاتفاق، ما بقيت النُّخبة الحاكمة تدعمه وترى فيه حلًّا لكثير من مشكلات إيران السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ومن المرجَّح كذلك أن يرجع المحافظون من رجال الدين عن دعمهم، إذا قرَّرت السلطة الإيرانية عدم المضيِّ فيه، ولكلِّ مرحلة تبريراتها، من داخل منظومة المعارف الإسلامية الظنِّية والمصلحية، التي يُراد بها تعزيز الشرعية، وتمتين حواضن التقليد.

ب. الإعجاب بالإصلاحات الخاصَّة بالمرأة والشباب: أدرك الإيرانيون تأثير النموذج السعودي في عموم شعبهم، خصوصًا بعد التطوُّرات اللافتة والتحديثات الجريئة، التي قطعتها الحكومة السعودية، لا سيّما تلك الإصلاحات الخاصَّة بالشباب والنساء في السعودية، كالسماح بقيادة المرأة ودخولها الملاعب، وعدم اشتراط لبْس العباءة أو ملبس محدَّد، وتوظيفها في القطاعات كافة، كل ذلك ألهم المرأة الإيرانية، التي باتت تقارن بين المشهد السعودي والمشهد الإيراني، ما مثَّل ضغطًا وعبئًا على نُخَب الحُكم الإيرانية، فسعت من خلال التهدئة مع السعودية امتصاص هذا الغضب الداخلي، ومحاولة الإبقاء على نفس القراءة الدينية والمذهبية، مع بعض التغيرات في الأدبيات وإستراتيجية الخطاب، خصوصًا بعد مقتل مهسا أميني ونشوب مظاهرات شبابية ونسائية ضدَّ سياسة النظام.. ويُظهِر الجدول التالي جانبًا من التفاعل في هذا الشأن (انظر جدول 4).

جدول (4): جانب من تعليقات الإيرانيين الساخطة على أوضاعهم الحياتية والاقتصادية مقارنةً بالسعودية

التعليقعدد الإعجابات
حجابك أختاه! [سخرية].1170
نحن منهمكون بالحجاب، وبأي قدم ندخل دورة المياه.886
ليتني كنت مواطنة سعودية!74
نحن الآن نناضل من أجل خصلة شعر.8
سيصِل اليوم الذي يركب فيه الإيرانيون على الجمال بسبب هؤلاء المسؤولين[22].23

المصدر: إعداد الباحث

ج. مواجهة التطرُّف والتشدُّد: على الجانب السعودي، كان لافتًا أيضًا أنَّ الدولة ضربت بيدٍ من حديد على أشكال التطرُّف الفكري والديني كافَّة، ما أنهى خطاب الكراهية والتكفير والإقصاء ضدّ الأقلِّيات والأديان والمذاهب، إلى حدِّ كبير، وبالتالي ضغطت هذه الإستراتيجية على الجانب الإيراني، باعتبارها ملهمة لعموم شعبه، من جرّاء ما يمارسه بعض رجال الدين في الحوْزة من تكفير وإقصاء ضدّ المخالفين، فاضطرَّ الإيرانيون إلى تبديل لغة الخطاب، أو تجميلها في كثير من الأحايين، لمواكبة عقلانية الخطاب الديني السعودي في ثوبه الجديد.

ثانيًا: أبرز جوانب التأثير في الداخل الإيراني

أدَّى التنافس بين المملكة العربية السعودية وإيران، باعتبارهما قوّتين إقليميتين في المنطقة، إلى جعْل التطوُّرات الداخلية في كلِّ بلد ضمن بؤرة اهتمام البلد الآخر، وقد انعكس ذلك على الرأي العام الداخلي، الذي يُجري مقارنات متنوِّعة، حسب سياق القضايا المُثارة في الدولة المنافسة عبر الإعلام الدولي والمحلِّي. تُوجَد نقاط تشابه بين إيران والسعودية، على غرار الإمكانيات الاقتصادية، والمساحة الجغرافية، والرمزية الدينية للبلدين، وطبيعة مجتمعاتهما المحافظة. وتضيف هذه التقاطعات جرعةً للنقاشات المجتمعية، إذ يفترض أن تكون الأوضاع المعيشية متقاربة فيهما، وكلَّما اتّسعت الفوارق زادت حدَّة النقاش، لذلك يميل الإيرانيون كثيرًا إلى مقارنة الأوضاع في بلدهم بدول الجوار الخليجي، خصوصًا المملكة العربية السعودية.

