تصاعد التعريفات والتوترات: تداعيات الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة على المدى البعيد

https://rasanah-iiis.org/?p=37432

فرضت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعريفاتٍ جمركية ضخمة جدًا في محاولة منها لتقليل العجز في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، وكانت هذه الخطوة متوقعة لاسيما أنها كانت من وعود الحملة الانتخابية للترامب، لكن سرعان ما أعلنت توقفًا مؤقتًا عنها لمدة 90 يومًا مع جميع الدول باستثناء الصين. وفي تصعيد متبادل، رفعت الصين التعريفات الجمركية على البضائع الأمريكية إلى 125% ردًا على التعريفات الجمركية الأمريكية التي وصلت إلى الآن إلى 145% على البضائع الصينية. وفي هذا السياق، تعكس التوترات المتصاعدة بين الجانبين  الصدع الكبير في التجارة الثنائية بين البلدين والذي سيكون له أثار جسيمة على التجارة العالمية في ظل تنامي المخاوف من العود إلى الكساد الكبير. ومن جانبها قللت بكين من أهمية التداعيات السلبية للرسوم الجمركية الأمريكية، مؤكدةً أنها لن تزيد الرسوم الجمركية على الولايات المتحدة أكثر، لكن يسعى الجانبان إلى استعراض قوتهما حيث تؤكد بكين أن لديها أدوات بديلة غير الرسوم الجمركية للرد على التصعيد الأمريكي. وفي السنوات الأخيرة ووسط تصاعد التوترات بين الجانبين سعت جميع الاقتصادات الكبرى لفك اعتمادهما اقتصاديًا على الصين والولايات المتحدة. وفي حال تفاقمت الأزمة، ستواجه الاقتصادات النامية المعتمدة على التصدير أضرارًا جسمية على رأسها «ضغوط تضخمية» طويلة الأجل في قطاعات مثل السلع الاستهلاكية والسيارات والتقنيات الحيوية.

وفور إعلان ترامب عن التعريفات الجمركية متعددة الجبهات، شهدت أسواق الأسهم العالمية انخفاضًا حادًا وسط تنامي قلق المستثمرين، وكانت الأسواق الآسيوية من بين الأكثر تضررًا حيث انخفض مؤشر هانغ سنغ في هونغ كونغ بنسبة 13.22٪، وانخفض مؤشر تايوان بنسبة 9.7٪ وانخفض مؤشر نيكاي الياباني بنسبة 7.83٪. وعانت الأسواق الصينية من خسائر كبيرة، حيث انخفض مؤشر« شنغهاي المركب» بنسبة 7.34٪ وانخفض مؤشر «شنتشن المركب» بنسبة 9.66٪. كما انخفض مؤشرا Sensex و Nifty 50 في الأسواق الهندية انخفاضًا حادًا. وفي الغرب، شهدت أسواق الأسهم الأمريكية تدهورًا كبيرًا، حيث انخفض مؤشر S&P 500 و NASDAQ و Dow بأكثر من 5٪، بينما انخفض مؤشر مؤشر «Euro Stoxx 50»  بنسبة 5.34٪،  تعكس هذه الانخفاضات المدوية موجة عالمية تتسم بتنامي قلق المستثمرين وعدم اليقين الناجم عن التعريفات الجمركية. التهمت هذه الموجة تريليونات من أسواق الأسهم وتسببت في ارتفاع عوائد السندات الأمريكية ارتفاعًا حادًا، مما أثار المخاوف بشأن ارتفاع تكاليف الاقتراض والتضخم.  وعلى ما يبدو أن هذه الموجة دقت جرس الإنذار لدى الرئيس ترامب مع تصاعد المخاوف من تداعيات سياسته في التعريفات الجمركية؛ فبعد إعلانه تعليق زيادات الرسوم الجمركية العالمية، ارتفعت الأسواق العالمية على الرغم من بقاء المستثمرين متوجسين في ظل استمرار التوترات بين الولايات المتحدة والصين. وفي الداخل الأمريكي،  أعرب العديد من المشرعين الأمريكيين عن قلقهم إزاء خطوة ترامب، كما انتقد بعض الجمهوريين البارزين، مثل مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون، قرار ترامب بزيادة الرسوم الجمركية.

وفي ظل الظروف الراهنة، فإن تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، إن لم يُحل عبر المفاوضات، سيُسفر عن عواقب تتراوح بين التضخم وتقلبات السوق، وضعف ثقة المستثمرين، واحتمال تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، كما ستتأثر قطاعات التصنيع، مثل السيارات والإلكترونيات، بشكل كبير لاعتمادها الكبير على سلاسل التوريد العابرة للحدود، والمواد الخام المستوردة، والقدرات التصنيعية للأسواق الآسيوية، وبالتالي فهي معرضة جدًا لأن تواجه زيادة الرسوم الجمركية والاضطرابات اللوجستية. علاوة على ذلك، حذّر الخبراء من أنه في حال مضي ترامب قدمًا في خطته لفرض الرسوم الجمركية، سيواجه المستهلكون الأمريكيون ارتفاعًا في الأسعار سيؤثر بشدة على الفئات المتوسطة والمنخفضة الدخل. ومن الناحية الاستراتيجية، تسعى سياسة ترامب الجمركية إلى خفض العجز التجاري، وتعزيز التصنيع المحلي، وتعزيز التوظيف داخل الولايات المتحدة، لكن يبدو أن هذا النهج يتجاهل قطاع الخدمات الذي بقي ركيزة أساسية للاقتصاد الأمريكي، وحافظ على فائض تجاري كبير.

ومن جانبها، حاولت الصين على مر السنين تنويع أسواقها وخفضت صادراتها إلى الولايات المتحدة من 21٪ في عام 2017 إلى ما يقرب من 14٪ في عام 2024. والجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تستورد كميات كبيرة من الأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية والأجهزة المنزلية ومكونات الطاقة النظيفة من الصين، إذ تعد الولايات المتحدة أكبر مستورد للبضائع الصينية. كما تستورد الولايات المتحدة ما يقرب من 70٪ على واردات المعادن الأرضية النادرة من الصين وهذه المعادن ضرورية جدًا في قطاعات مثل الدفاع والسيارات وأشباه الموصلات والطاقة المتجددة والإلكترونيات، حيث تستخدمها شركات أمريكية مثل إنتل ومايكروسوفت وأبل وتيسلا في صناعاتها. إذا تصاعدت التوترات، فقد تطبق الصين تدابير أكثر صرامة على ضوابط التصدير، وهو ما فعلته بكين بالفعل على العديد من المعادن الأرضية النادرة الرئيسية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تحتفظ بمخزونات استراتيجية لتعويض الاضطرابات والتقلبات قصيرة المدى، إلا أن الآثار طويلة المدى لا تزال مثيرة للقلق، لا سيما في ظل هيمنتها الساحقة في قطاع انتاج ومعالجة المعادن الأرضية النادرة عالميًا. يُسلّط التصعيد الحالي للتوترات، عند تحليله في ظل التنافس التكنولوجي الدائر، الضوء على كيف أصبح الترابط في التجارة العالمية ساحة صراع على الهيمنة الاستراتيجية، حيث تستخدم الولايات المتحدة والصين النفوذ الاقتصادي والتحكم في سلسلة التوريد. وفي وقت لاحق، أعفت إدارة ترامب منتجات تقنية رئيسية، مثل الهواتف الذكية والرقائق الإلكترونية، من الرسوم الجمركية الصينية الباهظة لتهدئة مخاوف الصناعة.

وفي ظل تصاعد التوترات، تعمل بكين بنشاط على تعزيز علاقاتها التجارية مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والاتحاد الأوروبي، بهدف تسريع تنويع أسواقها تحسبًا لتوترات مطولة مع الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، تُصوّر الصين نفسها مدافعًا عن معايير التجارة العالمية، كما يتضح من الشكوى التي قدمتها ضد الولايات المتحدة في منظمة التجارة العالمية. وتأمل الصين في حشد دعم دول أخرى، ولاسيما من دول الجنوب العالمي التي تُشاركها المخاوف بشأن نهج واشنطن التجاري الأحادي، والذي قد يُعيد تشكيل النظام الاقتصادي العالمي لصالحها. وفي هذه الأثناء، تُواصل الولايات المتحدة جهودها لعزل الصين اقتصاديًا من خلال السعي إلى اتفاقيات تجارية بديلة مع شركائها التجاريين، والحفاظ على موقف مُواجهة من خلال فرض رسوم جمركية مُستمرة ضدها.

ويتضح من الموقف التفاوضي للولايات المتحدة أن الواقع الجيوسياسي يخدم مصلحة الولايات المتحدة حيث ثمة عددٌ قليل من الدول مستعدة على معارضة الولايات المتحدة، لا سيما في ظل نهجها الصارم لذلك نجد أن معظم الدول تسعى إلى إبرام صفقات تجارية موائمة للولايات المتحدة. وتبقى الولايات المتحدة في نظر دول جنوب شرق آسيا —التي تواجه مخاوف أمنية متزايدة تجاه الصين والدول الأوروبية التي تواجه تهديدًا من روسيا— الشريك العسكري الأكثر موثوقية والقادر أيضًا على تقديم ضمانات أمنية موثوقة،ولكن لا تزال هذه الدول حذرة من الاعتماد المفرط على أي قوة بعينها، وستعزز هذا الاتجاه لاسيما مع  التحديات التي تتمخض من نهج إدارة ترامب الحمائي والتصادمي. لذا في ظل هذه المعطيات، نرى أن الحرب التجارية لا تقتصر على التعريفات الجمركية أو السياسة الاقتصادية فحسب، بل تتشابك مع اعتبارات استراتيجية أوسع، ناهيك أن نشوب حرب تجارية مطولة، ستتمخض عنه تداعيات على كل من الولايات المتحدة والصين، لذا سيسعى الجانبين في النهاية إلى خفض التصعيد، كما يتضح من المبادرات الأخيرة، وسيبحث الجانبان آليات لحل الخلافات، حتى في ظل الانتقادات العلنية.

وفي نهاية المطاف إن المخاوف الأمنية والمصالح الاقتصادية لا ينفصلان، لا سيما بالنسبة للدول التي تخوض غمار بيئة جيوسياسية معقدة يرسم معالمها تنافس القوى العظمى. وفي وقتٍ يتنامى فيه التشكيك في نهج «الليبرالية الجديد» القائل بأن الترابط الاقتصادي يقلل من احتمالية الصراع، تعطي إدارة ترامب الأولوية لمعالجة الاختلالات التجارية، وتلجأ إلى استخدام الرسوم الجمركية كأداة للضغط الدبلوماسي. وقد تُمثل انتخابات التجديد النصفي المقبلة في الولايات المتحدة استفتاءً على أجندة ترامب الحمائية، حينها سيظهر فيما إذا كان الناخبين الأمريكيين يدعمون النهج التصادمي لترامب أم لا، لا سيما وأن التوقعات تُشير إلى أن سياسة ترامب في فرض الرسوم الجمركية ستؤثر سلبًا على معدلات التضخم.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير