تعاظم استراتيجية الردع السعودي إزاء التهديدات الإيرانية

https://rasanah-iiis.org/?p=11177

بواسطةفراس إلياس

تُعَدّ السعوديَّة وإيران خصمين إقليميين في الشرق الأوسط، إذ شكَّل عام 2003 البداية الحقيقية للمواجهة المباشرة بينهما في الشرق الأوسط، على الرغم من أن الصراع البينيّ يمتدّ إلى فترات زمنية متباعدة، إلا أن المواجهة الصريحة بدأت من التاريخ أعلاه، ولا يختلف أحد على أن الدولتين تمثلان ركيزتين للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، إلا أن التغيُّر الكبير الذي أصاب المشهد العامّ للشرق الأوسط منذ احتلال العراق، وضع المنطقة العربية، تحديدًا المملكة العربية السعوديَّة، أمام تحديات كبرى، وكان من أبرزها:
١- تمكن إيران من ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي خلَّفه الاحتلال الأمريكيّ في العراق.
٢- تمكن إيران من توظيف الجماعات والمليشيات المسلَّحة لخدمة سياساتها في المنطقة.
٣- تمكن إيران من تحويل “الشيعة” من جماعات دينية واجتماعية، إلى أحزاب وحركات سياسية وعسكرية، تخدم أجندتها الطائفية في المنطقة.
٤- تمكن إيران من تحريك الجماعات “الشيعية” في مختلف دول الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط، للوقوف في وجه أي مشروع سياسي وأمني للحفاظ على الأمن القومي العربي، والخليجي تحديدًا.
٥- نجاح إيران في توظيف التردُّد والفشل الذي اعترى السياسات الأمريكيَّة في الشرق الأوسط، خصوصًا في فترة حكم باراك أوباما.
الأهمّ من كل ذلك هو إجبار القوى الدولية، وعلى رأسها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، على الاعتراف بالبرنامج النووي الإيرانيّ، وتحديدًا من خلال التوقيع على “الاتِّفاق النووي” في أبريل 2015، و”خطة العمل المشتركة الشاملة” في يوليو 2015، وهو ما اعتبرته المملكة العربية السعوديَّة تحدِّيًا لا يمكن القبول به، خصوصًا أنه إلى جانب التنازلات التي قدمتها إيران للقوى الكبرى في هذا الاتِّفاق، إلا أنها في المقابل حصلت على ضمانات من هذه القوى بالاحتفاظ بمناطق نفوذها في العراق وسوريا واليمن، بل وعملت على توسيع هذا النفوذ أيضًا، وهو ما دفع المملكة العربية السعوديَّة إلى اتخاذ خيار المواجهة المباشرة مع إيران ووكلائها في المنطقة، فقد كانت عاصفة الحزام التي قادتها السعوديَّة في اليمن بتاريخ 21 أبريل 2015، ثم التحالف الإسلامي ضدّ الإرهاب في 15 ديسمبر 2015، والقمة العربية-الإسلامية-الأمريكيَّة في الفترة 20-21 مايو 2017، وما لحقها من تطورات على الساحات العراقية واللبنانية والفلسطينية واليمنية والسورية والقطرية، البداية العملية لتحقيق التوازن مع إيران، واحتوائها في مناطق نفوذها.

مغزى الرسالة السعوديَّة
في 15/03/2018 شبَّه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، المرشد الإيرانيّ علي خامنئي بـ”أدولف هتلر الجديد”، وقال: “إن السعوديَّة ستطوِّر بسرعة قنبلة نووية، إذا فعلت إيران الشيء نفسه”، وأضاف في مقابلة أجراها من قناة (CBS) الأمريكيَّة أن “السعوديَّة لا تريد الحصول على أي قنبلة نووية، لكن من دون شك إذا طورت إيران قنبلة نووية فسنحذو حذوها في أسرع وقت ممكن”.
وفي استعراض عامّ للمقابلة التي نُشرت يوم الخميس 15/03/2018، قال الأمير محمد بن سلمان: “إن موقف المرشد الإيرانيّ يشبه هتلر في أثناء نهوض ألمانيا النازية، فهو يريد إنشاء مشروعه الخاص في الشرق الأوسط، مثل هتلر الذي أراد التوسُّع في أوروبا، في ذلك الوقت عديد من الدول حول العالَم وفي أوروبا لم تدرك مدى خطورة هتلر حتى حدث ما حدث، ونحن لا نريد أن نرى نفس الأحداث تتكرر في الشرق الأوسط”.
وعندما سُئل الأمير محمد بن سلمان عما إذا كان التنافس السعوديّ مع إيران منذ قرون، هو أحد العوامل في الصدع الحالي بين البلدين، أشار إلى أن “إيران ليست منافسة للسعوديَّة، جيشها ليس من بين الجيوش الخمسة الأوائل في العالَم الإسلامي، فضلًا عن أن الاقتصاد السعوديّ أكبر من الاقتصاد الإيرانيّ، وإيران بعيدة عن أن تكون مساوية للسعوديَّة”.

ردود فعل أوَّليَّة أمريكيَّة
في ردّ فعل أوَّلي، رأى الكونغرس الأمريكيّ أن من شأن هذه التصريحات أن تشجِّع القوى الإقليمية الأخرى التي تتشارك العداء مع إيران، فتخطو نفس الخطوة السعوديَّة، وفي المقابل أيضًا قال السيناتور الديمقراطي بيل نيلسون إن “تطوير إيران مثل هذا السلاح، سيؤدِّي إلى انتشاره في المنطقة”، مضيفًا: “نعتقد بإمكانية أن نرى مجموعة من دول الخليج تستخدم طاقاتها لتطوير سلاح نووي، ولهذا السبب من الأهمِّيَّة بمكان أن لا تطوِّر إيران سلاحًا نوويًّا، وهذا سبب إضافي للحفاظ على الاتِّفاقية النووية مع إيران، لأنها تضمن -ما لم تخترق إيران الاتِّفاق- لمدة 10-12 سنة أخرى، أنها لن تمتلك سلاحًا نوويًّا… وبمجرد أن تحصل هذه الدول كـالمملكة العربية السعوديَّة والإمارات العربية المتَّحدة وغيرها على الأسلحة النووية، فإن ذلك قد يكون مخاطرة كبيرة، فالوضع مرتبك للغاية”.
وقال الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إنه لن يعيد التصديق على اتِّفاقية 2015 بين إيران والولايات المتَّحدة وخمس قوى عالَمية أخرى، معتبرًا أنها متساهلة أكثر من اللازم، وأن إيران انتهكت أجزاءً من الصفقة، خصوصًا أن برنامجها النووي لا يزال يشكِّل تهديدًا حقيقيًّا للمنطقة، إلى جانب تطوير إيران وسائل تهديد أخرى لدول المنطقة، على رأسها الصواريخ الباليستية البعيدة المدى، كما أن إيران لم تكتفِ بعملية التصنيع والتطوير، بل أرسلت هذه الأسلحة والصواريخ المتطورة إلى حلفائها، وهو ما يشكِّل تهديدات مضاعفة للأمن الإقليمي والدولي.
وقال السيناتور الجمهوري ديفيد بيردو أيضًا: “لدينا رئيس الآن (دونالد ترامب) سيتعامل مع الأزمة الإيرانيَّة بشكل مختلف قليلًا، والعالَم يعرف ذلك، ولقد رأيت الكونغرس يفرض مزيدًا من العقوبات على إيران، بسبب أنشطتها النووية، لذلك نتبع نهجًا موحَّدًا تجاه إيران، بقية العالَم تدعمنا حتى الآن، وأعتقد أننا سنشهد مزيدًا من الضغوط تحت قيادة وزير الخارجية الأمريكيّ الجديد مايك بومبيو”.

زيارة مرتقبة إلى الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة
من المقرر أن تستضيف الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة الأمير محمد بن سلمان في 20 مارس الحالي، إذ تأتي بعد زيارة ناجحة قام بها إلى بريطانيا في 10 مارس 2018، أسفرت عن توقيع عديد من الاتِّفاقيات والشراكات الاستراتيجية، في المجالات العسكرية والاقتصادية والأمنية، كما تَخلَّلها دعم واضح من الحكومة البريطانية للتوجُّهات السياسية السعوديَّة الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، التي يأتي على رأسها دعمها القوي لمشروع رؤية المملكة لعام 2030، فضلًا عن دعمها للجهود السعوديَّة في مكافحة الإرهاب، من حيث التمويل والفكر والإعلام والتخطيط العسكري واللوجيتسي، إلى جانب تقديرها بأن تكون أول شريك استراتيجي للتحالف الإسلامي ضدّ الإرهاب بقيادة السعوديَّة، بالإضافة إلى إعلانها عن تقديم الدعم الكبير للمركز الدولي لمكافحة تمويل الإرهاب، الذي أسَّسَته المملكة العربية السعوديَّة على هامش القمة العربية الإسلامية الأمريكيَّة في الرياض في مايو 2017.
ففي وقت سابق من هذه الشهر استأنف المسؤولون في المملكة العربية السعوديَّة والولايات المتَّحدة، المحادثات الدبلوماسية بشأن صفقة استثمارية لبناء 16 مفاعلًا نوويًّا في المملكة، على مدى الـ20-25 سنة المقبلة، بتكلفة تزيد على 80 مليار دولار، مع تأكيد أن هذه المحادثات كانت توقفت في ظلّ إدارة أوباما السابقة، بسبب رفض المملكة العربية السعوديَّة قبول “المعيار الذهبي”، لعدم الانتشار في واشنطن لصفقات التعاون النووي المدني، إذ يحظر هذا المعيار متلقي التكنولوجيا النووية من تخصيب اليورانيوم، أو إعادة معالجة البلوتونيوم، الذي يمكن استخدامه لإنتاج الوقود للأسلحة النووية.
مع ذلك، تفيد التقارير بأن الإدارة الأمريكيَّة الجديدة تفكر في الاستسلام لإصرار المملكة العربية السعوديَّة على تجاوز هذا المعيار، من أجل منع المتعاقدين المحتمَلين من الدول المنافسة، بما في ذلك روسيا الاتحادية والصين، من الفوز بصفقة مُربِحة مع السعوديَّة، لأنه قبل زيارة الأمير محمد بن سلمان لواشنطن، تَبَنَّت الحكومة السعوديَّة سياسة وطنية لبرنامج نووي “سِلْمِي”، ولعل تصريحات الأمير محمد بن سلمان تأتي وسط تحذيرات من أن رفض الرياض فَرْضَ قيود على تخصيب اليورانيوم واستخراج البلوتونيوم، يعني أنها تسعى للحفاظ على خيار الأسلحة النووية مفتوحًا، خصوصًا أن إيران لا تزال غير واضحة في نياتها النووية، كما أنها لا تزال تحتفظ بقاعدة نووية تؤهِّلها لإعادة تخصيب اليورانيوم خلال 48 ساعة، وهو ما يعلنه تكرارًا قادة الحرس الثوري الإيرانيّ.

ردّ الفعل الإيرانيّ
توالت الردود الإيرانيَّة مباشرة عقب تصريحات الأمير محمد بن سلمان، بخصوص التهديد المشروط لامتلاك السلاح النووي، إذ قال رئيس لجنة الأمن القومي الإيرانيّ أبو الفضل حسن بيغي، إن “إيران ولا في مرحلة سعت للحصول على السلاح النووي، ولن تسعى، نحن نطور قدراتنا الدفاعية لتكون قادرة على الدفاع عن بلادنا، وكي نخلق حالة من التوازن في المنطقة”. عليه يمكن القول إن الثابت الاستراتيجي الوحيد هو أن تصريحات الأمير محمد بن سلمان تَمكَّنَت من زرع قناعة لدى صانع القرار في إيران بأن السعوديَّة قادرة على تحقيق هذا التهديد، أي إن صانع القرار في المملكة العربية السعوديَّة تَمكَّن من زرع صدقية الردع الاستراتيجي في النسق العقَدي الإيرانيّ، وتحديدًا بمدى قدرة المملكة العربية السعوديَّة على تحقيق هذا التهديد، والمواءمة بين القول والفعل، وهي أعلى مراحل التهديد في الاستراتيجية، خصوصًا أن إيران تدرك أن السعوديَّة قد سبق لها أن حققت صدقية أفعالها في مسارح عسكرية أخرى في الشرق الأوسط، والحديث هنا عن اليمن.

الضرورات الوطنية السعوديَّة:
تنطلق قناعة صانع القرار الإيرانيّ بإمكانية السعوديَّة في تحقيق طموحاتها النووية، من عدة ضرورات استراتيجية:
١- توافر البنية التحتية.
٢- توافر البنية العلمية والتكنولوجية والتقنية.
٣- قرار سياسي سعوديّ واضح.
٤- حاجة المملكة العربية السعوديَّة إلى مصادر الطاقة البديلة، خصوصًا أن كثيرًا من الدراسات الطاقوية تَحدَّثت عن أن المملكة العربية السعوديَّة تستهلك كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية والنِّفْط، ومِن ثَمَّ يمكن القول إن مشروع رؤية الاستراتيجي تأتي في هذا الإطار أيضًا.
٥- تهديدات إيرانيَّة مؤكّدة، سواء النووية منها والباليسيتة.

خريطة توضح التطوُّر المحتمل في منظومة الصواريخ الباليستية الإيرانيَّة اعتبارًا من النصف الثاني من 2018

خارطة توضح المنشآت النووية الإيرانيَّة

6- طموح إقليمي متصاعد في المواجهة مع إيران، سواء في العراق وسوريا واليمن وغيرها.
7- توافق إقليمي ودولي “أمريكيّ-بريطاني” على مشروعية السياسات السعوديَّة المتبعة.
8- إجماع إقليمي من الجامعة العربية على تأييد الإجراءات السعوديَّة في المواجهة مع إيران ووكلائها.
9- والأهمّ من كل ما تَقدَّم هو إدراك المملكة العربية السعوديَّة أنه ينبغي وجود بدائل ردعية توقف طموحات إيران النووية، خصوصًا في حالة إلغاء الاتِّفاق النووي خلال الأيام القليلة القادمة، وفي ظلّ غياب أي بديل سياسي وأمني حتى الآن.

ختامًا:
لا بد من القول إن خطوات تعظيم الدور السعوديّ في الشرق الأوسط، لموازنة النفوذ الإيرانيّ المتصاعد، بدأت منذ اللحظات الأولى لتولِّي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم، إذ يمكن القول إن السعوديَّة اليوم وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع إيران، خصوصًا أنها القوة العربية الوحيدة التي يمكن أن توازن النفوذ الإيرانيّ المتعاظم في المنطقة، واللافت للانتباه أن السعوديَّة أخذت تحسب الخطوات الإيرانيَّة جيدًا، سواءً على مستوى تحليل الشخصيَّة السياسية الإيرانيَّة، أو على صعيد الاستراتيجيات المتبعة، فعلى صعيد تحليل الشخصيَّة نجد أن التصريحات الرسميَّة السعوديَّة تأتي موازية لأي خطوة إيرانيَّة، فتصريحات روحاني في أثناء زيارته للهند، القوة النووية في آسيا، في يوم 17 شباط 2018، وقوله إن علاقات إيران مع الهند تشبه علاقات السعوديَّة مع باكستان، فيها دلالات نووية كبيرة! خصوصًا عندما نتذكر أن الأمير محمد بن سلمان قد صرَّح في 15 مارس 2018 بأن إيران إذ أقدمت على إنتاج قنبلة نووية، فإن السعوديَّة لن تقف مكتوفة الأيدي، أما على صعيد الاستراتيجيات المتبعة فإن المملكة العربية السعوديَّة أخذت تواجه إيران في عديد من الساحات في الشرق الأوسط، وهو ما يعني أن مَدَيَات الصراع سوف تأخذ أبعادًا أمنية وعسكرية واستخبارية أوسع خلال المرحلة القادمة.

فراس إلياس
فراس إلياس
باحث في السياسات والاستراتيجيات الدولية