تجعل هذه الخلفية التنافسية بين إيران والسعودية، تأثير الأخبار الواردة من أو عن الرياض مختلفة عن غيرها، لأنَّ المعركة داخل المملكة محسومة.. فالمجتمع السعودي يعيش في أمان واستقرار منذ عقود، وفي السنوات الأخيرة بات يشهد إنجازات كبيرة جدًّا في إطار رؤية 2030، لذلك تبقى المعركة داخليًّا إيرانية بامتياز، لأنَّ المجتمع الإيراني يعيش أوضاعًا تنحدر نحو الأسوأ منذ عقود، وعلى المستوى الشعبي يسود التذمُّر والحسرة بين الإيرانيين للأوضاع، التي آلت إليها معيشتهم، والخيارات السياسية، التي جعلتهم في مواجهة وعداء مع كثير من دول العالم.

1. تآكُل السردية الإيرانية الرسمية حول السعودية:

تتمحور السردية الرسمية في إيران لمشروعها الداخلي وعلاقاتها الخارجية، حول المواجهة المستمِرَّة مع القُوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة، التي تهدف إلى «تدمير إيران»، من خلال تغيير النظام الحالي واستبدال به آخر تابعًا لها كما كان في زمن الشاه. وأنَّ إيران «تعرف تطوُّرات كبيرة جدًّا، واستطاعت فرْض نفسها على الساحة الدولية والإقليمية»، على الرغم من العقوبات التي تواجهها. ويُفرد النظام الإيراني للملكة العربية السعودية مجالًا واسعًا في هذه السردية، إذ يقدِّمها جزءًا من هذا «المخطَّط الغربي»، وأنَّها «مصدر الإرهاب والمؤامرات ضدّ إيران»، فالسعودية -وفق الرواية الإيرانية- الرسمية «عميلٌ» للولايات المتحدة الأمريكية، وهي من يدعم الجماعات المتطرِّفة والمعارضة الإيرانية في الخارج، كما تنخرط في كل التحالفات، التي تستهدف إيران.

كان النظام الإيراني يقدِّم رواية خاطئة وغير دقيقة حول السعودية، لكن التطوُّرات، التي تشهدها المملكة على الأصعدة كافَّة، أدت إلى تآكُل السردية، التي طالما وظَّفها النظام الإيراني للنيل من السعودية، خصوصًا أنَّ هذه الرواية تتغيَّر من خلال تعليقات وكتابات الإيرانيين في الداخل. وكانت تلك التطوُّرات بمثابة انتهاء لحالة السيطرة، التي فرضها النظام على عقول الإيرانيين، ولتشكيل الرأي العام الداعم لسياساته المناهِضة للمملكة.

أقدمت المملكة العربية السعودية في المرحلة الأخيرة، خصوصًا بعد اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، على عديد من الخطوات العلمية، التي أثبتت وجود مسافة واضحة في علاقتها مع الإدارة الأمريكية، كان أبرزها عدم الاستجابة لمطالب الرئيس جو بايدن لرفع إنتاج النفط، ثمّ الموافقة على توقيع الاتفاق مع إيران نفسها برعاية الصين، المنافس الأول للولايات المتحدة الأمريكية. أكدت هذه الخطوات، وغيرها، أنَّ توجُّهات المملكة تُعلي من أنَّ المصلحة الوطنية حقيقية وليست مجرَّد خطاب، وهو ما أربك السردية الإيرانية الرسمية، التي كانت تركِّز على التوافق بين السعودية وأمريكا للتغطية على إخفاقاتها، وتعمد إلى التقليل من أهمِّية الإنجازات السعودية ونسبتها إلى الدعم الغربي فقط. ومن جهة أخرى، فإنَّ وقْف الهجمات الإعلامية، التي كانت من مُخرَجات الاتفاق السعودي، يُلزِم طهران عدم تصدير مشكلاتها الداخلية على أنَّها مخطَّطات أجنبية عمومًا، وسعودية خصوصًا. في المقابل، فإنَّ الإنجازات السعودية في مختلف القطاعات كشفت عن أنَّ المشكلة، التي تواجه إيران، نابعة من خياراتها الداخلية والخارجية الخاطئة، وأنَّ الواقع مختلف كثيرًا عن السردية الرسمية، التي تعلِّق كل مشكلاتها على الأجانب. 

2. ورقة ضغْط غير مباشرة على النظام الإيراني:

تبعث الأوضاع السيِّئة عادةً المجتمعات إلى التذمُّر، لكن مقارنة حالتها بحال مجتمعات أخرى تشابهها من حيث الإمكانيات والقُدرات وأوضاعها جيِّدة، تُضاعف حجم التذمُّر والرفض، وتزيد غضبها من قيادتها السياسية، التي تحمِّلها المسؤولية عن كلِّ مشكلاتها. من هذا المنطلق، فإنَّ استمرار النجاحات السعودية سيقابله على الطرف الإيراني مزيدٌ من الاحتقان المجتمعي، خصوصًا أنَّ النظام السياسي سيجِد صعوبة في البحث عن سلبيات، في ظل التدفق الهائل لأخبار الإنجازات في المملكة، التي تكون في بؤرة الاهتمام العالمي بشكل يصعُب التغطية عليها، لا سيّما في ظلّ التطوُّر التكنولوجي، وتنوُّع مصادر التلقِّي. والأهمّ من ذلك، أنَّ صدى بعض تلك الإنجازات يعايشه الإيرانيون بشكل مباشر، خلال زيارتهم المملكة لأداء مناسك الحج والعمرة، ومعاينة التطوُّرات الكبيرة في التنظيم وتقديم الخدمات، أو في المناسبات الرياضية، التي تجمع فِرَق البلدين، ويشارك فيها نجوم عالميون، كما حصل في المباراة التي جمعت بين نادي النصر السعودي ونظيره الإيراني برسبوليس، وطريقة استقبال الإيرانيين النجم العالمي كريستيانو رونالدو.

 وستبقى مواقع التواصل الاجتماعي الفضاء الأوسع، الذي يُظهِر تفاعُل الإيرانيين مع التطوُّرات السعودية، التي تصُبّ جُلُّها في إلقاء اللوم على القادة الإيرانيين. والمشكلة التي يواجهها النظام الإيراني في هذا السياق، أنه لا يزال أسير المرحلة الأولى بعد نجاح ثورة 1979م، عندما كان في أوج حماسته الثورية، فقدَّم نموذجًا ينهل من القِيَم الأخلاقية والدينية، التي تحارب الظلم والفساد وتنشر العدالة، ووعد الإيرانيين بمستقبل أفضل من الوضع، الذي كانوا يعيشونه في حُكم الشاه. غير أنَّه بعد أربعة عقود، فشل النظام الإيراني في كل وعوده، والأجيال الجديدة لا تعرف إلّا نكبات النظام الحالي، وحتى تلك الأجيال، التي عايشت فترة حُكم الشاه، باتت تتحسَّر عليها، وتتمنَّى العودة إليها. ولا يعني هذا عدم وجود منتقدين للمملكة في إيران، لكن حجمهم على المستوى الشعبي يبدو ضعيفًا، بالمقارنة بالمعجبين بالنموذج التنموي السعودي. ويُظهِر الجدول التالي (انظر جدول 5)، جانبًا من تلك الانتقادات وضعْف التفاعل معها، مقارنة بالتفاعل الإيجابي في الجداول سابقة العرض.

