إن تغيير الجماعات المرجعية واستبدال الرموز هو أحد العناصر التي يمكن على أساسها تقييم التحوُّلات الجارية في المجتمع الإيرانيّ، وفي الحقيقة يُعتبر ما طرأ على التكنولوجيا من تطوُّر أهمَّ العوامل المحرّكة والدوافع في تغيير النماذج القِيمِيَّة، ويكمن سرّ هذا التغيير الاجتماعي في الشبكات الاجتماعية التي أصبحت في هذه الأيام المجال الأساسي للحوارات الدائرة بين المواطنين الإيرانيّين.
زمن الجماعات المرجعية التقليدية
لم يمضِ زمن طويل منذ كانت الجماعات المرجعية تشتمل على أشخاص ومؤسَّسات محدَّدة، وتتجلى الصورة التقليدية لهذه الجماعات في المرجعيات الدينية والواعظين، أمَّا النسخة المتطورة منها فقد كانت تضمّ الشخصيات العائدة من الغرب وأساتذة وطلاب الجامعات، أما المستوى الثالث من هذه الجماعات فكان يشمل الفنانين والرياضيين كجماعتين لهما شعبيتهما الاجتماعية، وتُسهِمان في تحفيز الحسّ الوطني.
تُثبت التحوُّلات السياسية في إيران المعاصرة أن كل واحدة من هذه الجماعات المرجعية لعبت دورًا أساسيًّا في توجيه الرأي العامّ وتغييره، ونتج عن تأثيرها تحوُّلات أساسية في المجتمع.
لقد كان دور العائدين من الغرب بارزًا في عملية نشر الأفكار المتحررة والثورة الدستورية، وهم مَن أسَّس للدستور الجديد في إيران، ونظموا عمل مؤسَّساتٍ مثل البرلمان. أما المؤسَّسة الدينية آنذاك، فعلى الرغم من أنها مؤسَّسة متجذّرة، فإنها لم تتمكن من المقاومة أمام موجة التجدُّد، وتَأخَّر دورها الأساسي حتى قيام ثورة 1979، ومع ذلك فلا يزال جدل كبير دائرًا بخصوص ما إذا كان الدور الذي لعبه رجال الدين في ثورة 1979 أساسيًّا، أم أنهم سرقوا الثورة من أصحابها، ومع ذلك لا يمكن إنكار أنّ كاريزما الخميني وتأثير كلام رجال الدين كان لهما تأثيرهما في نجاح الثورة، فقد تَمكَّنوا من البقاء إلى ما قبل انتصار الثورة بسبب انتشارهم، والمعونات المالية التي كانوا يتلقونها من التجار والناس العاديين، بالطبع دعم مالي تحت تسميات مثل “حصَّة الإمام” و”الخُمس” و”الزكاة”.
زاد انتصار الثورة ثروة رجال الدين وقدرتهم، أما عوائدهم من بيع النِّفْط فجعلتهم يستخدمون جميع الأدوات الممكنة من أجل فرض نفوذهم الاجتماعي، لكن النتيجة جاءت عكس ما يشتهون، فقد أصبحت العلاقة بين ثروتهم وقدرتهم من جهة ونفوذهم الاجتماعي من جهة أخرى علاقة عكسية، وأصبح يُنظر إليهم، بخاصَّة من قبل الطبقة المتوسطة في المجتمع الإيرانيّ، على أنهم مجموعة محتكرة وسلطوية ومتحجرة تنهب الأموال العامَّة بذريعة المذهب، مجموعة لم ينتج عن حكمها سوى مجتمع فقير.
ربيع المتنورين القصير
أدَّت ولادة تيَّار متنوّر من رحم المؤسَّسة الدينية، ووصوله إلى مراكز مهمَّة في السُّلْطة بعد انتخابات 1997، إلى أن يصبح هذا التيَّار جماعة مرجعية في أنظار المواطنين من أنصار التغيير، ولم يكُن محمد خاتمي، كرمز لهذا التيَّار التنويري، هو المتنفّع الوحيد من هذا الحماس الاجتماعي، فقد أصبح “حَوارِيُّوه” والصحفيون الذين كانوا يتخذون من منابرهم خنادق للدفاع عن المجتمع المدني ومهاجمة المؤسَّسة الدينية التقليدية، أيضًا محبوبي الشريحة الاجتماعية الراغبة في التجديد، لكنّ مصير التيَّار المتنوّر في السُّلْطة لم يكُن النجاح، فقد بدأ خريف هذا التيَّار منذ يونيو 2005، أي مع وصول أحمدي نجاد إلى الرئاسة، واكتملت لوحته مع أحداث 2009 الدامية.
تَحوَّل إحباط الجيل الذي كان يعلّق آماله على هذا التيَّار المتنوّر إلى يأس، وعلى الرّغم من أن مير حسين موسوي ومهدي كروبي أصبحا منذ اليوم الذي تلا انتخابات2009 رمزًا للحرية والعدالة في أعيُن أنصارهما، بعد احتجاجهما على نتيجة الانتخابات، فإن حركتهما التي نتجت عن هذه الاحتجاجات، أي الحركة الخضراء، لم تملك بنية وهيكلية تمكّنها من لعب دور المرجع.
لقد كانت سنوات القمع المليئة بالضغوط والاضطراب مظلمة لدرجة أنها جعلت كثيرًا من الراديكاليين يرضخون للتصويت في انتخابات 2013 الرئاسية لشخصيَّة أقلّ تَشدُّدًا، أي حسن روحاني، وتكررت العملية نفسها في انتخابات مايو 2017، وحصل فيها روحاني على الأصوات التي جعلته يحسم النتيجة لصالحه من أشخاص قبلوا بالتصويت لشخصيَّة معتدلة مثله بسبب يأسهم من حدوث تغيير أساسي في الأوضاع.
حان دور “المؤثِّرين”
من وجهة نظر بعض علماء الاجتماع أصبحت الأوضاع الحالية المسيطرة على المجتمع الإيرانيّ أوضاعًا “طاردة للسياسة”، وأوضاعًا منفعلة وتقليلية لا يُفترض لأي جماعة فيها أن تلعب دور القوة المحرِّكة للتغييرات الاجتماعية، فلم يعُد هناك من الأساس ما يُسمى بالحركة الطلابية، أمَّا المتنوّرون الدينيون الذين لعبوا الدور الأساسي عام 1997 فلا يزالون يُقمَعون، ولا يُعطَون الفرصة للظهور، والمنفذ الوحيد المُتبقي هو هذه الشبكات الاجتماعية التي تعكس الحالة العامَّة، لكن في شكلها المجازيّ.
القضية هي أنّ المشاهير الذين عُرفوا فجأة، هم مَن شكّل الجماعة المرجعية التي كوّنتها الشبكات الاجتماعية، وهم أشخاص لا يبرعون في شيء سوى إدماج مقاطع الفيديو أو افتعال القضايا الجانبية التي تفيد وسائل الإعلام الصفراء، وأحيانًا يكون لديهم ملايين المتابعين، ويمكّنهم ذلك من إثارة موجة عارمة تجعل حتى وسائل إعلام التيَّار الأساسي تتبعهم.
إنّ تَصرُّفات واستعراضات هؤلاء المشاهير المجازيين اليومية هي الشغل الشاغل لعامة الناس، فأطلق بعضهم على نفسه لقب “المؤثّر”، وهو مصطلح خاصّ بالفضاء المجازيّ، ويُطلَق على من يملكون عددًا كبيرًا من المُتابعين، يحوّلهم إلى أشخاص يحملون علامة تجارية، واليوم هؤلاء المؤثِّرون احتلُّوا إلى حدٍّ كبير مكان الجماعات المرجعية التقليدية من أمثال رجال الدين والجامعات والرياضيين، إنهم اليوم “يشترون” الأنظار على مواقع الشبكات الاجتماعية كآلهة للاستعراض، وبذلك يُبقون سوقهم مزدهرة.
هذا الزّمن هو زمن سيطرة هؤلاء، لهذا نجد أن السياسيين المخضرمين عند طرح موضوع للنقاش على مواقع الشبكات الاجتماعية، يحصلون على قِلَّة من المتابعين مقارنة بهؤلاء المشاهير المجازيين، وعندها يُدركون أن الزّمنَ ليس زمنهم.
مادة مترجمة عن موقع زيتون
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز