أجرى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زيارة لجمهورية الصين الشعبية في 14 فبراير 2023م، استمرت لمدة ثلاثة أيام، التقى خلالها، والوفد المرافق له المكون من وزراء النفط والمالية والصناعة والاقتصاد والزراعة والطرق والإسكان ومحافظ البنك المركزي والخارجية وكبير المفاوضين الإيرانيين، الرئيس الصيني شي جين بينغ وكبار المسؤولين الصينيين الاقتصاديين والسياسيين، إلى جانب الاجتماع برجال أعمال صينيين.
حملت الزيارة عدة أهداف اقتصادية وسياسية يرنو كلا البلدين إلى تحقيقها، واتضحت ملامحها في أن غالبية الوفد المرافق لرئيسي من الاقتصاديين الإيرانيين، ولذلك سوف يناقش «تقدير الموقف» هذا مدى أهمية الزيارة من حيث توقيتها ودلالاتها، ثم يتطرق إلى أبرز أهداف وأبعاد الزيارة للصين اقتصاديًّا وسياسيًّا، ثم يحلل نتائجها للوقوف على مدى استجابة بكين للأهداف والمطالب الإيرانية وأبعادها.
أولًا: الظروف المحيطة بالزيارة وتوقيتها
بدايةً، تشير الأوساط الإعلامية العالمية كلها إلى أن الزيارة أُجريت بدعوة من الرئيس الصيني شي جين بينغ قدمها إلى نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي، ولم تُشِر إلى جدولتها، إذ إنّ الزيارات المجدولة يجري الإعلان عنها قبل فترة كافية تصل إلى أشهر أحيانًا للترتيب لها، وتحضير ملفات النقاش ومذكرات التفاهم والاتفاقيات التي سيجري توقيعها من الجانبين، وهو ما لم يجرِ في الزيارة المعنية، بل أعلن عنها بشكل مفاجئ، ما يحمل دلالات بالغة عند تقييم الزيارة ونتائجها. وفي ما يلي أبرز ملامح الظروف المحيطة بالزيارة وتوقيتها:
1. الفتور في العلاقات بين الصين وإيران:
تأتي الزيارة فيما تشهد العلاقات الصينية-الإيرانية فتورًا على خلفية الزيارة التاريخية التي أجراها الرئيس الصيني للمملكة العربية السعودية خلال شهر ديسمبر 2022م، والتي أرست آفاق عصر جديد بين الصين والمملكة بتحولات إستراتيجية في العلاقات بين البلدين، وأسفرت عن نتائج ذات أبعاد إستراتيجية أربكت طهران، ولذلك قد تريد بكين طمأنة طهران بأنها شريك مهمّ ينبغي عليه المساهمة في العمل على تحقيق الأمن والاستقرار في ممرات الملاحة والتجارة الدولية في الشرق الأوسط، وهي المنطقة الإستراتيجية للصين الصاعدة بقوة على الساحة الدولية على نحو يوفر الحماية لعبور السلع الإستراتيجية وللتجارة الدولية، لا سيما التجارة الصينية الهائلة المارة عبرها.
بدا امتعاض إيران من الصين جراء ما تضمنه البيان الختامي لـ«القمة الخليجية-الصينية»، إذ طالب بعض بنوده إيران بوقف الأنشطة المزعزعة للأمن والاستقرار الإقليمي، وحملها مسؤولية الصراعات الإقليمية وانتشار العنف والجماعات الطائفية والإرهابية، وتهديد أمن وسلامة الملاحة والتجارة الدولية. وجرى تأكيد ضرورة أن تتصدى الصين ودول الخليج لمهددات طرق الملاحة والتجارة الدولية، والتصدي أيضًا للأنشطة الطائفية والإرهابية، والعمل على إحباط كل سبل الدعم المقدم للجماعات الطائفية والأذرع المسلحة غير الشرعية، والتعاون الخليجي-الصيني في مجالات منع انتشار الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، مع العمل على ضمان سلامة طرق الملاحة الدولية وحماية المنشآت النفطية.
وتعاظم السخط الإيراني من بكين جراء ما ورد في نص البيان الختامي أيضًا، بدعم المساعي الإماراتية للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى)، عبر المسار الدبلوماسي وفق قواعد القانون الدولي والشرعية الدولية، وهو ما تعترض عليه إيران وتعتبر الجزر الثلاث جزءًا لا يتجزأ من الأراضي والسيادة الإيرانية لا يقبل التفاوض، وهو ما دفعها لاستدعاء السفير الصيني في طهران وأبلغته استياءها الشديد مما تضمنه بيان القمة، مؤكدة تبعية الجزر الثلاث للسيادة الإيرانية، ومعتبرة ما جاء بالبيان تهمًا باطلة وتكرارًا لسياسة «إيرانوفوبيا».
2. الظروف الضاغطة داخليًّا ودوليًّا:
أتت الزيارة وكلتا الدولتين المهمتين في الشرق الآسيوي والشرق الأوسط تشهدان ظروفًا داخلية وإقليمية ودولية حساسة للغاية، وعلاقات متوترة مع الغرب تجاه القضايا الدولية العالقة، وتزايد الرغبة الصينية-الإيرانية في تقوية وتعزيز قوة المعسكر (الصيني-الروسي-الإيراني) المجابة للمعسكر الغربي، ومزيد من تحصين هذا المعسكر المناوئ لسياسات وإملاءات الولايات المتحدة على الصعيد العالمي، إذ تتطابق رؤية الدول الثلاث الصين وروسيا وإيران في إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب يُفقِد الولايات المتحدة هيمنتها المنفردة على النظام الدولي.
بالنسبة إلى إيران، أتت الزيارة في توقيت حساس للغاية، اقتصاديًّا، على المستوى الشعبي والحكومي على حد السواء بسبب اجتماع عدة مؤثرات خارجية وداخلية فاقمت الوضع الاقتصادي الإيراني، تشمل العقوبات الأمريكية وتداعيات «كورونا» والحرب الروسية-الأوكرانية والاحتجاجات الداخلية. كما تعاني ميزانية الحكومة من عجز كبير ومتزايد مع محدودية الإيرادات النفطية، وتحول ميزان التجارة من فائض إلى عجز بمليارات الدولارات مع شركاء التجارة، مما تسبب في انهيار قيمة العملة المحلية، إذ لا تستطيع إيران الوصول إلى كل احتياطاتها المجمدة لفك ضائقتها المالية، علاوة على تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات التضخم لمستويات تاريخية أرهقت كاهل الغالبية العظمى من الإيرانيين، وأوقعت ملايين الأُسَر تحت خط الفقر.
هذه الأوضاع المعيشية المتردية للغاية تسببت في اندلاع احتجاجات شعبية ضغطت بشدة على النظام بفعل وطأة العقوبات والضغوط الغربية المترتبة على طموحات إيران النووية والباليستية المهددة للسلم والأمن الدوليين، كما تمر العلاقات الإيرانية-الغربية بأسوأ حالاتها على خلفية اتهام الغرب لإيران بتزويد روسيا بطائرات مسيرة في الحرب التي لم تتمكن روسيا بعدُ من إنهائها لصالحها، ولم تفلح إيران في تحقيق أهدافها. وهناك أيضًا اتهام الأوساط الإيرانية لتل أبيب وكييف برعاية أوروبية-أمريكية بتنفيذ سلسلة التفجيرات التي استهدفت مواقع عسكرية حساسة في أصفهان. وكذلك تعليق المفاوضات النووية مع القوى العالمية على نحو بدد الآمال الإيرانية في تصدير مزيد من الطاقة لإنعاش الاقتصاد المنهك بفعل العقوبات، هذا مع عدم تقدم المفاوضات بين الرياض وطهران ووقوفها عند الجولة الخامسة.
وما يجدر ذكره هو أن الصين أصبحت أهم متغير اقتصادي بالنسبة إلى إيران منذ عام 2019م، وبمثابة الملاذ الآمن من الحصار الدولي المفروض عليها، نظرًا إلى كونها أكبر شريك تجاري لها منذ إعادة فرض العقوبات الأمريكية، والعميل الأهم والأكبر لشراء النفط الخام والبتروكيماويات الإيرانية، وهي الدولة الأقدر على مساعدة إيران في الالتفاف على العقوبات لتصريف منتجاتها النفطية وغير النفطية.
أما بالنسبة إلى الصين فهي تشهد تحديات دولية معقدة على خلفية توتر علاقاتها مع القطب الأمريكي على كل الأصعدة التجارية والعسكرية والأمنية والتكنولوجية، ضمن المعركة الكبرى على القيادة الدولية وطبيعة النظام الدولي التي تفاقمت حتى حد اندلاع الحرب حول جزيرة تايوان خلال عام 2022م. ولعل أحدث فصول التوتر يتمثل في أزمة المنطاد الصيني، التي تسببت في إلغاء زيارة مقررة لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للصين، مع ديمومة الاستياء الأمريكي من الصين بشدة على عدم انتقادها روسيا في الحرب القائمة، وسعي الصين لكسب المعركة الكبرى على تغيير النظام الدولي الأحادي القطبية مقابل إرساء نظام دولي متعدد الأقطاب، مما يمنحها دورًا أكبر في التأثير في مجريات الشؤون الدولية. كما ترى الصين في إيران أنها تعمل بشكل متزايد على بناء علاقات أوثق وأكبر مع موسكو، التي تعتبرها بكين شريكًا إستراتيجيًّا.
وتستفيد الصين كثيرًا من هذا الوضع شبه الاحتكاري للتجارة مع إيران في الحصول على خصومات سعرية كبيرة، خصوصًا لمنتجات الطاقة، تزامنًا مع تخليها عن سياسة «صفر-كوفيد» ومحاولة تنشيط اقتصادها مرة أخرى بعد سلسلة من الإجراءات المشددة التي اتبعتها في الفترة الأخيرة تحسبًا لموجات جديدة من «كورونا»، ما تسبب في احتجاجات داخلية مؤخرًا.
وفي السياق ذاته، قد تدرك إيران أن الصين في حاجة إلى دعمها في مبادرة مشروع طريق الحرير الدولي العابر للحدود، ويمكنها التخطيط لحمايته عن طريق فرض الميليشيات المسلحة المتحالفة معها في الشرق الأوسط. كما أن الصين قد تدرك أن إيران جزء من مشروع تأمين الطاقة الإستراتيجي، فضلًا عن موقعها الجيوسياسي والأمني المهم لبكين، للتعامل مع التهديدات الأمنية في آسيا الوسطى وأفغانستان ومنطقة دول «معاهدة شنغهاي». ومع ذلك فإن الموقف الصيني تجاه القوى الشرق أوسطية لم يعد يرتكن إلى إيران فقط، فهناك من القوى التي يمكن التعاطي معها لضمان أمن وسلامة ممرات الملاحة والتجارة الدولية كالمملكة العربية السعودية التي زادت أولويتها بالنسبة إلى الصين منذ توقيع «اتفاق الشراكة الإستراتيجية» بينهما، بحكم امتلاك المملكة لمقدرات وموارد تؤهلها لممارسة دور قوي ومؤثر في مجريات الشؤون الإقليمية والدولية.
ثانيًا: الأهداف الاقتصادية للزيارة
تجلَّت الأهداف الاقتصادية لزيارة الرئيس الإيراني إلى الصين في تركيبة الوفد الاقتصادي الكبير المرافق لرئيسي، مشتملًا على كامل وزراء الحقيبة الاقتصادية، كالاقتصاد والنفط والصناعة والتجارة والمناجم والزراعة والطرق والإسكان، علاوة على محافظ البنك المركزي. وهناك جملة من الأهداف الاقتصادية التي تريد إيران تحقيقها من الزيارة، على رأسها تطبيق «اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة» لمدة 25 عامًا الموقعة منذ عام 2021م ولم تدخل حيز التطبيق، أو لم يجرِ وضع جدول زمني واضح لها. واشتملت على خطوط عريضة لتنفيذ استثمارات صينية بقيمة 400 مليار دولار خلال ربع قرن في مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل والدفاع وغيرها من المجالات الحيوية في مقابل استيراد مصادر الطاقة الإيرانية بمزايا حصرية للصين.
التوجه الصيني خلال الأشهر الماضية إلى تعزيز علاقاتها، لا سيما الاقتصادية، مع الدول العربية أثار قلق المسؤولين الإيرانيين من أن يقود ذلك إلى تراجع العلاقات الصينية-الإيرانية على كل المستويات السياسية والاقتصادية لصالح الدول العربية، خصوصًا في ظل عدم تفعيل الاتفاقية الإستراتيجية الشاملة بين طهران وبكين. وفي ظل هذا الوضع من المتوقع أن يكون موضوع متابعة تنفيذ بنود هذه الاتفاقية على رأس الأولويات التي ناقشها رئيسي مع المسؤولين الصينيين.
على المدى المتوسط والبعيد تهدف هذه الزيارة إلى تسريع وحث الاستثمارات والأموال الصينية على بدء العمل الفعلي وتطبيق ما وعدت به الصين منذ عامين، من أجل تنشيط نمو الاقتصاد الإيراني البطيء في وقت هربت فيه غالبية الاستثمارات الأجنبية منذ أعوام، مما تسبب في نقص حادّ في مدخلات ومتطلبات الإنتاج وارتفاع في الأسعار المحلية، وفاتورة الاستيراد في كل المجالات بداية من المنتجات الاستهلاكية والصناعية والسيارات وقطع الغيار حتى إنتاج النفط والغاز. وبالفعل ظهرت بعض نتائج النقص في الاستثمارات عندما جرى منذ شهرين قطع إمدادات الغاز عن مصانع البتروكيماويات بإيران والتي تحتل أهمية كبيرة في الصناعات الإيرانية، لتغطية الاستهلاك المنزلي.
وعلى المدى القصير تحتاج السوق الإيرانية وبشدة إلى البضائع الصينية، وتحتاج إيران إلى الصين في تصريف نفطها المحاصر، فالصين أكبر مصدر خارجي للبضائع بالنسبة إلى إيران، وهي في ذات الوقت أكبر مستورد للنفط والبتروكيماويات الإيرانية بأكثر من 40 مليار دولار خلال العامين الأخيرين، وتجاوز حجم التجارة الإجمالية بينهما 25 مليار دولار خلال آخر عشرة أشهر فقط. لكن مع هذا فإن هذا الحجم الكبير من التبادل يجري بتكاليف كبيرة بالنسبة إلى إيران، ولا تستطيع تحصيل إيرادات صادراتها بالدولار بسبب العقوبات وتضطر للتبادل النقدي أو المقايضة بالواردات، وقد تتراكم أموالها بالخارج.
ولعل هذا من بين أسباب وجود محافظ البنك المركزي ضمن الوفد المرافق في الصين لوضع أسس لتنفيذ التبادلات المصرفية بين البلدين بعملة عالمية بديلة للدولار هي اليوان الصيني، وبذات الوقت هو ما يلتقي مع الطموحات الصينية لتوسيع التعامل الدولي بعملتها، ويساعد إيران في الالتفاف على العقوبات الأمريكية من ناحية أخرى. وقامت الصين بخطوة مماثلة مع روسيا قبل أشهر في اتفاقيات تجارية واستثمارية في ما بينهما. ومن ناحية أخرى هناك تطلعات إيرانية بالانضمام إلى التكتلات الاقتصادية الشرق آسيوية المنافسة للتكتلات الأمريكية الأوروبية بدعم من الصين كتكتل «بريكس» كما سبق وأيدت انضمام إيران إلى «منظمة شنغهاي».
ثالثًا: الأهداف السياسية للزيارة
1. إعادة الزخم لعلاقات البلدين بعد الفتور على خلفية «القمة الخليجية-الصينية»:
جاءت زيارة إبراهيم رئيسي إلى الصين بعدما شهدت العلاقات بين البلدين توترًا في ديسمبر الماضي، إثر الامتعاض الإيراني مما تضمنه البيان الختامي للقمم الثلاث التي استضافتها الرياض، خصوصًا «القمة الخليجية-الصينية»، وتحاول إيران إعادة الزخم للعلاقات الوطيدة التي تجمع بين البلدين، وضمان استمرار التعاون الوثيق بينهما، لا سيما في ظل الضغوط الاقتصادية التي تمر بها إيران وتعثر المفاوضات النووية والتخفيف من حدة الضغوط الداخلية التي يتعرض لها النظام الإيراني.
2. ضمان استمرار الدعم الصيني للملف النووي الإيراني:
البيان الختامي لـ«القمة الخليجية-الصينية» في الرياض دعا إيران إلى الحوار الشامل بمشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني، والتعاون مع «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» من أجل المضي قدمًا في المحادثات النووية التي تعثرت منذ شهر أغسطس 2022م. هذه الدعوات الصينية أثارت مخاوف الجانب الإيراني من إمكانية تراجع الدعم الصيني للمفاوضات النووية، ما دفعها إلى محاولة إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وضمان استمرار دعمها للبرنامج النووي الإيراني.
3. تفعيل عضوية إيران في «منظمة شنغهاي» وضمان الدعم الصيني للانضمام إلى «بريكس»:
مناقشة الدعم الصيني لإيران في المنظمات الإقليمية كان أحد أهم عناوين هذه الزيارة. فبعد مضيّ نحو 16 عامًا من انضمام طهران إلى «منظمة شنغهاي» للتعاون بوصفها عضوًا مراقبًا، وافقت الدول الأعضاء في القمة التي استضافتها العاصمة الطاجيكية دوشنبه في 2021م على منح إيران العضوية الكاملة. وتطمح إيران إلى أن تلعب الصين إضافة إلى روسيا أدوارًا مؤثرة في تفعيل عضويتها في هذه المنظمة، وتحقيق الأهداف الإيرانية المرجوة في مجالات تنشيط التبادل التجاري والاقتصادي وترانزيت السلع والتعاون الأمني والعسكري، للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي حركت الشارع الإيراني ضد النظام، فضلًا عن تعزيز شرعيتها الدولية وكسر العزلة الدولية وموازنة علاقاتها مع الدول الغربية التي تأثرت كثيرًا بفعل الملف النووي وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومن ناحية أخرى، تقدمت إيران في 2022م بطلب الانضمام إلى مجموعة الاقتصادات الناشئة المعروفة باسم «بريكس» والتي تتشكل من البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا. ويبدو أن إيران بصدد تكثيف مشاوراتها الدبلوماسية مع الدول الأعضاء، خصوصًا الصين لدورها الفعال في هذه المنظمة، قُبيل انعقاد القمة الـ15 لـ«بريكس» والمقررة في الفترة من 22 إلى 24 أغسطس المقبل بمدينة دوربان بجنوب إفريقيا، التي يتوقع أن تناقش انضمام إيران ودول أخرى إليها.
رابعًا: مكتسبات آنية وتحديات مستقبلية
تتطلع طهران من هذه الزيارة إلى إزاحة ثقل العقوبات المفروضة على اقتصادها عن كاهلها، وإزالة آثار تداعياتها المؤججة لحالة الغضب الداخلي، عبر تحقيق بعض المكاسب الاقتصادية والتجارية، وجني ثمار اقتصادية وسياسية مهمة على المدى القصير والطويل، ويأتي في مقدمتها:
- تهدئة التوترات التي أعقبت زيارة الرئيس الصيني للسعودية ودول الخليج:
إذ أدت زيارة الرئيس الصيني مطلع العام إلى موجة غضب إيراني بما تضمنته من مواقف صينية نظرت إليها طهران على أنها انحياز صيني إلى وجهة نظر دول الخليج، ومن ثم فإنّ هذه الزيارة رغم أنها لن تغير من الموقف الصيني تجاه دول الخليج بوصفها شريكًا إستراتيجيًّا، فإنها قد تعيد العلاقات مع طهران إلى مسارها التقليدي.
2. تأمين الدعم الصيني لإيران في ملف المفاوضات النووية:
ستتلقى إيران من جانب الصين دعمًا سواء في مواجهة ضغوط «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» التي تنظر بكين إلى مواقفها على أنها منحازة لوجهة النظر الغربية، أو بالنسبة إلى المفاوضات النووية التي ترى أن الولايات المتحدة هي المسؤولة عن انهيار المفاوضات والإضرار بالصفقة النووية من البداية، وتلقي التطورات الدولية بظلالها على هذا الملف، إذ إنّ الاصطفاف إلى جانب إيران له ارتباط بالمنافسة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة.
3. التعاون للحد من تأثير العقوبات الأمريكية على الصعيد الدولي:
هناك مصلحة مشتركة بين الجانبين في إحباط تأثير العقوبات الأمريكية، وتقييد قدرة الولايات المتحدة على استخدام أداة العقوبات، وفي هذا الإطار قد تدفع الصين بمزيد من الإجراءات لتعزيز التبادل المالي عبر العملات المحلية، وقد يمتد التعاون بين الجانبين لتقديم الدعم لروسيا لتحقيق الغاية ذاتها.
4. الحفاظ على المصلحة المشتركة في تدفق النفط الإيراني إلى الصين رغم العقوبات والضغوط الأمريكية:
رغم العقوبات فإن الصين لا تزال الشريك الأهم والأكبر لإيران في مجال النفط والبتروكيماويات، وفي ظل حالة الاستقطاب الدولي جراء الأزمة الأوكرانية، والتنافس الإيراني-الروسي في تصدُّر قائمة المبيعات النفطية الصينية، ستسعى طهران إلى إبقاء الصين في الوقت الراهن شريانَ حياة اقتصاديًّا لحكومة رئيسي، لا سيما أن الولايات المتحدة قد ضغطت على الصين مطلع هذا العام من أجل التزام العقوبات المفروضة على مبيعات النفط الإيراني، وتشرع في فرض مزيد من العقوبات على الشركات الصينية المتورطة في بيع النفط الإيراني. وتخشى إيران أن تستجيب الصين للضغوط الأمريكية وتعيد العقوبات القصوى على صادرات النفط بما يعمق أزمة النظام داخليًّا.
5. تعزيز سياسة التوجه شرقًا وتأمين الدعم لرئيسي في الداخل:
تؤمن الزيارة مزيدًا من الدعم لمسار إيران في الاندماج في التجمعات الإقليمية الدولية الفاعلة كـ«شنغهاي» و«بريكس»، وتأخذ الصين على عاتقها مسألة إدماج إيران بها بوصفها قوة إقليمية مهمة في مواجهة الولايات المتحدة والغرب، ولا شك أن هذا يصبّ في تأمين دعم داخلي في وقت تتعرض شرعية النظام الإيراني لاختبار صعب.
وبمثل ما ترجو الدولتان أن تسفر هذه الزيارة عن مكاسب في مجال «الجغرافيا الاقتصادية»، فإنّ هناك تحديات لا تقل أهمية، وهي متمثلة في ما يلي:
أ. استمرار الصعوبات أمام تفعيل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية:
على الرغم من أن الزيارة استهدفت بحث خطوات تنفيذية لتفعيل اتفاقية الشراكة الإستراتيجية، فإنّ العوامل التي حالت دون تطوير التعاون في هذا الإطار لا تزال قائمة، فالعقوبات الأمريكية، والأوضاع الداخلية المضطربة داخل إيران، والحفاظ على علاقة متوازنة بين إيران ودول الخليج، تحد من اندفاع الصين نحو تفعيل الشراكة معها.
بعد انتهاء الزيارة أعلنت وكالة «فارس» الإيرانية أن الزيارة أثمرت عن الاتفاق على متابعة وتسريع تنفيذ «وثيقة الشراكة الإستراتيجية الشاملة» وتطوير العلاقات بين البلدين على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وأنه جرى التوقيع على 20 مذكرة تعاون وتفاهم بين الطرفين، في مجالات مختلفة مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والسلامة والبيئة والزراعة والطاقة والملكية الفكرية والتجارة الدولية.
جاء البيان الختامي مقتضبًا للغاية ولا يتناسب مع حجم الزيارة الرئاسية والوفد الكبير المرافق، إذ لم يوضح أي تفاصيل عن توقيع اتفاقيات تجارية أو مصرفية خاصة بين البلدين أو توقيع اتفاقيات ومشروعات صناعية كبرى تتناسب مع أهمية الوفد الاقتصادي الإيراني المرافق، أو عن توقيع اتفاقيات استثمارية بأنشطة تحتاج إلى التطوير العاجل كصناعة الغاز والسيارات وقطع الغيار، أو الإعلان عن حجم الاستثمارات الجديدة التي سيجري ضخها بجداول زمنية محددة لتسريع تطبيق الاتفاقية الشاملة كما جاء بالبيان، أو لتطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
يذكرنا هذا بما أحدثته الاتفاقية الشاملة مع الصين في عام 2021م من ضجة إعلامية كبرى لكن دون تنفيذ، فيما علقت إيران عليها آمالًا عريضة -وهي مهمة بالفعل إذا جرى تنفيذها- في الخروج من الحصار الاقتصادي الغربي وتنشيط الاقتصاد، لكن بعد عامين من توقيعها يكشف الواقع عن عدم البدء الجدي في التنفيذ، ناهيك بأنه لم يكن هناك إطار زمني ملزم من الأساس في ما يتعلق بضخ الاستثمارات الصينية للداخل الإيراني، فيما ركزت الصين على ما يخدم مصالحها في المقام الأول واستغلال تفوقها الاقتصادي وضعف الموقف الإيراني في تكثيف شراء النفط الإيراني بخصومات سعرية مقابل تصدير المنتجات الصينية.
لم تعمل الصين على ضخ استثمارات تُذكر في إيران منذ توقيع الاتفاقية، حتى إنها انسحبت من بعض الاستثمارات (تطوير حقل نفط ياد آوران)، فخلال العام الأول لحكومة إبراهيم رئيسي كانت روسيا هي الدولة صاحبة أكبر الاستثمارات الأجنبية في إيران بقيمة 2 مليار و700 مليون دولار في مشروعات نفطية، تلتها الإمارات، وفقًا لرئيس منظمة الاستثمار الإيراني علي فخري، فيما جاءت الصين في الترتيب الخامس باستثمارات بقيمة 162 مليون دولار فقط، موجهة إلى المشروعات المعاد تصديرها إلى الصين بالأساس، وهو معدل متدنٍّ للغاية، لدرجة أن الاستثمارات الأفغانية تفوقت عليها وجاءت في المرتبة الثالثة بقيمة 223 مليون دولار.
ولذا لم يظهر حتى الآن ما يبرهن على جدية الصين في المضي قدمًا بتنفيذ البنود الاقتصادية الضخمة التي جرى الإعلان عنها قبل عامين، فيما استفادت الصين من الحصار الغربي على إيران بتخزين النفط، وإن أنعشت النظام الإيراني بكونها أكبر مشترٍ للنفط الإيراني لكنها لم تنشط الاقتصاد بما يحتاج إليه من استثمارات في مجالات حيوية شملتها الاتفاقية السابقة، لم تستفِد منها إيران إلى الآن، حتى بعد زيارة رئيسي الأخيرة للصين، ما يجعل الزيارة لا تتعدى محاولة لتخفيف الضغوط الشعبية الكبيرة على حكومته بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية.
ب. الشكوك الداخلية في جدية الصين:
لا يزال التوجسوالخشية من الاعتماد الزائد على الصين قائمًا، فالشارع الإيراني يخشى أن تقوم حكومته بتقديم تنازلات كبيرة للصينيين بهدف تخفيف حدة الضغوط والعزلة التي تعيشها طهران جراء العقوبات الغربية، بجانبتراجع الثقة بالصين انطلاقًا من دعم الصين في عدة مناسبات فرض عقوبات دولية على إيران إثر برنامجها النووي. كما يكمن التوجس في الممارسات الصينية بإلغاء اتفاقات وتجنب أخرى خشية العقوبات الأمريكية، أو لتفضيلات صينية لمنافسين لإيران في المجالات المهمة كمجال النفط والغاز،ما يجعل توجهات الحكومة الإيرانية نحو الصينمحل انتقاد متزايد في الداخل الإيراني.
ج. استجابة الصين للضغوط الأمريكية:
لا ترغب الصين في إبراز التحدي للولايات المتحدة في عدد من الملفات ومنها ملف إيران وروسيا، بل على العكس قد تساوم الصين بهذا الملف من أجل الحصول على تنازلات جوهرية في ملفات أخرى أكثر أهمية. فالصين رغم مكانتها وقوتها فإنها لا يمكن أن تضحي بمصالحها في هيكل النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، كما أنها تخشى من أن علاقتها مع إيران قد تضر بمصالحها المشتركة مع دول الخليج، ناهيك بأن سلوك إيران في بعض الأحيان يمثل تهديدًا للاستقرار ولتدفق مصالح الصين من دول المنطقة.
د. غياب القدرة الإيرانية على إيجاد التوازن في سياستها الخارجية بين الصين وروسيا:
على الرغم من أن كلًّا من الصين وروسيا تعتبران ذواتَي أولوية قصوى في سياسة إيران الخارجية، أو ما يعرف بإستراتيجية «التوجه شرقًا»، فإنّ طهران لم تكن قادرة على توفير التوازن الضروري في العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين شريكيها في هذه الإستراتيجية، إذ لعبت التطورات في أوكرانيا والتقارب الكبير بين طهران وموسكو دورًا واضحًا على العلاقات الإيرانية-الروسية مقارنة بنظيرتها الصينية.
هـ. الأولوية الصينية في إدارة التوازن في علاقتها بين إيران ودول الخليج:
لا تنوي بكين الابتعاد عن إستراتيجية التوازن المتبعة من حكومتها في علاقتها مع دول الخليج وإيران، فالاقتصاد الصيني متشابك مع اقتصادات دول إقليمية ومن أهمها الدول الخليجية، وأكدت زيارة الرئيس الصيني للسعودية في ديسمبر الماضي هذا الاتجاه.وفي واقع تراجع حجم الاستثمار الصيني في إيران، سعت الصين إلى تعزيز تعاونها وتوسيع علاقتها التجارية والاقتصادية مع دول الخليج، وانخراطها اقتصاديًّا بشكل أقل مع إيران، إذ وقَّعت مع السعودية خلال عام 2021م عقودًا استثمارية بما يقارب 514.3 مليون دولار. وخلال زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى السعودية جرى التوقيع على عقود بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار. وفي مجال الغاز وقَّعت عقود استيراد الغاز مع قطر، وهو ما يعكس أن الاستثمارات الصينية المحتملة في إيران يشوبها عديد من العراقيل والتحديات.
الإعلان المفاجئ لزيارة رئيسي إلى بكين وعدم جدولتها، فضلًا عن مجيئها بعد فتور في العلاقة بين البلدين على خلفية البيان الختامي لـ«القمة الخليجية-الصينية»، يضعها في خانة الزيارات الرمزية أكثر من كونها جوهرية. ورغم الوعود الصينية لإيران ومذكرات التفاهم التي جرى التوقيع عليها بين البلدين، فإنه يبدو أن المشكلات والعراقيل التي حالت دون تطور العلاقة بين البلدين خلال السنوات القليلة الماضية لا تزال قائمة، ما يجعل الزيارة لا تتعدى كونها محاولة من النظام الإيراني لتخفيف الضغوط الداخلية والخارجية الكبيرة التي يتعرض لها بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية وانتهاكات حقوق الإنسان، إضافة إلى ترميم العلاقة بين البلدين بعد الفتور والتوتر الذي أحدثه البيان الختامي للقمة «العربية-الخليجية»، وأخيرًا نيل طمأنة من الجانب الصيني باستمرار دعمه لإيران في مختلف الملفات. لكن تظل الخطط الصينية تراعي الموقع الحيوي لإيران ضمن مشروعها الإستراتيجي لربط الصين بالعالم.