جدول (5): يضُمُّ جانبًا من تعليقات الإيرانيين الناقمة على السعودية وحجم التفاعل معها

التعليقات السلبيةعدد الإعجابات
الحُجّاج يذهبون إلى السعودية ويقدِّمون لها ما تحتاج إليه من الميزانية.168
 تمکَّنت السعودية من نهْب أموال المسلمين عبر مكعّبها القديم [الكعبة]، والآن تخطِّط لنهب أموال غير المسلمين.83
سنذهب لإغلاق السفارة.22
مرَّةً أخرى تطاولت السعودية.3
مهما تقدَّمت، تبقى مهْد الإرهاب وداعش.1
 وصلنا إلى درجة نتحسَّر فيها على أوضاع دولة صغيرة في الخارطة. 14
لا يبنون جنة الخُلد، يبنون قفصًا جيِّدًا360
لا نحسد السعودية على الإطلاق، لديهم فقط الكعبة وقبر النبي، فليموتوا غيظًا، سنبني ألفين حتى ثلاثة آلاف ضريح[23].17

المصدر: إعداد الباحث

تأسيسًا على هذا، سيكون النموذج السعودي أحد العوامل الخارجية غير المباشرة في الاحتجاجات، التي لا يُستبعَد أن تشهدها إيران مستقبلًا، إذا أصرَّت النُّخبة الحاكمة على مواصلة مقاربتها السياسية الفاشلة، ولم تفعل أيَّ تغيير حقيقي للخروج من المأزق الاقتصادي، الذي تعيشه البلاد منذ سنوات. هو وضْعٌ يُشير إلى ما حصل خلال الحرب الباردة، وصراع النماذج بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، فبينما تجسِّد رؤية 2030 الحلم السعودي، يكابد الإيرانيون شظف العيش ويتوجَّسون من المستقبل المجهول.

3. قوَّة دفْع لإصلاح السياسات وتغيير التوجُّهات:

ترفع التطوُّرات الحالية أسهم الإصلاح داخل إيران، وليس المقصود هنا التيّار «الإصلاحي» تحديدًا، وإنّما كل المطالبين بالإصلاح حتى من داخل التيّار «المحافظ»، إذ يدفع الوضع المزري وتفاقُم المشكلات إلى ارتفاع الأصوات «الإصلاحية» التي تترافع من أجل سياسة خارجية متوازنة تقود إلى علاقات طبيعية مع الغرب لوقف العقوبات، وتسمح باندماج إيران في الاقتصاد العالمي، بما يتيح المجال لتنفيذ كثير من البرامج الاقتصادية والخطَط التنموية المعطَّلة. طبعًا، لا يُستبعَد أن يستفيد التيّار «الإصلاحي» من التغييرات، التي انتهجتها المملكة العربية السعودية في سياستها الخارجية، وتحديدًا تجاه الولايات المتحدة، إذ يوظِّفها في مجادلته ضدَّ التيَّار «المحافظ». وردود فعل الأخير، قد تكون نحو تبنِّي تلك الخيارات ونسبتها لنفسه، كما حصل سابقًا، أو انتهاج مزيد من الخيارات «المحافظة»، لتأكيد سيطرته ومواصلة سرديته في تحميل القُوى الأجنبية مسؤولية مآلات الأمور، ما قد يقود إلى تصادم على المستوى البعيد. وفي كل الأحوال، سيكون النموذج السعودي حاضرًا في خلفية المشهد بطريقة غير مباشرة.

4. محاكاة النموذج وإمكانية الاستفادة منه:

بينما تواجه إيران أزمة داخلية معقَّدة على مستوى الشرعية الداخلية نتيجة تدهور الأوضاع المعيشية، وفي الوقت نفسه تواجه أزمة عميقة في علاقاتها مع دول العالم والقُوى الإقليمية، فإنَّ النظام قد يتأثَّر بالنموذج السعودى الواقعي، لا سيّما على صعيد ترشيد السياسات، والحوكمة، والتخطيط الاقتصادي، وذلك تحت تأثير تنامي الغضب الشعبي، والتطلُّعات الداخلية، والمطالب المتزايدة بألّا تكون إيران أقلَّ تطوُّرًا من السعودية، التي باتت تسبقها بمراحل في المؤشِّرات كافَّة، أو من خلال وجهة نظر «إصلاحية» في الداخل، تتبنَّى التخطيط العلمي الدقيق، ووضْع خطَّة إنقاذ لإيران للخروج من مأزقها الراهن. وعلى الرغم من أنَّ ذلك مُستبعَدٌ في بعض الجوانب، فقد تدفع الضرورة بالمُضي قُدُمًا في محاكاة اقتصادية لنموذج المملكة، لكن هذا سيتطلَّب تكلفة حقيقية لا بُدَّ أن يدفعها النظام الإيراني. فإيران في ظل سياساتها العدائية لا تتوفَّر لها فُرصة تنويع الشركاء، وفي ظل العقوبات هي محرومة من الوصول إلى المعرفة والتقنيات الحديثة، التي تُعتبَر قاطرة أيّ مشروع حداثي تنموي، كما أنَّ النظام لا يزال أسير الأيديولوجيا، التي تهيمن على قراراته، وتحرمه من فُرصة التقدُّم والتطوُّر.

5. إمكانية للتأثير في الخطاب «المتشدِّد»:

إنَّ النموذج السعودي «المُلهِم»، والتجربة الدينية السعودية في سياقها الأخير، والإصلاحات الاجتماعية الشاملة، سوف يستمِرّ في التأثير في الجانب الإيراني حكومةً وشعبًا، ويمثِّل حالة ضغْط على الحوْزة والنُّخَب الدينية الإيرانية، لتُعقْلِنَ الخطاب الديني، وتتماهى مع إصلاحات جذرية وعميقة تشابه الإصلاحات في السعودية، بما يعطي أولوية للتنمية، والنهضة، ورفاهية الشعب، وحقوق المرأة، على حساب الراديكالية الدينية، والطائفية المذهبية.

خاتمة

كان من الواضح أن النُّخَب الإيرانية والرأي العام، الذي تشكَّل بخصوص السعودية، كان في مجمله إيجابيًّا، على الرغم من بعض الأصوات «المتشدِّدة»، التي كانت تنظُر إلى العلاقة من منظور أيديولوجي أو مذهبي. وتمكن في هذا الإطار الإشارة إلى أبرز النتائج، وذلك على النحو الآتي:

1. الجاذبية وتأثير النموذج: إنَّ النموذج السعودي على مدار العقد الأخير، كان محطّ اهتمام إقليمي كبير، بما في ذلك من إيران، إذ حقَّقت المملكة نقلاتٍ نوعيةً على مسار التنمية الداخلية، وتأكيد المكانة والحضور الإقليمي والعالمي. ومن المتوقَّع في المستقبل، أن يستمِرَّ زخْم الحضور السعودي على الساحة الإيرانية بين النُّخبة والجماهير، لوجود نموذج حقيقي بالفعل تقدِّمه المملكة للحضور في المستقبل باعتبارها قوَّة إقليمية لا يمكن تجاوزها، ووجهة دولية ومحطَّة لتقاطع مصالح القُوى العالمية. من المتوقع حدوث تغيُّر أكبر لموقف شرائح من المجتمع الإيراني تجاه السعودية، فيما لو جرى السماح للشباب الإيراني بزيارة المملكة عبر تأشيرة سياحية، أو دعوة بعض المؤثِّرين الإيرانيين في منصَّات التواصل الاجتماعي لحضور الفعاليات الترفيهية في المملكة، مثل «موسم الرياض»، وزيارة مدينة العُلا التاريخية، وغيرها. وقد يحتاج المتابع إلى مزيد من الوقت، حتى يرى انعكاس هذه الصورة الإيجابية للمملكة في إيران، على المنتجات الأدبية والثقافية، مثل القصَّة القصيرة أو الأفلام والمسلسلات، شريطة ممارسة النظام بعض المرونة تجاه هذه الأصوات.  

2. اتجاه الصورة النمطية للسعودية في إيران نحو التغيير: يبدو أنَّ الصورة النمطية عن السعودية تتغيَّر على مستوى النُّخَب الإيرانية، إذ تشير مواقف النُّخَب الإيرانية إلى أنَّ المملكة باتت مثار إعجاب من الإيرانيين، إذ وُصِفت المملكة من جانب هؤلاء بأنَّها «دولة حداثية وعصرية»، في إدارة الدولة وفي التخطيط الإستراتيجي. وهذه الصورة قد تشكَّلت بصورة محايدة، بعيدًا عن سيطرة النظام، ولا شكَّ أنَّ عودة العلاقات قد فتح الباب أمام الإيرانيين للتعبير عن آرائهم بحرِّية أكبر، بعيدًا عن القيود السُّلطوية والدعاية الإعلامية، التي كان يبثّها النظام في السابق، ضدّ السعودية، لا سيّما أنَّ كثيرًا من الإيرانيين لديهم تطلُّعات نحو الحداثة، ورغبة في التخلُّص من قيود الأيديولوجيا على المجتمع والأفراد.

3. دور أكثر تأثيرًا للإعلام البديل: لا شكَّ أنَّ وسائل التواصل والإعلام غير الرسمي قد لعِبَت دورًا مهمًّا في نشْر أخبار المملكة ووضعها، في مقارنة مع سياسات النظام الإيراني. فالآراء حول المملكة تتشكَّل على نطاق واسع في هذه الوسائل، بالنظر إلى أنَّ معظمها خارج سيطرة النظام، كما أنَّها تتيح التفاعل بين الداخل والخارج، وبين النُّخَب الإيرانية والنُّخَب السعودية. ومن المتوقَّع أن يتزايد هذا التفاعل عبر الفضاء الإلكتروني، إذ من جانب تفرض التطوُّرات في المملكة نفسها على هذا الفضاء، نتيجة مردودها والتفاعل الواسع معها، وفي نفس الوقت لشغف الإيرانيين بمتابعة مشروع السعودية، والتطوُّرات الجارية بها، لأنَّها أصبحت قضية يمكن من خلالها إحراج النظام أو الضغط عليه عبر المنصَّات الإعلامية المختلفة.

4. المصداقية والانتشار: تأتي الآراء والمواقف حول التطوُّرات في السعودية، من جانب خبراء ومتخصِّصين ومسؤولين سابقين في النظام ونُشطاء على وسائل التواصل، ناهيك بمواطنين عاديين، وهو ما يُشير إلى أن هذه التصوُّرات حول السعودية باتت منتشرة لدى قطاع كبير من الرأي العام الإيراني. وكون هذه المواقف والآراء تأتي من داخل دولة منافسة، فإنَّ لها تأثيرًا واسع النطاق، لا سيّما أنَّها تتّسِق مع التطوُّرات، التي شهِدَتها المملكة بالفعل على مدار العقد الأخير، إذ حقَّقت المملكة نقلات نوعية على مسار التنمية الداخلية، وتأكيد المكانة والحضور الإقليمي والعالمي، خصوصًا أنَّ الآراء حول السعودية كانت مدعومة بالأرقام والمؤشِّرات ذات المصداقية، وغيرها من الوسائط، الأمر الذي يعزِّز مصداقيتها، ويمنحها القبول والانتشار الأوسع.

5. كشْف الفجوة التنموية بين السعودية وإيران: لقد قدَّم الخبراء والنُّخَب مواقفهم من التطوُّرات السعودية معزَّزةً بمقارنة الأوضاع في داخل إيران، وهو ما أظهر وجود مفارقة تنموية مهمَّة بين ضفتي الخليج، مع أنَّ البلدين يتمتَّعان بموارد ومكانة مهمَّة في المنطقة. فبينما كانت المملكة تخطو بمستويات متسارعة نحو المستقبل، وتلبِّى تطلُّعات جماهيرها في تحقيق الرفاهية، وتلعب دورًا في دفْع المنطقة نحو الاستقرار والتقدُّم، كان النظام الإيراني يُصِرُّ على نهْج غير واقعي، كلَّف الشعب الإيراني أوضاعًا معيشية قاسية. ومن جهة أخرى، أسهمت السياسات السعودية في تعزيز مكانتها الإقليمية وصورتها عالميًّا، حتى باتت قِبلة إقليمية للمؤتمرات الدولية، لكن أسهمت سياسات إيران في عزلها، وفرْض مزيد من العقوبات والضغوط عليها، وهو ما أدَّى إلى الاضطرابات والاحتجاجات الداخلية، وبالتالي عدم الاستقرار السياسي، فضلًا عن متابعة سياسة خارجية أثقلت ميزانية إيران وحمَّلتها أعباءً إضافية.في الختام، يمكن القول إنَّ إعادة العلاقات السعودية-الإيرانية، قد فتحت الباب أمام الإيرانيين إلى النظر إلى السعودية بصورة أكثر واقعية، ووفَّرت أجواء الانفتاح الفُرصة لتناول ما تشهده المملكة من تطوُّرات بموضوعية ومصداقية، ومقارنة ذلك بما تشهده إيران من واقع معيشي معقَّد. ومع تزايُد الإعجاب الداخلي في إيران بالنموذج السعودي وإنجازاته، فإنَّ السعودية باتت تمتلك تأثيرًا مُهمًّا على الساحة الإيرانية بطريقة غير مباشرة، وباتت سياساتها وإنجازاتها داخليًّا وخارجيًّا تمثِّل إحراجًا كبيرًا للنظام الإيراني، فخلال سنوات قليلة نجحت المملكة في أن تقفز بمكانتها الاقتصادية والسياسية لتكون أكبر لاعب إقليمي وأهمَّ فاعل وشريك إقليمي مرغوب فيه من جانب القُوى الكُبرى. كذلك أظهرت السعودية على الصعيد الخارجي استقلالية وقُدرة على تنويع الشراكات، وذلك في وقت تُلقِي فيه إيران بثقلها خلف روسيا والصين، وهذه السياسة، التي هي محل إعجاب الإيرانيين، قد تحفِّز إيران على تغيير سلوكها، ومحاكاة النموذج السعودي في تصفير المشكلات، والعمل على أهداف اقتصادية وعملية. وهكذا سيكون النموذج بمثابة ورقة ضغط كبيرة على النظام الإيراني، قد تدفعه نحو تغيير بعض سياساته وتوجُّهاته «المتشدِّدة» في الداخل والخارج، وإلّا فإَّنه سوف يُواجَه بأزمة داخلية كبيرة في المستقبل، وتراجُع في المكانة على الساحة الإقليمية والدولية.


[1] صد آنلاین، حاشیه هایی مهمتر از متن، پیام نشست صلح به ایرانف (17 مرداد 1402ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 25 يناير 2024م. https://2u.pw/hJqt5Cy

[2]  دیپلوماسی ایرانی، پیروزی بزرگ برای عربستان: گفتمان مولد؛ دستاورد نشست جده برای جنگ اوکراین، (17 مرداد 1402ه.ش)، تاریخ الاطلاع: 25 ینایر 2024م. https://2u.pw/NxlLUm1

[3] ويب سايت دكتر محمود سريع القلم، در داوسِ چین 2023 چه گذشت؟، (3 يوليو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 24 يناير 2024م. https://2u.pw/SIKigMR

[4] آفتاب، مي خواهد پایان جنگ اوکراین به نام بن سلمان تمام شو، (10 مرداد 1402ه.ش)، تاریخ الاطلاع: 23 يناير 2024م.  https://2u.pw/AOJ9lTl

[5] حساب الأكاديمي صادق زيبا كلام على «تويتر»، (19 يونيو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 23 يناير 2023م. https://2u.pw/YUVbNrv

[6] منصة إنستغرام، @Hatricknews، (20 سبتمبر 2023م)، تاريخ الاطلاع: 1 أكتوبر 2023م، https://2u.pw/CSfYYtQ 

[7] ويب سايت دكتر محمود سريع القلم، در داوسِ چین 2023 چه گذشت؟، مرجع سابق.

[8] منصَّة إنستغرام، @picopry، (13 يونيو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 1 أكتوبر 2023م، https://2u.pw/GxUW4Mr، وأيضا: منصَّة إنستغرام، @mohamad.baztab، (21 يونيو 2021م)، تاريخ الاطلاع: 1 أكتوبر 2023م، https://2u.pw/dvQ2uYn ، انظر أيضًا: منصَّة إنستغرام، akharinkhabar@، بیانیه یکجانبه عربستان: «میدان آرش» صرفا متعلق به ما و کویت است، (3 أغسطس 2023،  https://2u.pw/g3uaPFC، انظر: منصَّة إنستغرام، dw_persian@، (5 أغسطس 2023م)، تاريخ الاطلاع: 1 أكتوبر 2023م، https://2u.pw/csO0rp2

[9] یک واقعیت غم‌انگیز/ قاسمی: اقتصاد ایران ۱۵ سال طول می‌کشد به اقتصاد امروز عربستان برسد« (12 تیر1402هـ.ش)، تاريخ الاطلاع: 23 يناير 2023م.  https://2u.pw/AbSEyAR

[10]  منصَّة إنستغرام، @picopry، (13 يونيو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 29 نوفمبر 2023م، https://2u.pw/GxUW4Mr

[11] دريا كنار، پازوکی، اقتصاددان: از فروردین ۱۴۰۱ تا الان ارزش پول ملی نصف شده (23 يونيو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 24 يناير 2024م، https://2u.pw/RWPvuqM

[12] انصاف، ژاپن – عربستان و دستان پر از هیچ ما!، (7 مرداد 1402ه.ش)، تاريخ الاطلاع 24 يناير 2024م، https://2u.pw/0lrcAmO

[13] آرمان امروز، دیپلماسی محدود، (25 تير 1402ه.ش)، تاريخ الاطلاع 23 يناير 2024م، https://2u.pw/Nes0mxI

[14] صداي جويا، میان ریال ما و ریال عربستان تفاوت از زمین تا آسمان، (29 ارديبهشت 1402ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 24 يناير 2024. https://2u.pw/gS0XDV9

[15] بهار نيوز، این متن کوتاه فرق ایران و عربستان را نشان می‌دهد، (12 مرداد 1402ه.ش)، تاريخ الاطلاع: 23 يناير 2024م، https://2u.pw/9potXhi

[16] منصَّة أكس، @SiamakGhassemi، (تاريخ آخر تعديل١٠:٤٨ م- ٣٠ مايو ٢٠٢٣م)، تاريخ الاطلاع: 24 يناير 2024م، https://2u.pw/emlwuLO

[17]  د. معتصم صديق، و د. محمد الصياد، خطبة الجمعة في إيران.. تديين السِّياسة وتسييس الدِّين، «رصانة»، 05 مارس 2020م (تاريخ الاطلاع: 29 أكتوبر 2023م). https://bit.ly/3FOmQpe

[18]  قطره، واکنش ائمه جمعه شهرستان‌های استان تهران به توافق ایران و عربستان، 15 مارس 2023م (تاريخ الاطلاع: 26 أكتوبر 2023م). https://bit.ly/3ZmuZYK 

[19]  مهر نيوز، امام جمعه گرگان: توافق ایران و عربستان موجب شکل گیری اتحادیه ممالک اسلامی می شود، 14 مارس 2023م (تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2023م). https://bit.ly/3JNc0Rg 

[20]  ايسنا، حجت‌الاسلام شهریاری در سی‌وهفتمین کنفرانس بین‌المللی وحدت اسلامی: آغاز روابط بین ایران و عربستان نویدبخش صلحی پایدار و همکاری‌ بادوام در منطقه است، 01 أكتوبر 2023م (تاريخ الاطلاع: 31 أكتوبر 2023م). https://bit.ly/3FAH3hL

[21] حوزة نيوز، عضو مجلس خبرگان رهبری: وهابیت و سلفیت حتی در عربستان هم کنار گذاشته شد، 01 أكتوبر 2023م (تاريخ الاطلاع: 31 أكتوبر 2023م). https://bit.ly/40lAIAo 

[22]  منصة إنستغرام،@picopry، (13 يونيو 2023)، تاريخ الاطلاع: 29 فبراير 2023، https://2u.pw/GxUW4Mr، وأيضًا: منصة إنستجرام،@mohamad.baztab، مدرنترین شهر جهان!!! عربستان سعودی دنیا رو شوکه کرد!!! نظر، (21 يوليو 2023)، تاريخ الاطلاع: 29 فبراير 2024، https://2u.pw/dvQ2uYn

[23] منصَّة إنستغرام، @picopry، رفتن کریس رونالدو و کریم بنزما به عربستان بخشی از همین پروژه عربستان، (13 يونيو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 29 فبراير 2023م،  https://2u.pw/GxUW4Mr، أيضًا: منصَّة إنستغرام، @mohamad.baztab ، مدرنترین شهر جهان!!! عربستان سعودی دنیا رو شوکه کرد!!! نظر، (21 يوليو 2023م)، تاريخ الاطلاع: 29 فبراير 2024م، https://2u.pw/dvQ2uYn

د.محمد بن صقر السلمي
د.محمد بن صقر السلمي
مؤسس ورئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية