منغوليا، هذه الدولة الحبيسة بين الصين وروسيا، يبقى سقف خيارتها محدودٌ جدًّا في عالمٍ شديد الاستقطاب؛ لذلك اختارت أن تضع التزاماتها القانونية جانبًا كعضو في «المحكمة الجنائية الدولية»، وأن تفرش السجّاد الأحمر لاستقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 3 سبتمبر. وعند مقارنتها بجنوب أفريقيا، التي رفضت استقبال بوتين في قمَّة «البريكس»، تظهر منغوليا دولة تابعة لروسيا.
وهُنا يمكننا التساؤل، ما أهمِّية المحكمة بدون امتلاكها سُلطة لإنفاذ أحكامها؟ كيف يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تقدِّم القُوى للعدالة، ودولها الأعضاء أو الموقِّعون لا يملكون الإرادة للسعي في مسارها؟ إنَّ تعهُّد المحكمة بـــ «إنهاء الحصانة»، يتمثَّل في اعتقال ليس بوتين فحسب، بل أيضًا المسؤولين الإسرائيليين بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت، بالإضافة إلى قائدي حركة حماس يحيى السنوار ومحمد الضيف. كما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكِّرة توقيف بحقِّ الرئيس السوداني السابق عمر البشير؛ بسبب ارتكابه الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية في دارفور، لكن الخرطوم حمته منذ صدور القرار في عام 2009م. الجدير بالذكر هُنا أنَّ المحكمة الجنائية الدولية تعتمد على عدَّة بنود من «نظام روما الأساسي»، وأبرزها المادَّة 27، لمقُاضاة أصحاب السُلطة. وتجدَّد نشاطها، منذ أن تولَّى المحامي البريطاني من أصل باكستاني كريم أحمد خان منصب المدّعي العام.
في عام 1998م، بسبب عمليات الإبادة الجماعية، التي ارتُكِبت في البوسنة والهرسك ورواندا، جرى تطوير نظام دائم للعدالة الدولية، ومع ذلك، تعرَّض القانون الدولي للتقويض بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ أدَّت الحرب ضدّ الإرهاب إلى طمْس الخطوط الفاصلة بين المدنيين والإرهابيين. ومع ذلك، سُنَّ نظام روما الأساسي في الأول من يوليو 2002م. وآخر من انضمَّ إلى عضوية المحكمة كانت أرمينيا، وبها وصَلَ عدد الأعضاء إلى 124 دولة عضو، لا تشمل إسرائيل وروسيا والهند والصين والولايات المتحدة، ويُعَدُّ الاتحاد الأوروبي من أبرز مؤيِّديها.
تمارس المحكمة الدولية ولايتها القضائية على أربعة فئات من الجرائم، بموجب القانون الدولي، وهي: الإبادة الجماعية؛ أي الإبادة بقصد التدمير الكُلِّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، وجرائم الحرب، بما في ذلك الانتهاكات الجسيمة لقوانين الحرب بموجب «اتفاقيات جنيف» والانتهاكات الخطيرة بموجب القانون الدولي العرفي؛ والجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم العدوان، حيث يخطِّط أو ينفِّذ زعيم سياسي أو عسكري استخدام القوَّة المسلَّحة من دولة. ومن الجدير بالذكر، أنَّ الصين والهند تنتقدان المحكمة الجنائية الدولية بأنَّها تنتهك سيادة الدولة. وانسحبت روسيا من عضويتها في عام 2016م، بعدما صنَّفت المحكمة ضمِّها لشبه جزيرة القرم على أنَّه احتلال.
ومن ناحية أخرى، تأرجحت الولايات المتحدة بين دعْم المحكمة ومعارضتها، اعتمادًا على الإدارة. وبعد فترة وجيزة من تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، شرَّعت الولايات المتحدة «قانون حماية أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية»، وبموجبه تقطع واشنطن المساعدات المالية عن أعضاء المحكمة الجنائية الدولية، الذين يوافقون على تسليم أفراد أمريكيين إلى المحكمة، لذلك لم تُصدِر المحكمة مذكِّرة اعتقال لأي مسؤول أمريكي. وحتى الرؤساء المفضَّلين لدى المحكمة الدولية، مثل جو بايدن، لا يدعمون دائمًا جميع قراراتها، والشاهد هُنا ردَّة فعله على إصدار مذكرات اعتقال لنتنياهو وغالانت. وقبل تعيين خان، واجهت المحكمة انتقادات أيضًا لاستهدافها مسؤولين أفارقة. وعمومًا، تُنتقَد المحكمة الجنائية الدولية؛ لأَّن لديها سُلطة ضئيلة لا تمكِّنها من تنفيذ أحكامها.
ويواجه المدّعي العام الجديد خان، بالإضافة إلى إنفاذ قرارات المحكمة الأخيرة، تقليل الضغوطات، التي تواجهها المحكمة من ممِّوليها الأساسيين: كندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والمملكة المتحدة.
وعلى الرغم من تكبيلها بوابل من القيود المفروضة على نظامها الأساسي، فضلًا عن تعقيدات وتناقضات النظام العالمي، تجرّأت المحكمة الجنائية الدولية على فتْح تحقيقات في جرائم مُحتمَلة من دول غير أعضاء. وعلى الرغم من أنَّ أوكرانيا وروسيا ليستا عضوين في المحكمة، فقد انضمَّت فلسطين في عام 2016م، وسط معارضة من الولايات المتحدة وحلفائها. وجاء الحُكمان، اللذان يكشفان عن محكمة جريئة تسعى إلى دعْم القانون الدولي، بمثابة مفاجأة؛ نظرًا للتاريخ السلبي لمكتب المدّعي العام. ولو أحال مجلس الأمن أو أطلع مكتب المدعي العام على الصراع في سوريا في عام 2016م، لكان من الممكن أن تُحرِز المحكمة الجنائية الدولية نتائج أفضل اليوم من حيث نفوذها وسُلطتها.
ومن غير المتوقَّع أن يغادر أو يهرب السنوار والضيف من قطاع غزة؛ لأنَّهما سيكونان عُرضةً للاعتقال، أما بوتين فمن المُحتمَل أن يذهب لإسلام أباد لحضور قمَّة «شنغهاي للتعاون»، المقرَّر عقدها من 15 – 16 أكتوبر. ولم تُفصِح باكستان بعد، عن أنَّها أرسلت دعوة للرئيس الروسي أم لا، لا سيّما أنَّ التصريح في هذا الشأن سيُثير الجدل. ومن جانبها، ستُقيِّم موسكو ما إذا كان آمنًا أن يزور بوتين دولة أقرب في علاقاتها للغرب من روسيا، دون التعرُّض لمخاطر أو إحراجات. وقد نشهد نفس سيناريو قمَّة «البريكس» لعام 2023م في جوهانسبرغ؛ أي أنَّ روسيا ستفضِّل إرسال وزير خارجيتها أو من هو أقلَّ منه رتبة لحضور المؤتمر. أصبحت سُلطة ومصداقية المؤسَّسات القانونية الدولية، أكانت محكمة الجنايات الدولية أو محكمة العدل الدولية، تعتمد على مستوى الاستقطاب أو التجانس الحاصل في النظام العالمي؛ واليوم نشهد استقطابًا سياسيًا في الساحة الدولية أكثر تصادُمية ممّا كان عليه الوضع عندما أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية عام 1998م، وهو أمرٌ يستحيل توقُّعه قبل عقْدٍ من الزمان.