حثّ كثير من وسائل الإعلام الإيرانيَّة الدبلوماسيين الإيرانيّين خلال الأسابيع الماضية على أداء دورهم لمنع خروج الولايات المتَّحدة من الاتِّفاق النووي، خشية تَأَزُّم أوضاع اقتصادية متردية من الأساس. مجرَّد التلويح بفرض عقوبات خلال الشهرين الأخيرين تَسبَّب في خسائر مالية واقتصادية، فما بالنا باتخاذ القرار بالفعل ودخوله حيِّز التنفيذ بعد ١٨٠ يومًا إذا لم يحدث أي تغيير في القرار أو في بنود الاتِّفاق؟
أولًا: عادةً أسرع ما يتأثر في بالقرارات السياسية والاقتصادية المفاجئة سوق الأوراق المالية وسوق العملات، لحساسيتهما الشديدة تجاه توقُّعات المتعاملين، سواء التفاؤلية والتشاؤمية، ثم تنعكس سريعًا على الأسعار المتداوَلة.
وبناءً عليه فمن المرجَّح أن يكون لقرار انسحاب ترامب رد فعل تشاؤمي تجاه مستقبل الأعمال وأداء الشركات المالي، ينعكس في هروب الأموال الساخنة مهرولةً من سوق الأوراق المالية، وقد يخلِّف حالة من البيع الجماعي والسريع لعامة المتداولين مِمَّا يتسبب في هبوط في أسعار البورصة عمومًا وخسارة فادحة للشركات والأفراد لرأسمال سوقي ضخم.
لا يختلف الأثر كثيرًا في سوق العملات الأجنبية التي شهدت ارتفاعات حادة جدًّا خلال الشهرين الأخيريين لمجرَّد توقع غير مؤكّد في ذلك الوقت بانسحاب الولايات المتَّحدة، أما وقد تَحوَّل التوقُّع إلى واقع فستشهد العملات الأجنبية ارتفاعًا حادًّا، خصوصًا الدولار الأمريكيّ، خلال الأيام والأسابيع المقبلة تأثرًا بانسحاب أمريكا. ولا يمكن أن نغفل التبعات المباشرة على تراجع مستوى المعيشة والقدرة الشرائية للمواطنين بسبب ارتفاع الأسعار المحلية -وصل التضخُّم إلى٤٠% عام ٢٠١٣ في أثناء الحصار الاقتصادي الغربي- وما يستتبعه ذلك من تفاقم مشكلات اجتماعية وأمنية موجودة من الأصل. هذا عن الآثار الاقتصادية العاجلة.
وبالتأكيد تتأثر أسعار البترول عالَميًّا بالتوتُّرات الإقليمية والجيو-سياسية ونقص الإمدادات، كإعادة فرض حظر على صادرات إيران النِّفْطية، لكن تركيزنا الأكبر هنا على تأثر الاقتصاد الإيرانيّ لا العالَمي.
ثانيًا: ننتقل إلى توقعات تأثير القرار الأمريكيّ على الاقتصاد الإيرانيّ في المدى القريب بعد انقضاء مهلة ٩٠-١٨٠ يومًا بين توقيع القرار وبداية تفعيله. بدايةً مع الاعتراف بأن تأييد الدول الأوروبيَّة للاتِّفاق يساند الاقتصاد الإيرانيّ ويحميه من الانزلاق إلى أوضاع اقتصادية متردية سادت قبل سريان الاتِّفاق ٢٠١٦، وهذه حقيقة، فإن انسحاب أكبر اقتصاد وقوة عظمى في العالَم من الاتِّفاق كفيل بهزّ أركانه، إن لم يكُن هدم هذه الأركان، وأركانه الأهمّ (أوروبا) وثيقة الصلة بالمصالح الأمريكيَّة-الأوروبيَّة.
تتوقف خطورة إعادة فرض عقوبات أمريكيَّة على الاقتصاد الإيرانيّ على نوعية العقوبات التي ستُفرَض، فنجد أن أكثرها تأثيرًا على أداء الحكومة (الإصلاحيين) سيكون قرارًا مثل حظر الصادرات النِّفْطية، لاعتماد الموازنة على نسبة كبيرة من إيرادات النِّفْط، فيصعب -وقد يفشل- تحقيق الأهداف الاقتصادية والسياسية معًا. أما قرارات على شاكلة وقف التعامل البنكي أو فرض عقوبات على الشركات الدولية المتعاملة ماليًّا أو المستثمرة في إيران فسيكون تأثيرها الأكبر على القطاع التعاوني والحرس الثوري، بما أنه المشكل الأكبر لهذا القطاع الذي يمتلك استثمارات ضخمة. ويأتي بعد القطاع الحكومي في مساهمته في الاقتصاد الإيرانيّ، الانكماش أو الركود، قد يكون مصير استثمارات في مجالات متعددة تشمل الصناعة النِّفْطية وغير النِّفْطية والطيران وقطع غيار وواردات حيوية وغيرها من المجالات.
وبصرف النظر عن المتضررين من إعادة فرض العقوبات، فإن الشعب سيكون المتضرر الأكبر من الآثار السلبية الناجمة عن عقوبات مرتقَبة، كخروج عدد من الشركات المستثمرة في السوق المحلية، ونقص الواردات والمعروض من السلع، وارتفاع معدَّلات التضخُّم والبطالة وزيادة المشكلات الاجتماعية.
ومن الضروري الإشارة إلى احتمالية وجود سيناريو آخر، فقد يتراجع ترامب عن تفعيل بعض العقوبات قبل نهاية المهلة في حال تعديل بنود في الاتِّفاق النووي أو بضغوط أوروبيَّة، وفي هذه الحالة ستقلّ التداعيات السلبية على الاقتصاد الإيرانيّ وتنحصر في الآثار العاجلة للقرار سابقة الذكر، مع تأثيرات أخرى، كاستمرار حالة الخوف والحذر من تعامل الشركات الدولية مع رأس المال الإيرانيّ، مما يضيع عليه فرص تنمية مستقبلية.
ثالثًا: مستقبل الاتِّفاق النووي مع إيران أصبح مرهونًا بقدرة بقية الأطراف، تحديدًا الأوربية، على استمرار الجانب الأكبر من مصالحها الاقتصادية بعد خروج الولايات المتَّحدة، فاستثمارات أوروبا مع إيران في مجالات النِّفْط والصناعة والتصدير تدفعها إلى التمسك بالاتِّفاق لدعم اقتصاداتها المحلية قبل دعمها للاقتصاد الإيرانيّ.
حقّق الاقتصاد الإيرانيّ معدَّلات نموّ قياسية خلال العام الأول من الاتِّفاق النووي -وإن لم ينعكس ذلك بالضرورة على رفاهية الشعب- بعد مضاعفة صادراته النِّفْطية، وعودة جزء من الاستثمارات الأوروبيَّة، ومن هنا فإن نجاة اقتصاد إيران متعلقة بمواقف الشريك الأوروبيّ والضغط إلى أقصى حدّ لعدم المساس بصادرات النِّفْط في المقام الأول، أما إذا طالت العقوبات الأمريكيَّة الصادرات النِّفْطية، فستخلِّف آثارًا عميقة على الاقتصاد الإيرانيّ وتضيق الخناق عليه كثيرًا تَزامُنًا مع ارتفاع تكاليف صراعات النِّظام في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وتجفِّف أهم مصادر تمويله.