مع تجدُّد أعمال القتال بين أذربيجان وأرمينيا وظهور الانحياز التركي الفوري لجانب أذربيجان، ذهب البعض لأنْ تكون صيغة مستقبل التحالفات في منطقة القوقاز على نحو«2+2+1» أي أذربيجان وتركيا في مواجهة أرمينيا وإيران ثُمَّ روسيا بوصفهِ وسيطًا مُنحازًا لصالح أرمينيا؛ وذلك نظرًا لطبيعة التنافس التركي-الإيراني في منطقة القوقاز، وعدم رغبة إيران في ظهور أذربيجان القوية المُستعيدة لأراضيها والمتحالفة مع تركيا والمُتحكِّمة في أهم مشروعٍ لنقل الغاز والنِّفط من القوقاز لأوروبا وهو خط انابيب باكو – جيهان، لكنّ عددًا من المتغيرات أسهمت في عدم تحرُّك إيران نحو هذا التصور وتمسُّكها بإعلان الحياد على المستوى الرسمي مع إجراء تغييراتٍ حذرة في لغة الخطاب الصادر عنها بشأن الصراع.
على مستوى الخطاب الرسمي، كانت إيران تُعلن دعوتها لإنهاء الصراع عن طريق التفاوض، دون أن تُظهر الكثير من الحماسة لتأييد الموقف الأذربيجاني، وكانت تُحاول القيام بدور الوسيط، لكنّ روسيا كانت ترفض إشراك إيران بوصفها وسيطًا على المستوى الرسمي وتتمسك بتفرُّد مجموعة «مينسك» المنبثقة عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي بوصفها وسيطًا رسميًّا لحل الصراع بالشراكة مع كلﱟ من الولايات المتحدة وفرنسا.
في حين أنّ أذربيجان ترى أنّ الحياد الإيراني مشكوكٌ فيه؛ نظرًا للتعاون الاقتصادي الكبير الذي يجمعُ بين إيران وأرمينيا خاصةً بعد مد خط أنابيب للغاز بين البلدين في عام 2007م وقيام إيران بتنفيذ مشروعاتٍ للطرق داخل الأراضي الأذربيجانية المُحتلة لصالح أرمينيا.
ومع اندلاع الصراع من جديد في 27 من سبتمبر 2020م تلكأت إيران في إصدار أولى بياناتها بشأن القتال الدائر على عكس البيان التركي الذي صدر على الفور مؤكّدًا انحيازه لأذربيجان.
البيان الإيراني الأول صدر بنفس لغة البيانات الإيرانية في مرات القتال السابقة، من حيث الدعوة لإنهاء القتال ودعوة الأطراف إلى التفاوض. لكن سرعان ما تغير الخطاب الرسميّ الإيراني وبدأ الحديث عن حق أذربيجان في استعادة كامل أراضيها المُحتلة منذ عام 1994م وهو ما لم يكُن موجودًا من قبل.
ومِن الواضح أنّ هناك عددًا من المتغيرات أسهمت في تغير الخطاب الإيراني على النحو السابق توضيحه، لعل أبرزها: إعلان الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف شرطيْه لإيقاف القتال وهما: إرجاع أرمينيا للأراضي الأذربيجانية، وإشراك تركيا بوصفها وسيطًا في المفاوضات، ولا شكّ أنّ تلبية الشرط الثاني سوف يُهدِّد مكانة إيران في القوقاز ويُعمِّق التواجد التركي في المنطقة بوصفها منافسًا لإيران، وقد أرادت إيران بِمغازلة أذربيجان عبر بياناتها الرسمية أنْ تُقلِّل باكو من اعتراضها على إشراك إيران بوصفها وسيطًا إذا ما طُرِح إشراك وسطاء آخرين في ظل الرفض المُتوقّع من قِبل أرمينيا لإشراك تركيا بوصفها وسيطًا.
السبب الثاني هو: التخوف من اتساع تحرك الأقليَّة الأذرية داخل إيران والتي تُشكِّل 20% من عدد سكان إيران لدعم أذربيجان بعد تظاهر عددٍ من الأذريين أمام سفارة إيران في باكو مُردِّدين أنّ الفرس والروس والأرمن أعداء لنا نحن الأتراك، وقيام تظاهرات داخل بعض مدن إيران مثل تبريز وأردبيل ذات الأغلبيَّة الأذرية مُندِّدة بدعم إيران لأرمينيا وهو الأمر الذي يُهدِّد الأمن الداخلي لإيران ويُمكن أن يُسهم في تحريك الأقليَّة الأذرية الإيرانية ضد النظام الحاكم في طهران، وفي محاولةٍ لتسكين الأوضاع وتهدئة خاطر الأذريين الإيرانيين قام نواب المرشد في المحافظات الإيرانية الأربع ذات الأغلبية الأذرية وهي زنجان وأردبيل وأذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية بالإعلان عن مساندة إيران لأذربيجان، وصرحوا بأنّ الأراضي الإيرانية لم تُستخدم في تمرير السلاح الروسي لأرمينيا.
ويبدو أنّ فكرة تمرير السلاح الروسي لأرمينيا عبر إيران لها أسبابها؛ فروسيا ليس لها حدودٌ بريَّة مع أرمينيا ويفصلُ بينهما أراضي جمهورية جورجيا التي يربطها بأذربيجان مصالحُ اقتصادية كبيرة؛ نظرًا لمرور خطوط النِّفط والغاز الأذربيجاني عبر أراضيها إلى ميناء جيهان التركي، فضلًا عن الصراع الجورجي-الروسي على إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبي، في حين أنّ إيران تتصلُ مباشرةً بروسيا عن طريق بحر قزوين وتتصل بريًّا بأرمينيا عبر ممر موغري، ومع وجود تحالفٍ عسكري بين روسيا وإيران وسابقًا استخدام روسيا للمطارات الإيرانية في الحرب السورية تتعاظمُ الشكوك باستخدام الأراضي الإيرانية في مد أرمينيا بالسلاح.
السبب الثالث: والأكثر حضورًا في العقل الإيراني هو تأكد الأنباء الواردة باستعانة أذربيجان بميليشيات من السوريين نقلتهم تركيا إلى أراضي أذربيجان من كلﱟ من سوريا وليبيا، ولا شكّ أنّ هذه الميليشيات سوف تُشكِّل خطرًا داهمًا على إيران بعد توقف القتال، إذا لم تقُم تركيا بإعادتها إلى الأراضي السورية، فكثيًرا منها يرى أنّ العدو الأول لها هو إيران وليس روسيا وأرمينيا وربما حتى أكثر من بشار الأسد، ومِن ثَمَّ سوف تكتوي إيران بنفس نار سلاح الميليشيات الذي كرسته واستخدمتهُ في صراعات الشرق الأوسط. وبالتالي وجدت إيران أنّ إظهار التعاطف مع أذربيجان وحليفتها تركيا ربما يكون طوق النجاة لها في مواجهة الميليشيات السورية التي أصبحت تقفُ على مرمى حجر من الحدود الإيرانية، وعلى أتم استعداد لشنّ حرب عصابات داخل الأراضي الإيرانية على غرار ما قامت به ميليشيات «فاطميون» و«زينبيون» التي جلبتها إيران من أفغانستان وباكستان لمحاربة المعارضة في الأراضي السورية.
وإجمالًا نرى أنّ ضغوط الداخل المُتمثِّلة في موقف الأقليَّة الأذرية الإيرانية من الصراع الأذربيجاني الأرميني، ورغبة أذربيجان في إشراك تركيا بوصفها وسيطًا دائمًا في المفاوضات، والتخوف من تواجد الميليشيات السورية بالقرب من أراضيها هي التي دفعت إيران إلى تغيير لغة خطابها الرسميّ وإبداء تضامنٍ أكثر من ذي قبل مع أذربيجان.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد