على الرغم من أنَّ ألمانيا لا تزال ثابتة عند موقفها في الحفاظ على علاقاتها الدبلوماسية مع إيران، إلّا أنَّ برلين تقول إنَّ عمليات التجسس الإيرانية آخذة في الازدياد على أراضيها. يأتي هذا الكشف الاستخباراتي في أعقاب المساعي، التي تبذلها ألمانيا في سبيل رفع الضغوطات المفروضة بشكل تدريجي على طهران، في خضم تنامي حدّة المعارضة ضد النظام الإيراني.
استهدفت أحدث عمليات التجسس، التي قامت بها طهران في ألمانيا الإيرانيين، الذين يعيشون في المنفى، والجماعات الموالية لليهود، والنشاطات التي تنظمها المعارضة. أثارت وفاة مهسا أميني في سبتمبر 2022م العديد من الاحتجاجات في ألمانيا ضد النظام الإيراني، بما في ذلك مسيرة ضخمة ضمّت حوالي 80 ألف شخص في برلين في أكتوبر 2022م.
وقال منظِّمو الوقفة الاحتجاجية في برلين، إنَّ عدد المتظاهرين وصل إلى ما يقارب 100 ألف شخص، وطالب المحتجين من السلطات الألمانية بالضغط على الاتحاد الأوروبي؛ لتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية. وفي يناير 2023م، صوَّت البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة على توصية إلى الحكومات الأوروبية، بإدراج الحرس الثوري الإيراني على قائمة الاتحاد الأوروبي للمنظَّمات الإرهابية، إلّا أنَّ الاتحاد الأوروبي لم يتّخِذ قرارًا بهذا الخصوص بعد.
أكدت وزارة الخارجية الألمانية، أنّها لم تستبعد فكرة تصنيف الاتحاد الأوروبي للحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية. ومع ذلك، لا تزال برلين متردِّدة إزاء إدراج الحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية، على الرغم من أنَّ العضو في البرلمان الألماني نوربرت روتجن يؤكد وجود أدلّة كافية لتصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية. من ناحية أخرى، قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك، إنَّه لا يوجد دعوى قضائية لتبرير هذه الخطوة. وتدعم السلطات الألمانية أيضًا خطوة الاتحاد الأوروبي لرفض تصنيف الحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية، دون صدور حكم قضائي من إحدى دول الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت نفسه، تهدِّد إيران بمعاملة الدول الأوروبية وقواتها في الشرق الأوسط كإرهابيين، في حال صُنِّف الحرس الثوري الإيراني كمنظَّمة إرهابية في أوروبا. وفي ديسمبر 2022م، فرضت طهران عقوبات على سبع شخصيات ألمانية، شمِلت وزيرة الدفاع السابقة أنغريت كرامب كارينباور، ورئيسة البرلمان الألماني السابقة ريتا سوسموث؛ للتعبير عن استيائها إزاء تدهور العلاقات مع ألمانيا.
تأخذ ألمانيا التهديدات الإيرانية على محمل الجد، في حال قرَّرت إيران اتّخاذ أيّ خطوة مستقبلية. ويأتي المأزق الذي تمُرّ فيه ألمانيا، في الوقت الذي أحبطت فيه شرطة مكافحة الإرهاب البريطانية 15 مؤامرة ذات صلة بإيران مؤخًرًا، تشمِل خططًا للقيام بأعمال القتل والخطف. وحدَّد جهاز المخابرات المحلِّي الألماني 160 فردًا على صلة بكل من إيران والحرس الثوري الإيراني، وأشار الجهاز أيضًا إلى وجود شبكة تجسس إيرانية واسعة النطاق في ألمانيا.
وردًّا على ذلك، تتّخِذ برلين خطوات صغيرة، لكنها ثابتة في نفس الوقت، للتعبير عن استيائها من طهران. ولا ترى برلين ما يدعو لاستئناف المحادثات النووية الإيرانية، التي وصلت هي الأخرى إلى طريق مسدود؛ بسبب مواصلة طهران لتقدمها السريع في برنامجها النووي. وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية كريستوفر برجر، أنَّ تركيز بلاده مُنصَبٌّ على دعم الشعب الإيراني، وليس على المحادثات النووية، وذلك على الرغم ممّا تبذله واشنطن من جهود لإحياء الاتفاق النووي، من خلال الاستعانة بوسطاء خليجيين مثل عُمان وقطر.
في نوفمبر 2022م، عزمت ألمانيا ودول أخرى أعضاء في الاتحاد الأوروبي على توسيع العقوبات المفروضة على إيران، لتشمل على وجه الخصوص المنظَّمات والأفراد المرتبطين بممارسة العنف ضد المتظاهرين الإيرانيين. وفي وقت لاحق من نفس الشهر، أكدت السلطات الألمانية أنَّ برلين فرضت المزيد من العقوبات على إيران، إذ انتقد المستشار أولاف شولتز سؤالًا إلى السلطات الإيرانية بكل صراحةٍ متسائلًا: «ما هو نوع الحكومة التي تطلق النار على شعبها؟».
على الرغم من أنَّ ألمانيا هي أحد أكبر الشركاء التجاريين الأوروبيين لإيران، أوقفت برلين ائتمانيات التصدير والضمانات الاستثمارية للتجارة مع إيران، في وقت مبكر مطلع هذا العام. كما علَّقت برلين حوارًا ثنائيًا حول الطاقة مع طهران، وهو برنامج تدريب للمديرين، ومعارض تجارية، إلّا أنَّ ألمانيا زادت فقط الضمانات الاستثمارية بقيمة إجمالية وصلت إلى 123 مليون يورو لعدد قليل من المشاريع الصغيرة في إيران.
أسهمت دعوة مؤتمر ميونيخ للأمن لعام 2023م ((MSC، إلى شخصيات معارضة إيرانية، بما في ذلك ولي العهد السابق رضا بهلوي للتحدث على هامش المؤتمر، في إحراز مزيد من التقدُّم لتنفيذ أجندة برلين؛ لإظهار أنَّها تسعى للاستماع إلى الأصوات، التي تمثِّل الشعب الإيراني المعارض للنظام الإيراني الحاكم.
رفض مؤتمر ميونيخ للأمن توجيه دعوة لممثلي النظام الإيراني. وشدَّدت ممثِّلة ألمانيا في البرلمان الأوروبي هانا نيومان، على اتساع الهوة بين المجتمع الدولي وأصحاب السلطة في إيران؛ الأمر الذي انعكس على قرار عدم دعوة طهران للمشاركة في مؤتمر ميونيخ للأمن.
في سياق ما ذكرناه آنفًا، يتّجِه مسار العلاقات الألمانية الإيرانية إلى مزيد من التدهور؛ ما سيكبِّد طهران ثمنًا باهظًا، خصوصًا إذا أفضى إلى إجماع أوروبي ضد الحرس الثوري الإيراني، وضد النظام الإيراني. أصبحت إيران تخسر أصدقائها وحلفائها بسرعة، ويبدو أنَّ سياستها التقليدية المتمثِّلة بالاعتماد على الأوروبيين قد ولَّت؛ بسبب اتخاذ الدول الأوروبية موقفًا أكثر حزمًا منذ أن كُشِف النقاب عن مشاركة إيران عسكريًا إلى الجانب الروسي في الحرب الأوكرانية. بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ أكثر ما يقلق إيران هو الإجماع الأمريكي الأوروبي المتزايد على كيفية التعامل مع عدوانية وانتهاكات إيران، وهو مؤشِّر لا يبشِّر بالخير للنظام الإيراني. تاريخيًا، استخدمت إيران الأوروبيين ضد الولايات المتحدة، مستغلَّة بذلك خلافاتهم حول عدد من الملفات. ومع ذلك، ومع تنامي الغضب الأوروبي إزاء الأعمال العدوانية، التي تمارسها إيران على أراضيها، يتزايد الضغط ببطء، لكنه يتّخِذ مسارًا تصاعديًا ضد إيران. والوقت كفيل ليبدي لنا رد النظام الإيراني؛ هل سوف سيميل للمرونة في خضم الأزمات الهائلة التي يواجها، أم سينهار ويشنّ جولة جديدة من المواجهة؟ وبناءً على التجارب السابقة، فإنَّ النظام الإيراني لا يعرف سوى المواجهة والتصعيد للرد على الأزمات، وهو ما سيؤدِّي إلى مزيد من العزلة لإيران وتفاقُم أزماتها الداخلية.