شهِدَت العلاقات بين الهند وكندا مؤخَّرًا، تدهورًا سريعًا، بعد طرْد سفيرَي البلدين، كما تأتي إثر مقتل هارديب سينغ نيجار، وهو زعيم انفصالي سيخي مقيم في كندا، خارج معبد للسيخ في مدينة ساري بمقاطعة بريتيش كولومبيا، في يونيو 2023م، ما أجَّج التوتُّرات بين البلدين. ونتيجةً لذلك وقفت كندا المحادثات التجارية مع الهند، وأعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عن إجراء تحقيق في مزاعم تورُّط الحكومة الهندية في مقتل نيجار. وامتدَّت التوتُّرات الدبلوماسية إلى عام 2024م، حيث اتّهمت الحكومة الكندية الهند باستهداف المنشقِّين السيخ في كندا، وتصعيد الأعمال العدائية بين البلدين. وفي قلب هذه التوتُّرات، تأتي «حركة خالصتان»، التي تسبَّبت في استمرار توتُّر العلاقات الثنائية. وأعربت الحكومات الهندية المتعاقِبة عن مخاوفها بشأن نهْج الحكومة الكندية تجاه الجماعات الانفصالية السيخية العامِلة في كندا، بخاصَّة بعد تفجير الخطوط الجوِّية الهندية عام 1985م، الذي أسفر عن مقتل 329 شخصًا. جدير بالذكر أنَّ التفجير جاء انتقامًا من الحكومة الهندية لعمليتها «بلو ستار»، التي كانت تهدُف إلى إزالة المسلَّحين السيخ من المعبد الذهبي في أمريتسار عام 1984م، وقد جاءت تداعيات عملية «بلو ستار» شديدة على الصعيد المحلِّي، إذ نجَمَ عنها اغتيال رئيسة الوزراء آنذاك أنديرا غاندي، على يد حُرّاسها الشخصيين السيخ، وأثار هذا الاغتيال أعمال شغب عنيفة مناهِضة للسيخ في مختلف أنحاء الهند، ما أدَّى إلى تعميق الانقسام الطائفي داخل البلاد.
تمتَدُّ التوتُّرات بين الهند وكندا منذ فترة طويلة، لكن الأحداث الأخيرة فاقمت الوضع، ووفقًا لتصريحات الشرطة الملكية الكندية، فقد «كشفت التحقيقات أنَّ الدبلوماسيين الهنود والمسؤولين القنصليين المقيمين في كندا، استغلُّوا مناصبهم الرسمية لتنفيذ أنشطة سرية، مثل جمْع المعلومات لحكومة الهند، إمَّا مباشرةً وإمَّا من خلال وكلائهم، وبتصرُّف أفراد آخرين إمَّا طواعية وإمَّا إجبارًا». وقالت الحكومة الكندية إنَّها تعتقد أنَّ الحكومة الهندية انخرطت في أنشطة إجرامية في كندا، ومن جانبها صرَّحت وزارة الخارجية الهندية في ردٍّ مباشر واضح، بأنَّها «ترفض بشِدَّة هذه الاتّهامات السخيفة، وتنسبها إلى الأجندة السياسية لحكومة ترودو، التي تركِّز على سياسة بنوك الأصوات»، ما يعكس السرد الهندي القائل إنَّ سياسات ترودو تتأثَّر باعتماده على الدعم من المجتمع السيخي الكندي. مع ذلك تجاهلت الحكومة الهندية تلك المزاعم، وأصرَّت على عدم وجود دليل يدعم الادّعاءات التي قدَّمتها الحكومة الكندية. من جانبه وصَفَ المفوَّض السامي الهندي سانجاي فيرما، في مقابلة أُجرِيَت معه مؤخَّرًا، تصرُّفات كندا بأنَّها «تفتقر إلى المهنية في العلاقات الثنائية». وفي هذا السياق، تتّهِم الحكومة الكندية الهند بعدم إبداء التعاون مع التحقيق، وتجدُر الإشارة إلى أنَّ كندا تضُمّ أكبر عدد من السيخ خارج الهند، وهو ما يمثِّل غالبًا سببًا للأحزاب السياسية للاستفادة من أصواتهم، ومع ذلك ففي كندا أيضًا عدد أكبر من السُّكّان الهندوس، الذين قد تبتعد أصواتهم عن الحزب الليبرالي، إذ كشَفَ استطلاع رأي أجرته شركة «إيبسوس»، أنَّ نسبة تأييد ترودو مع استئناف مجلس العموم جلسة الخريف انخفضت إلى 33%، وهو ما يمثِّل انخفاضًا بأربع نقاط منذ يونيو.
وفي تطوُّرٍ آخر، اتّهمت الولايات المتحدة ضابط الاستخبارات الهندي السابق فيكاش ياداف بتدبير مؤامرة فاشلة لاغتيال انفصالي سيخي في نيويورك، وتُشير لائحة الاتّهام، التي كشفت عنها وزارة العدل الأمريكية، إلى أنَّ ياداف كان ضابطًا سابقًا في وكالة الاستخبارات الخارجية الهندية (جناح البحث والتحليل الهندي). ووفقًا لتقرير لائحة الاتّهام، فإنَّ ياداف قد جنَّد نيكيل وبتا -وهو مواطن هندي آخر-لتنفيذ عملية الاغتيال في الولايات المتحدة، ولدحض هذا الاتّهام بنجاح، سيتعيَّن على الهند أن تُثبِت أنَّ ياداف قد تصرَّف بشكلٍ مستقِلّ. وهو الأمر الذي أكَّدته وزارة الخارجية الهندية، إذ ذكرت أنَّ الأخير لم يعُد يعمل لصالح الحكومة. وقد ألقت هذه النتائج بظلالها على عمليات الاستخبارات الهندية، وصدرت لائحة الاتّهام ضدّ ياداف مصحوبةً بأمر اعتقال، وعادةً ما تُصدِر هذه التُّهمة في النظام القانوني الأمريكي هيئة محلَّفين كُبرى، بعد مراجعة الأدِلَّة التي قدَّمها المدَّعون العامُّون، وهو ما يعني وجود أدِلَّة قوية لتوجيه اتّهام رسمي إلى ياداف. ولا يزال التعقيد يشوب الوضع الحالي، مع ضغْط كندا على حلفائها في تحالُف «العيون الخمس» للحصول على الدعم. وقد صرَّحَت الولايات المتحدة ونيوزيلندا مؤخَّرًا، بأنَّه ينبغي أخْذ ادّعاءات كندا ضدّ الهند في مقتل نيجار على محمل الجد، وأكَّد المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر خطورة هذه الادّعاءات، وحثَّ على اتّباع نهْجٍ حازم تجاهها.
وأثارت الاتّهامات والتوتُّرات المتصاعِدة بشأن ادّعاءات تورُّط الهند في أعمال عنف خارج أراضيها، قلقًا بالغًا حول سلوكها. مع ذلك فإنَّ قطْع العلاقات مع الهند لا يصُبّ في مصلحة الولايات المتحدة، بخاصَّة في ظل المشهد الجيوسياسي الحالي، فالحفاظ على علاقة قوية مع الهند أمرٌ بالغ الأهمِّية، لموازنة نفوذ الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهو الأمر الذي يؤكِّد مدى تعقيد المشهد الحال، الذي تتعارض فيه الاعتبارات الأخلاقية مع المصالح الإستراتيجية طويلة الأجل للقُوى العالمية، مثل الولايات المتحدة.
وجاء ردّ الفعل الهندي على الاتّهامات، التي وجَّهتها الولايات المتحدة، مختلفًا عن ردِّها على الحكومة الكندية. ويرجع ذلك جزئيًّا إلى الطريقة التي تعاملت بها حكومة ترودو مع القضية، وغالبًا ما تحاول حكومة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي فاز بولاية ثالثة الآن، الحفاظ على صورة الزعيم القوي، وهي الصورة التي ظهرت جليَّة في ردود نيودلهي، كما يلعب التفاوت في ديناميكيات القوَّة ومستويات النفوذ لدى الدولتين دورًا مهمًّا في تشكيل ردود الهند.
جدير بالذكر أنَّ مناقشة مثل هذه القضايا علنًا هي أمرٌ غير مسبوق، فعادةً تستخدم البلدان طُرُقًا دبلوماسية مختلفة في مثل هذه الظروف. وكانت سرديات وسائل الإعلام الهندية التقليدية مناهضةً تمامًا لترودو، ومكمِّلة لسردية الحكومة الهندية، بهدف عرْض الموقف بطريقة تتوافق مع ردودها، الأمر الذي قد يقوِّض الجهود الدبلوماسية لمعالجة التوتُّرات بين الهند وكندا. وقد يؤدِّي هذا النهج إلى تزايُد استقطاب الرأي العام، والحدِّ من فُرَص الحوار البنّاء، وبالتالي تعقيد احتمالات التوصُّل إلى حلٍّ فوري.
وليس من مصلحة الهند وكندا أن تتصعَّد الأزمة لتجنُّب كثير من المخاطر، فقد يفاقم الخلاف الدبلوماسي المتواصل بين البلدين التوتُّرات وضبابية المشهد، وعلى رأسها التجارة الثنائية، التي تُقدَّر قيمتها بنحو 8 مليارات دولار. وفي حين تعتمد الهند الآن على علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لتخفيف التوتُّرات، اتّخذت حكومة ترودو تدابير لإقناع حلفائها بمدى خطورة أزمتها مع الهند.
وتحت مظلَّة تحالفهما الوثيق، تلتزم كندا والولايات المتحدة اتفاقيات لتبادل المعلومات الاستخباراتية، إذ كان من المُفترَض أن تشارك كندا واشنطن الأدِلَّة التي جمعتها وكالاتها حول مقتل نيجار أو العكس. ولكن لم تتّخِذ الولايات المتحدة موقفًا صارمًا، وقد يكون ذلك إمّا لأنَّ الأدِلَّة لم تكُن كافيةً لاتّخاذ إجراء حازم، وإما لأنَّ الأولوية الإستراتيجية دفعت واشنطن إلى اتّخاذ موقف أكثر تحفُّظًا تجاه ادّعاءات كندا.