استيقظت الدولة الروسية صبيحةَ يوم السبت الموافق الرابع والعشرين من يونيو عام 2023م، على وقع أنباء تمرد قوات «فاغنر» العسكرية الخاصة التابعة لرجل الأعمال المقرَّب من الكرملين يفغيني بريغوجين ضد النظام الروسي، ودخولها إلى مدينة روستوف (جنوب غرب) روسيا، وتقدمها شمالًا باتجاه العاصمة موسكو، وبرَّر بريغوجين تمرُّده باتهام الجيش الروسي بقصف معسكرات قواته على نحو أسفر عن مقتل عدد كبير منهم، متوعدًا بالانتقام من الجيش الروسي الذي يخوض حربًا ضارية في أوكرانيا.
ورغم أن أزمة التمرد لم تدم طويلاً، بالإعلان عن التوصل إلى اتفاق بوساطة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، تعود بموجبه قوات «فاغنر» إلى مواقعها ومعسكراتها وتمكين عناصرها من الانضمام للجيش الروسي أو التعاقد معه، فضلًا عن مغادرة زعيمها بريغوجين إلى بيلاروسيا بضمانات شخصية من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أنها طرحت العديدَ من التكهنات والتساؤلات حول أسباب التمرد ودوافعه وتداعياته على المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، فضلًا عن انعكاساته على حلفاء أوكرانيا، وما البديل لقوات فاغنر في الحرب الدائرة في أوكرانيا؟
أولًا: فاغنر.. الصعود والمكانة في الاستراتيجية الروسية
خلال سنوات قليلة تحوَّلت مجموعة فاغنر إلى ذراع بوتين الضارب والطويل خارج الحدود الروسية عطفًا على الدور الخارجي الممنوح لها اقتصاديًا وعسكريًا من الكرملين، كما تحوَّل زعيم المجموعة الروسية إلى أحد كبار الأثرياء، وبخلاف بقية الجماعات المرتزقة، تمتَّعت مجموعتهُ ليس فقط بنفوذ مالي بل أيضًا بنفوذ في القوات البرية والجوية، وكان لها مطلق حرية الحركة والنفوذ في سوريا، وليبيا، ودول وسط أفريقيا، وأوكرانيا. فيما يلي تحليلٌ لتأسيس وتطوّر فاغنر ومكانتها في الاستراتيجية الروسية:
1. مجموعة فاغنر.. التأسيس والتطور
تأسَّست «فاغنر» كشركة عسكرية خاصة في عام 2013م على يد شخصيتين معروفتين في روسيا، وهما: ديمتري أوتكين، ضابط سابق في وحدة القوات الخاصة الروسية، ويفغيني بريغوجين، وهو رجل أعمال روسي مقرب من فلاديمير بوتين، وقد سُجِّلت فاغنر كشركة تجارية خاصة في الأرجنتين، ولها مكاتب في كلٍ من بطرسبرغ وهونغ كونغ، ومعسكر تدريب في موسكو. وظهر نموذج الاستعانة بشركات خاصة لتوفير الأمن بشكل كبير على نطاق عالمي في العقود الأخيرة، وفي روسيا بالتحديد، لا تُعد الاستعانة بالجهات الأمنية شبه الحكومية حدثًا فريدًا من نوعه في فترة حكم بوتين؛ حيث بدأت المجموعات المسلحة المماثلة قبل ذلك في الظهور في روسيا أوائلَ التسعينات مع تفكُّك الاتحاد السوفيتي.
أصبح اللجوء إلى الشركات العسكرية الخاصة على مدى العقد الماضي أداةً رئيسية للسياسة الروسية لتحقيق أهداف جيوسياسية وجيواستراتيجية في بعض مناطق النفوذ الروسي، المناطق والأماكن التي لا تريد فيها موسكو نشر قواتها الرسمية بشكل علني، وقد منح ذلك موسكو درجةً معقولة من الإنكار والإفلات نسبيًا من العقاب والتطويق الغربي، لاسيما خلال مشاركة المجموعة في السنوات القليلة الماضية في العديد من الأزمات العالمية في أجزاء أخرى من العالم، من سوريا إلى مالي إلى فنزويلا. لكن ذلك قد تغيَّر مع اندلاع أزمة أوكرانيا، فصنفت الولايات المتحدة الجماعة كمنظمة إجرامية عابرة للحدود في أوائل هذا العام، وفُرضت عقوبات على «فاغنر» من قِبل أستراليا وكندا واليابان والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي.
2. تمويل مجموعة فاغنر ومصادرها المالية
تستند المجموعة على مصادر تمويل كبيرة ومتنوعة، تأتي بالأساس من العمل كمرتزقة لدى الحكومات وداخل البلاد التي تشهد نزاعات مسلحة في أفريقيا، والشرق الأوسط، وأوكرانيا مؤخرًا. كما أن قائدها بريغوجين هو بالأساس رجل أعمال روسي لديه شركات تعمل بالخارج بالالتفاف على العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة عليها، كما يعمل داخل روسيا في مجالات المطاعم والتموين ويمتلك نفوذًا واسعًا في روسيا استمدَّه من قُربه من الرئيس الروسي ذاته خلال السنوات الماضية، وتكشف تقديرات غربية عن وجود تمويل جزئي يقدَّم للمجموعة من الكرملين.
وتُعد أفريقيا من أهم مصادر التمويل لمجموعة فاغنر نظرًا لنشاط المجموعة العسكري في عدَّة بلدان أفريقية تشهد صراعات مسلحة مثل: مالي والكونغو والسودان وليبيا وأفريقيا الوسطى وموزمبيق ومدغشقر وغيرهم، وتقوم المجموعة في مقابل تقديم دعمها العسكري بالحصول على أموال نقدية، واستغلال ثروات طبيعية كالذهب والنفط واليورانيوم والألماس والأراضي الزراعية عبر شركات روسية تابعة للمجموعة، وعلى نطاق أضيق يتورَّط أفراد المجموعة في عمليات نهب في المناطق المتواجدين فيها.
تدفع حكومة مالي الأفريقية قرابة 10 مليون دولار للمجموعة شهريًا في مقابل دعمها العسكري، وتستغل الشركات التابعة لفاغنر معادن وثروات نفيسة كالذهب واليورانيوم في مالي وبوركينا فاسو، وفق تقديرات مختلفة. وكذلك النفط والذهب في ليبيا والسودان، والأخشاب والأراضي الزراعية في جمهورية أفريقيا الوسطى، والألماس في الكونغو وغينيا. أيّ أن المجموعة الروسية تعتمد على مصادر مالية تتنوع ما بين العمل كمرتزقة لدى الحكومات، والاستثمارت التابعة لشركاتها داخل روسيا وخارجها، واستغلال النفوذ من أجل الحصول المباشر على الثروات الطبيعية في البلدان الأفريقية.
3. فاغنر في الاستراتيجية الروسية
باتت «فاغنر» الأداةَ الرئيسية التي تؤمِّن مصالح روسيا في عدد من الدول، بعيدًا عن التورط العسكري الروسي المباشر، فظهرت البوادر الأولى للمجموعة في عام 2014م، عندما ضمَّت روسيا شبه جزيرة القرم، ولاحقًا في سوريا عام 2015م، بهدف حماية نظام حليفها الإقليمي الرئيسي بشار الأسد، من السقوط وتحقيق مكاسب استراتيجية مُهمة في سوريا، وذلك عبر مشاركة عناصر هذه المجموعة ضمن المجهود العسكري الروسي في سوريا، وكانت هذه المشاركة بمثابة نقلة كبيرة في خبرات المجموعة القتالية، حيث قاتل أفراد هذه المجموعة إلى جانب الجيش السوري في العديد من العمليات العسكرية الرئيسية التي نُفذت خلال هذه الفترة، خاصةً الحملة العسكرية للسيطرة على مدن سورية رئيسية كتدمر ودير الزور والرقة.
وبعد النجاح في الميدانين السوري والأوكراني، اكتسبت المجموعة خبرةً كبيرة في القتال وممارسة ما يسمى بـ «حرب الشوارع»، وعليه لجأت روسيا إلى تعظيم مكاسبها والانتقال نحو عدد من الدول منها فنزويلا إضافةً لعدد من الدول الأفريقية كأفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، ومالي، وموزمبيق، وقد كانت تجربة هذه المجموعة في ليبيا الأكثر تنوعًا؛ نظرًا إلى أنها شملت استخدامَ المدرعات وأنظمة الدفاع والطائرات المقاتلة والقاذفة. وتأتـي مشاركة المجموعة في هذه المناطق بالتحديد من أجل تأمين احتياجات موسكو من الموارد الطبيعية، ومناوءة النفوذ الغربي في القارة الأفريقية، وخاصةً الفرنسي، بجانب دعم علاقاتها الأمنية والعسكرية مع الدول الأفريقية وتوسيع دائرة نفوذها الاستراتيجي.
وفي الاستراتيجية الروسية، تعد مشاركة المجموعة منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية بهدف إعادة تشكيل الصراع الأوكراني-الغربي، فاستُعينَ بمقاتلي المجموعة المدربين على حروب الشوارع، لاقتحام مدن وقرى أوكرانية عَصيت على الجيش الروسي، وشارك عناصر هذه المجموعة بشكل كبير وفعّال في عدة معارك رئيسة، منها: معركة السيطرة على مدينة سفيرودونيتسك، وعملية السيطرة على مدينة بوباسنا، ومؤخرًا عملية السيطرة على مدينة باخموت التي استمرَّ القتال فيها لأشهر، إلى أن سقطت في مايو الماضي في أوكرانيا.
ثانيًا: تطورات أزمة فاغنر مع الدولة الروسية
جاءت التطورات الأخيرة في روسيا وتشديد الإجراءات الأمنية في موسكو في أعقاب دعوة قائد مجموعة فاغنر يفغيني بريغوجين لقواته بالتمرد ضد القيادة العسكريّة الروسيّة، واتهم بريغوجين القوات الروسية بقصف مواقع المجموعة العسكرية وذلك عشيةَ الرابع والعشرين من يونيو 2023م، وردًا على هذا توعَّد بريغوجين بالانتقام من قيادة وزارة الدفاع التي حمَّلها مسؤولية ما تعرَّضت له قواته من قصف وقتل، وهنا تظهر العديد من التحليلات التي ترى أن سبب الأزمة يعود إلى الصراع بين بريغوجين ووزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الذي يستمر في هذا المنصب منذ 2012م، في حين يرى البعض الآخر أن ما حصل هو محاولة لإبعاد الجيش النظامي الروسي عن التبعات القانونية لما قامت به فاغنر في أوكرانيا. ولم يكتفِ بريغوجين بالتوعد بالرد فحسب، بل عاود مهاجمته لعدد من القرارات في روسيا، قائلًا: إن «الشر» في القيادة العسكرية يجب أن يتوقف، ثم تعهد بما سماها «المسيرة من أجل العدالة»، ونفى بريغوجين بعضًا من التبريرات التي صاغها مسؤولون كبار في روسيا حول غزوهم لأوكرانيا قائلًا: إن «الأخيرة ومعها حلف شمال الأطلسي لم يُخططا لشن هجومٍ على إقليم دونباس وشبه جزيرة القرم في عام 2022م»، كما ألقى باللومِ على وزير الدفاع سيرجي شويغو في إخفاقات روسيا في ساحة المعركة ووفياتها، مُذكِّرًا أن حرب روسيا في أوكرانيا كانت مقصودة لصالحِ بعض النخب.
ويمكن القول إن تمرد قوات «فاغنر» هو انعكاس وتطور طبيعي لحالة من التوتر المتراكم والصراع الداخلي بين قائد المجموعة ووزارة الدفاع الروسية، إبّان احتدام معركة باخموت في شرق أوكرانيا، وهي المعركة الأطول (استغرقت ما يقارب 224 يومًا)، واتصفت بأنها عملية القتال الأشرس والأكثر دموية (حوالي 100 ألف بين قتيل وجريح) خلال الحرب التي اشتعلت بين روسيا وأوكرانيا؛ التي طالت بالأساس منطقتي دونتيسك ولوغانسك وامتدادهما الجنوبي. حيث طالب بريغوجين بإعادة النظر في جدوى الغزو الروسي لأوكرانيا، وطالت اتهاماته وزارة الدفاع الروسية عِدة مرات ما بين اتهامها بمهاجمة قواعد قواته في العمق عبر هجوم صاروخي على معسكراتها؛ ممّا أدى إلى سقوط عدد ضخم من الضحايا، وما بين اتهامها بدورٍ ضعيف في تزويد مقاتليه بالذخيرة الكافية، واتهم القوات الروسية بالفرار من القتال حول مدينة باخموت الأوكرانية.
وهو ما يمثل في المحصلة -رغم إعلان بريغوجين انسحابَ قواته وتراجعها عن حالة التمرد المعلنة- ضربةً قوية للمؤسسة العسكرية الروسية على المستويين المعنوي والاستراتيجي، وباتت ارتدادات عدم قدرة روسيا على حسم معركتها مع أوكرانيا تضغط بشكل أكثر ضراوةً على الداخل الروسي، بشكل قد يكون له تأثيرات حادة على مستقبل موسكو وقيادتها السياسية.
ثالثًا: تداعيات الأزمة على المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا
عند الحديث عن تداعيات الأزمة -حال غياب أو انسحاب قوات فاغنر- على المجهود الحربي الروسي الذي يعتمدُ على الدعاية لحشد الدعم للحرب لكسب المعركة الدائرة في أوكرانيا يتبادر إلى الذهن مجموعة من التساؤلات أهمها: هل ستُضعف الأزمة من قدرات وطموحات موسكو في الحرب؟ وهل ستُؤثر الأزمة على المعارك الميدانية الدائرة في مناطق متفرقة في أوكرانيا أو على خريطة السيطرة والنفوذ وديناميكيات ساحة المعركة حال تأثر الروح المعنوية للقوات الروسية بانسحاب قوات فاغنر أو على خلق ظاهرة تمرد مماثلة أو تشجيع الراغبين في التمرد سواءً داخل أروقة الدولة أو من القوات الروسية في ساحات القتال؟
بمراجعة الأدبيات ذات الصلة وآراء الكتّاب والمتخصصين في هذا الشأن، نجد أن هناك اتجاهين رئيسيين في تقييم التداعيات المحتملة على المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا:
الاتجاه الأول: يرى أنصاره أنه سيكون للأزمة تداعيات على المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا لا سيما مع دخول الحرب عامها الثاني، مبررين ذلك بأن فاغنر تُشكل رقمًا لا يستهان به في الحرب الدائرة في أوكرانيا، حيث ساهمت بقدر كبير في تحقيق الاستراتيجية العسكرية الروسية لإحداث تحولات استراتيجية وتغيير المعادلة لصالح الروس في الحرب الدائرة في أوكرانيا بعدما واجهت موسكو تحديات عظيمة في السيطرة على أوكرانيا خلال فترة وجيزة بدايات الحرب، وعدم التمكن من السيطرة على العاصمة كييف، ثم إعلانها قرار التجنيد الإجباري.
شاركت «فاغنر» في الطليعة على خطوط الجبهات القتالية الأمامية في العديد من المعارك الطاحنة لصالح روسيا منذ انخراطها في الحرب إلى جانب صفوف القوات النظامية والوحدات العسكرية من دونيتسك ولوغانسك، وساهمت إلى جانب القوات الروسية في تحقيق سلسلة من عمليات التقدم الكبير في السيطرة على مدن بوباسنا وليسيتشانسك، ثم مدينة سوليدار الاستراتيجية، والتي كانت مقدمةً رئيسية للسيطرة على باخموت المدينة التي دارت فيها أكثر المعارك دمويةً وأطولها على الإطلاق، وتعدها موسكو ضمن الغنائم الثمينة؛ لأن السيطرة عليها تعطي مكانةً متقدمة وأقوى للقوات الروسية في محاولات السيطرة على مجمل منطقتي لوغانسك ودونيتسك اللتين تكوّنانِ إقليمَ دونباس.
لعبت فيها فاغنر دورًا مهمًا وبارزًا في تحقيق الانتصارات لروسيا بعد قرابة عام من الجمود أو الهزائم التي مُنيت بها في خاركييف وجنوب شرق أوكرانيا وشكلت رأيًا عامًا ساخطًا، وأظهرت في ساحات القتال حرفيةً وانضباطًا ومهارةً قتاليةً فائقة بناءً على خبرتها الطويلة في التعامل مع الأساليب القتالية المختلفة لحروب العصابات والمدن والحروب مع الجيوش المتطورة اكتسبتها من خدمتها في مناطق ساخنة مختلفة ومتفرقة حول العالم، وامتلاكها إمكانات عسكرية فائقة.
علاوةً على حصول مقاتليها على تدريبات قتالية متطورة، ومشاركتها بعدد كبير من المقاتلين في الحرب في أوكرانيا تتضارب الروايات حول أعدادهم الحقيقية، ففيما تُقدِّر بعضُ الروايات أعدادهم بنحو من 25- 30 ألف مقاتل، تُقدِّرهم الروايةُ الأمريكية بنحو 50 ألف مقاتل (10 آلاف متعاقد و40 ألف سجين تم تجنيدهم من السجون الروسية)، مما خوَّلها للقيام بمهام قتالية أكثر دقةً وتعقيدًا في ساحات القتال الشرسة؛ وبالتالي لعبت دورًا في تقديم الدعم العسكري والمعنوي للجنود الروس على أرض المعركة ومنحت الكرملين فرصةً حقيقية لمواجهة موجة الغضب الشعبية بسبب التعبئة والتجنيد، لاسيما بعد أن سطع نجمها في تحقيق انتصارات في الحرب.
الاتجاه الثاني: يرى أنصاره أن تداعيات الأزمة على المجهود الحربي الروسي ستكون متواضعةً رغم اتفاقهم مع أنصار الاتجاه الأول بأن فاغنر وحدة قتال تكتيكي محترفة للغاية، وساقوا مبرراتهم على ذلك بأن فاغنر ليست مخصصةً لتنفيذ مهام عسكرية واسعة النطاق بشكل مستقل عن الجيش الروسي، وغير مجهزة لخوض معارك كبرى لمدة طويلة، كما أن خطط روسيا القتالية لا تعتمد بشكل مطلق على فاغنر في الجبهات الحساسة ومناطق القتال الاستراتيجية، وأن مقاتليها ينتشرون بشكل أكبر في الجبهات القتالية ذات الأصداء الإعلامية مثل باخموت، بينما ينتشر الجيش الروسي في الجبهات القتالية الاستراتيجية والمؤثرة في معادلة الحرب وحسابات التقدم والخسارة مثل ما هو الحال في الجبهة الشرقية الممتدة حتى خاركيف، والأمر ذاته ينطبق على الجبهة الجنوبية في خيرسون.
كما يرى أنصار الاتجاه الثاني، أن الجيش الروسي خاضَ حروبًا وصراعات عديدة في الماضي ويمتلك خبرةً واسعة من المهارة القتالية العالية وإدارة ساحات المعارك، ولذلك يستبعد عدم امتلاكه خططًا بديلة تعوِّض القوات في ميدان المعركة في حال انسحاب قوات فاغنر، علاوةً على أن وزارة الدفاع الروسية كانت تشرع في تقليص الاعتماد على قوات فاغنر في خطوط الدفاع الأمامية منذ تولي رئيس الأركان فاليري غيراسيموف قيادةَ العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على خلفية تكرار الخلافات بين الطرفين، كما قطعت وزارة الدفاع الطريقَ على خطط فاغنر لتجنيد مزيد من السجناء في جبهات القتال، كما يرون أن استراتيجية الجيش الروسي تعوّلُ أكثر على استخدام الأسلحة الجوية والفتاكة من المواجهات البرية لكسب المعركة.
بغضّ النظر عن الاتجاهين، يبدو أن تمرد قوات فاغنر يكشف عن أزمة جوهرية في الدائرة الضيقة لبوتين لا سيما بين رموز معادلة القوة الروسية وبخاصة داخل وزارة الدفاع الروسية، ما من شأنه التأثير على نظام بوتين على نحو قد يدفعه إلى تغيير قيادات عسكرية حساسة والقيام بعمليات تطهير واسعة في الجيش لمن يشتبه في تعاطفهم مع فاغنر أو يرغبون في التمرد والإقدام على خطوات مماثلة لخطوة فاغنر في توقيت دقيق للغاية يتعلَّق بمستقبل الدولة الروسية كما قال بوتين، ويسعى فيه لتحقيق مزيد من الانتصارات للحد من تنامي ظاهرة السخط الشعبي الروسي من تداعيات الحرب مقابل الدعم الغربي القوي لكييف.
كما يشكل استبدال مجموعة فاغنر في ظل نقص الرجال العسكريين في ساحة المعركة تحديًا لبوتين؛ فمجموعة رمضان قديروف مدربة فقط على حرب المدن ولا تستطيع القتال ضد جيش متطور وكبير. ويبقى السؤال إلى أي مدى سيعتمد بوتين على قديروف؟ قد يُكلف بمسؤولية الحفاظ على الأمن في المناطق المضطربة مثل روستوف أون دون، التي كان قد استولت عليها مجموعة فاغنر دون مقاومة. وقد تضطلع مجموعة قديروف أيضًا ببعض المهام الدفاعية تحت القيادة العامة للجيش الروسي، كما أن استشهاد بوتين في خطابه بما عاشتهُ البلاد سنة 1917م، وإسقاط تلك الأحداث على ما قام به بريغوجين التي بنظره كانت مؤامرات أطاحت بالجيش الروسي، يعني أن بوتين أدرك أنه ترك المجال له حتى فات الأوان وسمح ببروز تحدٍ حقيقي لاستقرار سلطته في روسيا.
كما أن انسحاب قوات فاغنر من شأنه التأثير على الحالة المعنوية والنفسية للقوات الروسية مقابل ارتفاع معنويات القوات الأوكرانية ما يصب في صالح أوكرانيا، ما من شأنه تعريض العملية العسكرية الروسية برمتها لتداعيات خطيرة حال تدحرجها للداخل الروسي بتسلل الانقسامات للدائرة الضيقة حول بوتين وانضمام البعض إلى قائد فاغنر، لاسيما في ظل الاستعدادات الغربية لاستغلال الأزمة ونقل الصراع إلى الداخل الروسي.
رابعًا: انعكاسات تمرد قوات فاغنر على حلفاء أوكرانيا
يوازنُ حلفاءُ أوكرانيا في متابعتهم للتطورات في موسكو بين مسألة الحرب الدائرة والأسلحة النووية التي تمتلكها روسيا. انطلاقًا من هذين المحددين فإن مقاربتهم تعمل على بقاء الرئيس الروسي فلادمير بوتين على «حافة السقوط»، وهي وضعية تجعله ضعيفًا غير قادر على تحقيق إنجازات كبيرة في الحرب على أوكرانيا بما يُعزز من قوته وطموحاته التوسعية، ولكن في الوقت نفسه يريدون حدًا أدنى على الأقل من السلطة المركزية في موسكو التي بإمكانها السيطرة على الأسلحة النووية، وضمان عدم وقوعها في أيدٍ غير عقلانية، علمًا أن الطرف الثاني في المواجهة مع بوتين مُصنفٌ كإرهابي، ويقود مرتزقة؛ وبالتالي لا يتوفر فيه أدنى شرط من الشروط التي تُحبذها الولايات المتحدة والغرب في قادة المعارضة سواءً كانت انقلابيةً أو سلمية، كما أنه لا فرق بين بريغوجين وبوتين بالنسبة للغرب، فكلاهما يشترك في عدائه، بدليل أن قضية بريغوجين لم تكن الحرب نفسها؛ بل كيف ولماذا شُنت الحرب؛ هذه مواجهةٌ بين رجلين مختلفين حول كيفية تدمير أوكرانيا بطريقة أكثر كفاءة. لذلك عندما كان رجال بريغوجين متوجهين دون أي عوائق نحو موسكو، كان الناتو يخشى من وقوع ما هو أسوأ، أي سقوط روسيا بترسانتها النووية المتطورة والمدمرة في يد حاكم أكثر تشددًا، وكلُّه رغبة في إطلاق الصواريخ النووية، كما أجَّل بايدن رحلته إلى كامب ديفيد من أجل التشاور مع الحلفاء الأوروبيين، وشدَّد الناتو الإجراءات الأمنية على الحدود مع روسيا، ووضع قواته الجوية في حالة تأهب قصوى، وستبقى القوات على هذه الحالة لأسابيع قادمة تحسبًا لأي هجوم روسي على أعضائه أو حلفائه من دول أوروبا الشرقية؛ حيث عبَّر مراقبون مختلفون في حلف شمال الأطلسي عن مخاوفهم من عدوان روسيا على حدود الجيران الأصغر للحلف (استونيا، ليتوانيا، لاتفيا، ورومانيا)، إذا رأى بوتين أنه يفقد قبضته على السلطة؛ لهذا السبب لن يُراقب الناتو الوضع المتقلب بهدوء من بعيد، بل سيرُسل مختلف أنواع طائرات التجسس إلى جانب عناصر الاستخبارات طوال الوقت لتكون على رأس تطور الأوضاع على الأرض.
لم يتحقَّق بعد أفضل سيناريو ترغب به أوكرانيا والناتو، حيث شنَّت مختلف الوحدات العسكرية الروسية هجمات ضد بعضها البعض، ولكن سرعان ما تم احتواء الوضع، وتفادت موسكو وقوع كارثة كبرى، الأمر الذي أثارَ استياء أعدائها ومنحَ بوتين الفرصةَ للعمل على إعادة هيبته المجروحة، وإحكام قبضتِه على السلطة. مع ذلك يبقى ما انتهت إليه محاولة قوات فاغنر للتمرد، يخدم مصالح كييف وحلفائها، فهو من جهة حوَّل الرأيَ العام العالمي من تغطية مجريات المعارك في أوكرانيا إلى داخل روسيا، وأعطى للحكومات الغربية خاصةً الإدارة الأمريكية مبررات إضافية لمواصة دعمها لأوكرانيا، وستوظف الدول الغربية ما حصل للرد على المعارضين للحرب، والتأكيد على خطر بوتين، والفوضى التي أحدثها بدايةً ببلاده. كما تظهر الندية التي أبداها قائد فاغنر يفغيني بريغوجين في مواجهته مع بوتين؛ الرئيسَ الروسي في وضع المرتبك والضعيف وغير المتحكم في زمام الأمور داخل حدوده، لتهدم بذلك صورةَ القائد القوي التي بناها حول نفسه طيلةَ السنوات الماضية، لاسيما بعد تصريح بريغوجين الذي شكَّك فيه بمنطق بوتين في شنّه الغزو على أوكرانيا؛ كان تصريحًا غير متوقع بالنسبة للروس، ومُبهجًا للأوكرانيين. لقد نُسفت أساطير قبضة بوتين الحديدية على السلطة، ومهَّدت حالة الارتباك الناجمة عن ذلك الطريقَ لشن هجومٍ عسكري تأخَّر تنفيذه؛ ففي ساعات الارتباك الأولى، كان بإمكان الأوكرانيين الاستفادة من فرصة جمع معلومات استخبارية لا تُقدر بثمن حول الروح المعنوية وحالة القيادة والسيطرة. ورغم تأكيد الكرملين على عدم تأثير ما وقع على مجريات الحرب إلا أن التأثيرات السلبية لما حصل هي الأرجح على المعارك المحتدمة في أوكرانيا في ظل الغموض الذي يكتنفُ مستقبلَ فاغنر، وأيضًا لتزامن التمرد مع الهجوم المضاد الذي يشنُّه الجيش الأوكراني مع بداية أشهر الصيف التي تُتيح له مُتسعًا من الوقت لتحقيق مكاسب قبل قدوم الشتاء، من هنا فإن الدعم الغربي والأمريكي سيتواصل وربما يتضاعف لتحقيق أكبر قدرٍ من المكاسب في اتجاهين الأول إضعاف بوتين داخليًا، والثاني تقويض إنجازاته العسكرية خارجيًا.
الخاتمة
على ضوء المعطيات السابقة، يمكن القول إن استمرار أزمة فاغنر وتجدُّدها بحيث تُسبب مشكلات وتعقيدات داخلية للرئيس بوتين دون تهديد بقائه في الحكم، ينسجم مع ما تريده الولايات المتحدة والغرب لدفع الرئيس الروسي في الأخير إلى التوصل لتسوية تُعيدُه إلى المربع الأول لما قبل 2014م، إذ لن يفوِّتَ الأوروبيون أيَّ فرصة سانحة تأتي لهم في موسكو، حيث سيسعون جاهدين إلى قطف ثمار هذه الفرصة في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وقد يلجأ بوتين لتحجيم دور مجموعة فاغنر خلال الفترة القادمة وإجراء تغييرات قد تطال قيادات ومؤسسات أمنية وعسكرية حساسة، وربما البحث عن بديل مناسب لقوات فاغنر التي باتت تشكل هاجسًا للقيادة الروسية، لا سيما في ظل حالة السخط الشعبي الكبير جرَّاء التداعيات الاقتصادية للحرب وحالات التذمر من قرارات التعبئة والحشد والتجنيد الإجباري.