ترامب وتهديد الحلفاء الأوروبيين.. ما الرسائل وما التداعيات؟

https://rasanah-iiis.org/?p=34260

مع الاستطلاعات، التي ترجِّح عودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لمنصبه، عادت «الترامبية» لتُلقي بظلالها على السياسة العالمية من جديد. ففي واحدة من تصريحاته الملفتة، التي أحدثت ضجيجًا دوليًا، قال ترامب إنَّه «سيشجع روسيا على مهاجمة حُلفاء الولايات المتحدة، إذا فشلوا في إنفاق ما يكفي على اتفاقهم الدفاعي». وبينما انتقد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن هذه التصريحات، ووصفها بأنَّها «مروِّعة ومضطربة»، فإنَّ تصريحات ترامب، التي غزت وسائل الإعلام بسرعة، كانت محور جدل في مؤتمر ميونيخ الأمني، إذ حاول المسؤولون في إدارة بايدن، وفي مقدِّمتهم نائبة الرئيس كاميلا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، التأكيد على أنَّ الدعم الأمريكي سيظل ثابتًا، وفي الوقت والمكان نفسه أكد المبعوث الوحيد للجمهوريين المؤيِّدين لترامب؛ السيناتور من ولاية أوهايو جي دي فانس، أنَّ الإدارة الأمريكية القادمة يمكن أن تعمل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتنسحب من أوروبا. ولا شكَّ، فقد أثار هذا الخطاب موجة غضب بين المسؤولين الأوروبيين، الذين أصبحوا يشعرون بالقلق بالفعل، بشأن موثوقية الولايات المتحدة كحليف في إدارة ترامب الثانية المُحتمَلة. وهو قلقٌ قد بدأ بالفعل مع تراجُع الدعم الأمريكي خلال الفترة الأخيرة؛ نتيجة الخلافات بين الحزبين داخل الكونجرس، بينما كانت تنفذ القذائف والمعدَّات الأساسية لدى الجيش الأوكراني على الخطوط الأمامية؛ الأمر الذي عرقل جهود الهجوم الأوكراني المضادّ. والحقيقة أنَّ هذه المواقف من جانب ترامب والجمهوريين لا تتوقَّف تأثيراتها على ضفتي الأطلسي، بل ستجِد صداها داخل الولايات المتحدة نفسها، ودوليًا، على مستوى البيئات الإقليمية المختلفة.

أولًا: الخلفية وسياق التصريحات

بدايةً، لا يُعتبَر ترامب أول من أثار قضية الانفاق الدفاعي الأوروبي، فقد كانت مسألةً مطروحة من جانب الرؤساء الأمريكيين، ورُبّما يُعتبَر الرئيس باراك أوباما أول من اشتكى، على استحياء، من ضآلة الإنفاق الدفاعي الأوروبي،واستجابةً لذلك رفعت دول الحلف منذ عام 2016م مستوى إنفاقها الدفاعي بشكل كبير، وكان الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022م بمثابة حافز إضافي لزيادة إنفاقها على حلف الناتو. فمن بين دول «الناتو» الست المتاخمة لروسيا، لا تزال دولة واحدة فقط، وهي النرويج، تنفق أقلّ من الهدف الدفاعي السنوي للحلف، وهو 2% من ناتجها المحلِّي الإجمالي، وتقول إنَّها ستصِل إلى هذا المستوى بحلول عام 2026م. لكن يبدو أنَّ سقف 2% لم يعُد كافيًا، ولا تزال الولايات المتحدة، بصفة عامَّة، تضغط على أعضاء «الناتو» لتحمُّل مزيد من نفقاتها الدفاعية، في الوقت الذي تتحمَّل فيه ما يقرُب من 70% من مجمل نفقات الحلف.

لكن كان ترامب أول من طلب صراحةً من أعضاء «الناتو» تحمُّل نفقات الدفاع الخاصة بهم، وذلك خلال قمة الحلف في بروكسل عام 2018م؛ وبالتالي، تُعتبَر إثارة ترامب لقضية الإنفاق الدفاعي الأوروبي من جديد، بمثابة ارتداد إلى فترة ولايته الأولى، وهكذا في حالة فوز ترامب بولاية جديدة، فإنَّ الولايات المتحدة قد لا تمتثِل لالتزامها بالدفاع عن أعضاء التحالف الآخرين من الهجوم، ما لم يدفعوا المزيد من الأموال، وهي مسألة قد تضع العلاقات عبر الأطلسي على المحك، وسيكون لها تداعياتها على العديد من الملفات الدولية المشتركة.

وجد بايدن نفسه في حالة دفاع في مواجهة تهديدات ترامب المباغتة، وبات عليه طمأنة شركائه الأوروبيين بشأن استدامة السياسة الأمريكية، وطمأنة الناخبين وكسب تأييدهم؛ لهذا هاجم ترامب بقوَّة، واعتبر خطابه غير أمريكي. وركَّز خطاب عناصر إدارة بايدن على أنَّ انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر المقبل، من شأنه أن يزعزع استقرار النظام العالمي، ويُضعف الولايات المتحدة خارجيًا وداخليًا، وسوف يعكس التقدُّم، الذي أحرزته الإدارة في إعادة بناء الثقة في واشنطن. فبحسب هاريس أمام قمّة الأمن العالمي في ميونيخ: «لقد أظهر لنا التاريخ أيضًا، أنَّه إذا نظرنا إلى الداخل فقط، فلن نتمكَّن من التغلُّب على التهديدات القادمة من الخارج»، وهذا  الخطاب سبق أن ركَّز عليه بايدن في حملة انتخابه في 2020م.

على الضفة المقابلة للأطلسي تزايد القلق، فعلى مدار أشهر مضت، تراقب المؤسَّسة السياسية والأمنية والاستخباراتية في أوروبا بقلق، بينما أصبحت المساعدات المهمَّة لأوكرانيا غارقةً في السياسة الداخلية. ويبدو أنَّ الأوروبيين منزعجون للغاية من تقلُّب العلاقة مع الولايات المتحدة، على خلفية النزاع الداخلي بين الحزبين، لا سيّما أنَّ الأطراف الأوروبية تعتمد بشكل كبير على المظلَّة العسكرية، التي توفِّرها واشنطن. ولم تعمل بعض البلدان، بما في ذلك ألمانيا، على زيادة إنفاقها بالسرعة، التي وعد بها زعماؤها في البداية، في أعقاب الهجوم الروسي على كييف؛ لهذا تتزايد المخاوف الأوروبية، على الرغم من محاولات المسؤولين في إدارة بايدن طمأنتهم.

الإشكالية أنَّ هذه التصريحات تأتي في لحظة أمريكية فارقة، حيث أصبحت الأوضاع الداخلية والخارجية أكثر خطورة بكثير ممّا كان عليه الوضع خلال سنوات إدارة ترامب، فهناك حروب متعدِّدة على الطاولة، وميزان القوُى الدولي متأرجِح بشدَّة، في ظل رغبة واسعة من القُوى الكبرى المنافسة ومن دول الجنوب العالمي لمراجعة النظام الدولي، وفي ظل إخفاق كبير للمؤسَّسات الدولية، وللعالم الليبرالي، الذي أصبح لا يحافظ على قواعد النظام، التي أرساها، مع انقسام عميق داخل الولايات المتحدة.

ثانيًا: دلالات ورسائل

كان لتصريحات ترامب، والجدل المُثار خلال مؤتمر ميونيخ، مضامين ورسائل في أكثر من اتّجاه، يمكن الإشارة إلى أبرزها، على النحو الآتي:

1. مغازلة انتخابية: لا شكَّ، أنَّترامب يجيد بصورة لافتة مخاطبة الناخبين، من خلال قضايا حسّاسة، وبالنظر إلى أنَّ الرجل جاء من خارج مؤسَّسات الحُكم التقليدية، وبلا التزام حزبي صارم، فإنَّه يملك الجرأة لطرح قضايا لم يكُن من المعتاد طرحها في السباقات الانتخابية، كما أنَّه شعوبي يحاول هزيمة خصومه بتوجيه ضربات مناهضة لسياساتهم، وقد ظهر ذلك في قضية الهجرة، التي كانت رافعةً مهمَّةً في انتخابات 2016م ضدّ هيلاري كلينتون، وهي القضية ذاتها التي يحاول استخدامها مجدَّدًا ضدّ بايدن. وكذلك الاتفاق النووي، الذي أبرمه الديمقراطيون مع إيران في 2015م، وهو في الجولة الحالية يحرِّك ملف العلاقات عبر الأطلسي كقضية مهمة للتأثير على شعبية بايدن، ويُشار هُنا إلى ما قاله كبير مستشاريه، جيسون ميلر، عن أنَّ «الرئيس ترامب دفَعَ حلفاءنا إلى زيادة إنفاقهم في حلف شمال الأطلسي، من خلال مطالبتهم بالدفع، لكن جو بايدن عاد للسماح لهم باستغلال دافعي الضرائب الأمريكيين»، وذلك ضمن تكتيك انتخابي معروف. وعلى الرغم من أنَّ القضية تحمل قدرًا من التوظيف السياسي، لكن يجِد ترامب دعمًا من الجمهوريين أكثر من أيّ وقتٍ مضى، بشأن هذه القضية، وقد ظهر ذلك في المداولات بشأن المساعدات المقدَّمة لأوكرانيا في الكونجرس منذ بداية الحرب.

2. تحذير لشركاء «الناتو»: جاءت تصريحات ترامب حاملةً رسالةً مهمَّة إلى الأوروبيين، أبرزها ضرورة إعادة النظر في الإنفاق الدفاعي، ورُبّما أبعد من ذلك. فمظلَّة الحماية الأمريكية قد تتراجع مع انتخاب ترامب، خصوصًا أنَّ تصريحاته خلال هذه المرة أقسى من الرسالة، التي وجهها في 2018م، حيث اعتبرها كثيرون الرسالة الأكثر إثارة للجدل حول «الناتو»، حتى الآن، من قِبَل رئيس أمريكي سابق انتقد الحلف مرارًا وتكرارًا خلال فترة ولايته، بينما كان يُبدي الإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبحسب مستشار الأمن القومي الأمريكي سابقًا جون بولتون، فإنَّ ترامب رُبّما يمهِّد الأرضية لسياسة أكثر جرأةً تجاه أوروبا في حالة إعادة انتخابه، والإشكالية أنَّ الأوروبيين لا يملكون بدائل، وبدت ردود أفعالهم غير مستوعبة لإمكانية تخلِّي الولايات المتحدة عن شراكتها الدفاعية معهم.

3. إحباط لأوكرانيا: لا شكَّ أنَّ رسالة ترامب تزيد من إحباط الأوكرانيين، وتخفِّض من الروح المعنوية للجنود على جبهات القتال، لا سيّما أنَّ هذه الرسالة جاءت في الوقت، الذي يستجدي فيه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الولايات المتحدة والحلفاء الآخرين على عدم التخلِّي عن أوكرانيا. ولأشهر أوقف المشرِّعون الجمهوريون ما يقرُب من 61 مليار دولار من المساعدات لأوكرانيا، وهو ما أثَّر على أداء الجيش الأوكراني، وأدَّى لنفاد الذخيرة على الجبهات الأمامية؛ وبالتالي إتاحة الفُرصة لتقدُّم الجيش الروسي في شرق أوكرانيا، والسيطرة على بعض المُدُن الإستراتيجية.

4. تشجيع لبوتين ولخصوم الولايات المتحدة: لن يكون هناك زعيمٌ أكثر رضًا بتصريحات ترامب من الرئيس بوتين، باعتبار أنَّ هذه التصريحات تُضعِف خصومه الغربيين. فبينما تواجه أوروباأكبر حرب برِّية منذ الحرب العالمية الثانية، فإنَّ تصريحات ترامب تُعَدُّ بمثابة رسالة مهمَّة لروسيا؛ والحديث الفضفاض عن «الناتو» يبدو الآن وكأنَّه يمنح بوتين ضوءًا أخضر، أو يغريه بمزيد من الهجمات لضمّ المزيد من الأراضي. ولا يتوقَّف الأمر عند بوتين، بل تغري عودة ترامب المرتقبة وتصريحاته المثيرة الصين كذلك، وتحالف أوسع من الدول المناهِضة للهيمنة الأمريكية، والتي تتحرَّك ضمن بعض الأُطر الجماعية كــ«بريكس» و«شنغهاي».

5. تحذير لكل الحُلفاء: يفكِّر ترامب بعقلية التاجر؛ لهذا ليس من المُستبعَد أن يربط المساعدات والشراكات الأمريكية في العالم بتحمُّل الأطراف الأخرى بنصيبها من التمويل، كما وعد، وهُنا يُشار إلى ما كتبه ترامب على منصَّته للتواصل الاجتماعي (Truth Social)، «أنَّ مساعدات التنمية الاقتصادية والمساعدات العسكرية للدول الأجنبية، وهي الدعامة الأساسية للإدارات الديمقراطية والجمهورية لعقود من الزمن، والتي تهدُف جزئيًا إلى تخفيف المعاناة ودعْم الأمن القومي الأمريكي في الخارج سيتِم استبدالها ببرنامج قروض يجب سدادها»، وأضاف بأحرف كبيرة: «لا ينبغي لنا أبدًا أن نُعطي أموالًا بعد الآن دون أمل في استردادها، أو دون ربطها بشروط»، وكتب أنَّه «يجب سداد أيّ قروض على الفور، إذا انقلب المتلقِّي ضدّنا، أو حقَّق ثراءً في وقتٍ ما في المستقبل».

ثالثًا: تداعيات مُحتمَلة وأسئلة مفتوحة

تُنذِر عودة ترامب بتداعيات لن تتوقَّف عند حدود العلاقة مع الدول الأوروبية، والعلاقات عبر الأطلسي، ويمكن تناول أبرز هذه التداعيات، على النحو الآتي:

1. انعزالية مُحتمَلة: إنَّ خفْض الولايات المتحدة المتوقَّع لمسؤولياتها وتراجُع دورها وانتشارها العسكري، في حالة قدوم ترامب، سيكون له تأثيرات ضخمة داخليًا وخارجيًا، ورُبّما تشهد فترة ولايته نزاعًا بين المؤسَّسات، أو مزيدًا من الصراعات؛ نتيجة ارتجال السياسات. فسلوك ترامب لا يمكن التنبُّؤ به، على حدِّ وصْف الرئيس بوتين، وهذا له مخاطره. لهذا تردَّد صدى المقطع الذي مدَّته 25 ثانية، من خطاب ترامب في جميع أنحاء العالم، فتصريحات ترامب تشير إلى احتمال عودة الولايات المتحدة للعُزلة الدولية، وعودة شعار «أمريكا أولًا»؛ وبالتالي تعزيز الانسحابات الأمريكية من العديد من المناطق. وهذا بدوره لن يُبقي التأثير عند حدود القارة الأوروبية، بل هو نهْجٌ سوف يعكس مفهوم المواجهة الإستراتيجية، الذي تبنَّته إدارة بايدن على الصعيد العالمي. وهُنا يكمُن السؤال: هل أصبح الانقسام الداخلي عميقًا، على هذا النحو، حتى إنَّه لم يستثنِ ركيزة أساسية من ركائز السياسة الخارجية الأمريكية وهي تحالفها مع أوروبا؟! وهل خطاب ترامب تجاه أوروبا يعكس نزعةً شخصية وتوظيفًا انتخابيًا، أم أنَّه يعكس مشاعر وقناعات أمريكية أعمق من ترامب ومن المُحتمَل أن تستمِرّ؟ ويظل السؤال الأكثر إثارةً هو: هل تُحِدّ العزلة بالفعل من التهديدات، التي تواجهها الولايات المتحدة؟!

2. اختبار القيادة ومواجهة التحدِّيات: كانت فترة ترامب الأولى شاهدةً على خلافات عميقة بين الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وقد نجح بايدن في إعادة تأهيل العلاقات بصورة ملحوظة، وقد عزَّزت حرب روسيا على أوكرانيا من هذا التحالف. وفي حال عودة ترامب إلى السُلطة، فإنَّ العلاقات ستدخل طورًا جديدًا من التدهور، وهو ما سيكون له تأثيراته على العديد من القضايا المشتركة، خصوصًا أنَّ ترامب هدَّد الأوروبيين بالتخلِّي عنهم، ولا شكَّ أنَّ الصدع عبر الأطلسي قد يطال انكشاف مظلَّة الحماية الأمريكية، وقد يذهب إلى غياب التنسيق بشأن العديد من القضايا الدولية، كما جرى بشأن الاتفاق النووي مع إيران، الذي تضرَّر نتيجة الخلافات، وأصبحت إيران في ظل ذلك أقرب إلى تخطِّي العتبة النووية. وهُنا سؤال آخر، وهو أيّ قضايا على هذا القدر من الأهمِّية قد تتأثَّر بتوتُّر العلاقات وغياب التنسيق، هل المواجهة مع روسيا في أوكرانيا، أم الأمن الأوروبي ككل في ظل طموح روسيا الجيوسياسي؟ أم المواجهة في شرق آسيا والمحيط الهندي، وهل تتحمَّل الولايات المتحدة مواجهة تحدِّيات على هذا النحو بمفردها دون «الناتو» ودون حلفائها الغربيين؟

3. تعزيز استقلالية أوروبا: بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، تراجعت طموحات بعض دول القارة العجوز، التي كانت تدعو إلى الاستقلال الإستراتيجي، لكن مع عودة ترامب المُحتمَلة، فإنَّ فكّ الارتباط وارد، وعودة نزعة الاستقلالية الأوروبية ستكون أكثر حدَّة، وقد تقود دول كفرنسا وألمانيا هذا الاتّجاه، وتتغلَّبان على خلافاتهما بشأن التمويل؛ وذلك لحماية مصالح أوروبا من تقلُّبات السياسة الأمريكية، خصوصًا أنَّ بعض الديمقراطيين لديهم تحفُّظات على العلاقة التقليدية عبر الأطلسي، وهو أمرٌ قد يعيد ترتيب وصياغة السياسات الأمنية والدفاعية على مستوى القارة ككُل. لكن السؤال هُنا: هل يمكن للقارة أن تستغنى عن الولايات المتحدة، وماذا يمكن أن تفعل إذا لم يمكن ذلك؟!، على الرغم من عدم الثقة الكاملة في القُدرات الأوروبية على مواجهة روسيا، لكن يبدو أنَّ الأوروبيين ليس لديهم ترف انتظار نتائج الانتخابات الأمريكية. لهذا، في الأيام التي تلت تصريحات ترامب، ناقش المسؤولون الأوروبيون سرًّا بناء تكملة لحلف شمال الأطلسي على مستوى القارة، والتي من شأنها أن تعمل بالتنسيق مع الضمانات الأمنية الأمريكية، لكنّها يمكن أن تكون أيضًا بمثابة بديل موثوق به، إذا تمَّ سحْب الضمانات الأمريكية.

4. تراجُع أمام الصين وروسيا: كانت إستراتيجية بايدن تقوم على أساس مواجهة الصين وروسيا، باعتبارهما القوَّتان، اللتين ترغبان في مراجعة النظام الدولي، والقضاء على الهيمنة الأمريكية، وذلك من خلال عدَّة دعائم، كان أهمَّها هو بناء تحالفات إستراتيجية فاعلة تدعم الهيمنة الغربية، وتحصر طموح المنافسين في أقاليمهم، وتحرمهم من تعزيز نفوذهم الجيوسياسي والاقتصادي على الساحة العالمية. لكن من شأن توجُّهات ترامب أن تعكس هذه الإستراتيجية، وتتيح مجالًا أوسع للصين وروسيا لتعزيز نفوذهما، واستغلال السياسة الارتجالية لترامب للدفع بمشروعاتهم وطموحاتهم على الساحة الدولية. ولا ننسى هُنا أن نُشير إلى أنَّ الشراكة عبر الأطلسي لا تشمل الساحة الأوروبية، فأوروبا شريك إستراتيجي في جهود الولايات المتحدة للحدِّ من طموح الصين الدولي، ومواجهة نزعة بوتين العدائية.

5. لا يعمل ترامب في فراغ: يجرى الأوروبيون تحرُّكات سياسية ومشاورات مع الجمهوريين والديمقراطيين؛ لجعل الأمر أكثر صعوبةً من الناحية السياسية بالنسبة لترامب في أن يتراجع تمامًا عن وعود الولايات المتحدة، ولا ننسى مصلحة الولايات المتحدة، التي قد تخفِّف من حدَّة هذا الخطاب، إذ يجب تسليط الضوء على حجم ما يشتريه الحُلفاء الأوروبيون من شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية، فضلًا عن هذا التحالف، الذي يضمن الهيمنة الغربية على النظام الدولي. كذلك، فإنَّ المؤسَّسات الأمريكية ذاتها قد تقاوم ارتجالية ترامب، وتضع أمامه العراقيل والضوابط، وهو أمرٌ قد يجعل من تصريحات ترامب مجرَّد دعاية انتخابية في نهاية الأمر.

خلاصة

في ولايته الأولى، كان ترامب يواجه ويُدير عالمًا أكثر استقرارًا وأقلّ منافسة، لكن هذه المرَّة لو فاز، فإنَّه سيكون في عالم تعُمُّه الفوضى والمنافسة الجيوسياسية المتصاعِدة. لهذا، يذهب البعض إلى القول إنَّ «الترامبية» قد تضع الهيمنة الأمريكية على الصعيد العالمي على بداية طريق مفتوح، فيما يظلّ هناك رأي آخر يرى أنَّه مهما كانت توجُّهات الرئيس، فإنَّ الديمقراطية ودولة المؤسَّسات قادرة على تصحيح مسارها بنفسها، وعلى كبْح جماح رئيس استثنائي كترامب. لكن في الواقع، فإنَّ الانقسام الأمريكي الداخلي العميق، الذي بات يجعل من قضايا الأمن القومي الأمريكي ومن موقعها العالمي رهانًا انتخابيًا ومسألةً حزبية مُتنازَع عليها، فضلًا عن التحوُّلات في البيئة الدولية، وتربُّص قُوى أخرى بالولايات المتحدة وبنقاط ضعفها، وبفقدان النظام الدولي جاذبيته ومصداقيته، وتجاوُز الولايات المتحدة للقواعد، التي أرستها منذ الحرب العالمية الثانية، كل هذه العوامل تجعل من أيّ ارتباك وارتجال لحظةً فاصلة، قد تغيِّر منحنى التاريخ، ليس في أوروبا، بل في العالم ككُل. فالانعزالية ستترك فراغًا سيسعى الأخرين لملئه، ورُبّما تشير التطوُّرات في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، وفي البيئات الدولية المختلفة، إلى التغيير، الذي يلوح في الأُفُق من بعيد.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير