يُسلط تجدُد الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية في أواخر عام 2025م، الضوء على هشاشة المشهد الأمني المتشكل في مرحلة ما بعد «نظام الأسد»؛ إذ تُعد الغارات الإسرائيلية على منطقة «بيت جن» في 28 نوفمبر، وما أعقبها من ضربات جوية أسفرت عن مقتل 13 جنديًا سوريًا، أكثر التوغلات دموية منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد قبل نحو عام. وتعكس هذه التحركات العسكرية إصرارًا إسرائيليًا على إعادة رسم قواعد الاشتباك في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها الدولة السورية، وسعيها لاستعادة سيادتها.
وبررت إسرائيل العملية بكونها ضربةٌ استباقيةٌ استهدفت إلقاء القبض على عناصر من «الجماعة الإسلامية» في لبنان (حزب سياسي إسلامي يمتلك جناحًا مسلحًا متحالفًا مع حركة حماس) في بلدة «بيت جن»، بزعم تخطيطهم لتنفيذ عمليات تفجير وإطلاق قذائف صاروخية باتجاه الأراضي الإسرائيلية. في المقابل، أدانت دمشق هذه الغارات ووصفتها بالـ «هجوم الإجرامي»، مُعتبرةً إياها انتهاكًا صارخًا للسيادة السورية وتحديًا مباشرًا لسلطة الحكومة الانتقالية التي لاتزال تكافح لفرض هيبتها.
وتسلط هذه الحادثة الضوء على إشكالية أعمق تواجه الفاعلين الإقليمين والشركاء الدوليين، وهي مدى قدرة عملية إعادة الإعمار الهشة في سوريا على الصمود أمام رياح المواجهات الإقليمية المتجددة، وما إذا كانت الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية ستقود حتمًا إلى زعزعة استقرار النظام السياسي السوري الآخذ في التشكل ودفع البلاد نحو مربع الفوضى من جديد.
تستندُ خلفية هذا التصعيد إلى النهاية المدوية لنظام الأسد في ديسمبر 2024م، إثر هجوم خاطف قادته «هيئة تحرير الشام» والفصائل المدعومة من تركيا؛ حيث أدى فرار الأسد لروسيا إلى وضع أوزار حرب استمرت 13 عامًا، مزقت النسيج الاجتماعي وشردت الملايين. ورغم الشكوك الأولية التي ساورت المراقبين في قدرة الحكومة الانتقالية (ذات الجذور الإسلامية) على ضبط المشهد، إلا أن إدارة الرئيس أحمد الشرع تبنت سريعًا سياسات عملية برغماتية استهدفت إعادة الاندماج الوطني؛ فنجحت في إبرام اتفاق لوقف إطلاق النار مع «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، التي يقودها الأكراد، وعملت على صهر الفصائل المسلحة تحت قيادة مركزية، وتفعيل قنوات دبلوماسية مع واشنطن وموسكو وبكين. وبحلول خريف عام 2025م، تمكنت الحكومة من إخماد العنف الطائفي في المناطق الساحلية العلوية وحققت الاستقرار في حلب؛ وهو ما تُوج بقرار أممي صاغته الولايات المتحدة يقضي بتخفيف العقوبات ورفع أسماء كبار المسؤولين من قوائم الإرهاب، مما فتح الباب أمام جهود التعافي المبكر وإعادة الإعمار.
وعلى الرغم من هذا التقدم، ظل الجنوب السوري يمثل «فجوة أمنية» تهدد استقرار المرحلة الانتقالية؛ إذ اندلعت أعمال عنف في محافظة السويداء (ذات الأغلبية الدرزية والمعروفة تاريخيًا بمعارضتها نظام الأسد) في يوليو 2025م. وسرعان ما تطورت التوترات إلى اشتباكات دموية بين فصائل محلية ومجموعات بدوية، تحولت إلى صراع طائفي حاد تُغذيه ندرة الموارد، والتنافس المحلي على السلطة، وتحريض ما تبقى من خلايا موالية للنظام السابق. وقد أسفر هذا القتال عن نزوح أكثر من 185 ألف شخص، مما ألقى بعبء ثقيل على كاهل مؤسسات الدولة المُنهكة أساسًا. من جهتها، استغلت إسرائيل هذه الاضطرابات لتبرير سلسلة من الغارات الجوية على مواقع عسكرية قريبة من دمشق، بدعوى حماية المجتمع الدرزي من العناصر المعادية، وهو ما يضع السيادة السورية أمام تحدٍ إقليمي جديد.
وقد أدت هذه العمليات، التي نفذت في الفترة ما بين 12 و16 يوليو، إلى تقويض ترتيبات وقف إطلاق النار التي وضعتها الحكومة الانتقالية، كما عطلت جهود إعادة الإعمار في المحافظة بشكل ملموس. ورغم إعلان هدنة بوساطة أمريكية في 16 يوليو (تلاها اتفاق أوسع لوقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل في 19 يوليو)، أسهم في خفض وتيرة العنف مؤقتًا، إلا أن حالة الاستقرار ظلت هشة. وفي غضون ذلك، وسعت إسرائيل نطاق توغلها في هضبة الجولان المحتلة بذريعة التصدي لتهديدات من وكلاء إيران؛ وبالتجاوز لاتفاق «فض الاشتباك» لعام 1974م، أعادت إسرائيل انتشارها في المنطقة العازلة الخاضعة لرقابة الأمم المتحدة، وأنشأت نقاطًا عسكريةً جديدة ملمحةً إلى نية البقاء لفترة غير محددة. وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الرمزية إلى الجولان في نوفمبر لتكريس مزاعم «السيادة الإسرائيلية»، مما فاقم حدة التوترات مع دمشق وعقّد المساعي الدبلوماسية الجارية. وضاعفت الغارة الإسرائيلية الثانية على «بيت جن» من حدة الاحتقان؛ حيث بررتها تل أبيب بوجود مقاتلين أجانب في المنطقة، وهي ذريعة فندها المسؤولون السوريون واعتبروها «ملفقة بالكامل». وفي رد حازم، شددت دمشق على موقفها الرافض للدخول في أي ترتيبات أمنية مع إسرائيل، ما لم تتوقف الهجمات العسكرية بشكل نهائي، ويتم الاحترام الكامل للسيادة السورية والالتزام بحدود البلاد المعترف بها دوليًا.
وبعيدًا عن لغة التصريحات العلنية، كشفت تقارير عن وجود مفاوضات سرية (بوساطة تقودها الولايات المتحدة ودولة الإمارات العربية المتحدة) تهدف إلى بحث إمكانية التوصل إلى «إطار لاتفاق عدم اعتداء». وأفادت مصادر مطلعة أن المقترح تضمن ضمانات إسرائيلية بحماية الدرزي مقابل وقف الغارات الجوية المستمرة. ومع ذلك، أبدى نتنياهو رفضًا قاطعًا لإبرام أي اتفاق شامل، مانحًا الألوية لإستراتيجية «منع التسلح»؛ أي الحيلولة دون تمكين الحكومة الانتقالية من إعادة بناء القدرات العسكرية السورية التقليدية. وفي المقابل، تجد الحكومة السورية نفسها أمام معضلة مُعقدة؛ إذ إن الإذعان للمطالب الإسرائيلية قد يوصمها بضعف السيادة ويحمل مخاطر سياسية داخلية باهظة، بينما قد يؤدي الانزلاق نحو «التصعيد الانتقامي المتبادل» إلى تقويض الاستقرار الاقتصادي الهش وتجميد تدفق المساعدات الخارجية الحيوية.
تمتد التداعيات الإقليمية لهذه التطورات إلى ما هو أبعد من الجنوب السوري؛ إذ شهدت إيران (التي أنهكتها الضغوط الاقتصادية المحلية والضربات الإسرائيلية المكثفة على بنيتها التحتية النووية في يونيو 2025 م) تراجعًا حادًا في نفوذها الخارجي. وتواجه شبكاتها في سوريا، ولاسيما الميليشيات المرتبطة بـ «حزب الله»، صعوبات بالغة في إعادة تنظيم صفوفها في ظل البيئة السياسية الجديدة. وقد أغرى هذا الفراغ المنافسين الإقليميين في المنطقة لتعزيز نفوذهم، وفي مقدمتهم تركيا، التي تواصل دعم «الجيش الوطني السوري» في الشمال، بينما تراقب التطورات في الجنوب بوصفه منطقة أمن قومي. ورغم محاولات أنقرة لخفض التصعيد مع تل أبيب، إلا انها لا تزال تنظر إلى الوجود الإسرائيلي خارج حدود الجولان كـ «تهديد توسعي». وفي حين يؤكد المسؤولون الأتراك رغبتهم في تجنب صدام مباشر مع إسرائيل، إلا أنهم يبدون قلقًا عميقًا حيال التحركات الإسرائيلية المزعزعة للاستقرار. علاوة على ذلك، ترى أنقرة أن أي تطبيع محتمل بين دمشق وتل أبيب قد يضر بمصالحها الإستراتيجية، في ظل التنافس المحموم على مناطق النفوذ والتحكم في المجال الجوي السوري.
ويجد لبنان نفسه، (وهو الذي لا يزال في طور التعافي من تداعيات وقف إطلاق النار مع إسرائيل عام 2024م) عُرضةً لمخاطر الانزلاق مجددًا نحو مربع التوتر. ورغم أن المحادثات اللبنانية-الإسرائيلية المباشرة في ديسمبر كانت تهدف إلى توسيع إطار الهدنة، إلا أنها تعثرت نتيجة الضربات الإسرائيلية المكثفة التي استهدفت فلول «حزب الله». وفي هذا السياق، تمنح حالة عدم الاستقرار في سوريا فرصة لهذه التنظيمات لإعادة ترتيب صفوفها، مما يضاعف من خطر امتداد الأزمة عبر الحدود الهشة أساسًا. ويزيد التنافس بين القوى الكبرى من تعقيد هذا المشهد؛ إذ تسعى الولايات المتحدة لبناء شراكة مع السلطات السورية الجديدة، حيث منحت الشرعية السياسية لـ «أحمد الشرع» عبر لقاءات علنية، بينما تستمر في الوقت ذاته بدعم الموقف الأمني الإسرائيلي. وتكشف هذه الإستراتيجية المزدوجة عن تناقضات بنيوية، فواشنطن تشجع علنًا خفض التصعيد، في حين تقوض إسرائيل هذا المسار بغاراتها المتواصلة. أما روسيا، فبينما تحتفظ بوجود عسكري محدود لحماية مصالحها الإستراتيجية، إلا أنها لم تعد تمتلك النفوذ الذي تمتعت به سابقًا، في وقت تسعى فيه الصين لاغتنام فرص إعادة الإعمار لتوسيع موطئ قدمها ونفوذها الإقليمي.
ويكمن جوهر الأزمة الراهنة في النزاع المستمر حول هضبة الجولان؛ إذ يرى دعاة «التطبيع الإقليمي» أن الانحسار الراهن في النفوذ الإيراني، ووجود حكومة سورية براغماتية، يمهدان الطريق لتحقيق اختراق تاريخي في مسار العلاقات مع إسرائيل. ومع ذلك، تظل أزمة الثقة العميقةـ والمطالب السيادية العالقة، والمخاوف من الانزلاق نحو مواجهات مفتوحة، عائقًا صلبًا أمام أي دبلوماسية فاعلة. وفي هذا الإطار، يسعى الرئيس أحمد الشرع إلى تقديم سوريا كـ «دولة مستقرة ومسؤولة»، مشددًا على أن إنهاء التدخلات الخارجية هو الركيزة الأساسية لترسيخ السلام الإقليمي. وفي المقابل، تواصل إسرائيل تمسكها بعقيدة أمنية مفادها أن «الهيمنة العسكرية المطلقة» هي الضمانة الوحيدة والمستدامة لأنها في المنطقة.
ويتطلب كسر هذه الحلقة المفرغة تبني دبلوماسية جريئة ومنسقة؛ ترتكز على صياغة خطة شاملة لـ «فض الاشتباك» تحت إشراف الأمم المتحدة وبدعم من الأطراف الإقليمية المعنية. وينبغي أن تشمل هذه الخطة نزع السلاح من المناطق الحدودية، ودمج المكونات المحلية، (ولاسيما الدروز) ضمن إطار حكومة وطنية إصلاحية شاملة. وفي المسار الاقتصادي، يتوجب على المانحين الدوليين تكثيف الدعم للحيلولة دون انهيار مؤسسات الدولة، وضمان استقرار العملة، وتأمين إمدادات الطاقة، وإحياء الخدمات الأساسية. كما يستوجب الأمر ممارسة ضغوط دولية جادة على إسرائيل للانسحاب من الأراضي السورية والانخراط في تدابير حقيقية لبناء الثقة؛ إذ لا يمكن استتباب الأمن إلا بوجود دولة سورية مستقرة وذات سيادة، بدلًا من تكريس سياسة الاحتلال طويل الأمد. إن الإخفاق في تبني هذه الإجراءات يُنذر بموجة نزوح جماعي جديدة، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وإعادة انبعاث الشبكات المتطرفة القادرة على زعزعة الاستقرار الإقليمي لعقود قادمة.
ومع حلول فصل الشتاء في الجولان، تقف المنطقة عند مُفترق طرق حاسم؛ حيث تتقاطع تعقيدات المرحلة الانتقالية السورية (التي لا تزال هشة وغير مكتملة الأركان) مع الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، ضمن مخاض إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الأوسع للشرق الأوسط. إن الفرصة لا تزال سانحة لتدارك الموقف ومنع انزلاق المنطقة نحو دورة جديدة من الصراع، لكن ذلك يتطلب انخراطًا دوليًا مستدامًا، وإرادة سياسية حقيقية لتقديم تنازلات متبادلة وصعبة، وبخلاف ذلك، لن يتبقى سوى سيناريو واحد، وهو الانزلاق نحو مواجهة شاملة لن تقوى المنطقة المنهكة على تحمل تبعاتها.