بعد إعلان الاستراتيجية الأمريكيَّة تجاه إيران في 13 أكتوبر 2017، بدأت الإدارة الأمريكيَّة اتخاذ خطوات تنفيذية لتحويل الاستراتيجية الجديدة إلى واقع فعلي، بعدما كانت هناك شكوك في مُجمَل الموقف الأمريكيّ من التعامل مع الخطر الإيرانيّ المتصاعد خلال السنوات الأخيرة، وبعدما كانت الرؤية الأمريكيَّة للتعامل مع خطر إيران تفتقر إلى الشمول بعد وصول ترامب إلى السُّلْطة، وذلك على ضوء التناقضات التي برزت بين أركان إدارته حول السياسة المفترضة تجاه إيران، لا سيما الموقف من الاتِّفاق النووي، وقد توازي مع تلك الخطوات التنفيذية تنسيق مع القوي الإقليمية الرئيسية وفي مقدمتها المملكة العربية السعوديَّة التي كان لها دور رئيسي في بلورة هذه التوجُّهات الجديدة نحو إيران، الأمر الذي يعنى أن مرحلة صعبة من الضغوط سوف تمر بها إيران، وأن تكلفة محتمَلة أو خسائر متوقَّعة لمكتسباتها ستكون كبيرة.
سياسات ما بعد الاستراتيجية
مع الإعلان عن الاستراتيجية التي أعطت خطوطًا وعناوين رئيسية لطبيعة المواجهة مع إيران وحدودها ونطاقها، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرارين على قدر كبير من الأهمِّيَّة:
الأول: عدم التصديق على التزام إيران بخطة العمل المشتركة (الاتِّفاق النووي) التي وقَّعَته إيران مع مجموعة دول 5+1، وهو ما يعني مبدئيًّا أن أمام الكونغرس ستين يومًا من هذا التاريخ ليحدِّد موقفه من الاتِّفاق ومن العودة إلى العمل بالعقوبات التي كانت عُلّقت بمُوجَبه من قبل.
والثاني: وجَّه فيه ترامب وزارة الخزانة الأمريكيَّة لإدراج الحرس الثوري في قائمة العقوبات المتعلقة بالإرهاب اتِّساقًا مع نَصّ الفقرة 105 من قانون كاتسا الذي أقره الرئيس في 2 أغسطس 2017 التي طالبت بتطبيق جزاءات على قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيرانيّ والأجانب الذين هم مسؤولون أو عملاء أو منتسبون إليه تحت الأمر التنفيذي 13224 المتعلق بالإرهاب العالَمي، وهو الأمر الذي نفّذَته الوزارة بالفعل، فأصبح الحرس الثوري منذ ذلك التاريخ ضمن هذا القرار الذي أصدره الرئيس الأمريكيّ الأسبق جورج بوش في 2001 والذي يسمِّي فيه عددًا من المنظَّمات والكيانات والأفراد “داعمة للإرهاب”، وإن كان هذا الإجراء لا يعني تصنيف الحرس منظَّمة إرهابية حسب موقع الوزارة، لكنه في المجمل وسَّع نطاق العقوبات على القيادات أو الأفراد أو المؤسَّسات المتعاونين أو التابعين للحرس ضمن نطاق عمل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكيَّة.
واتساقًا مع بنود الاستراتيجية أعلنت وزارة الخزانة الأمريكيَّة مشروعًا في 31 أكتوبر 2017 لفرض عقوبات ضدّ 41 شخصيَّة وشركة إيرانيَّة تتعامل مع الحرس الثوري، بما في ذلك القوة الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري الإيرانيّ، كما يناقش الكونغرس مشروع قانون لتعديل الاتِّفاق النووي، أهمّ النقاط المطروحة فيه أنه سيضع شروطًا صارمة جديدة للاتِّفاق النووي مع إيران، منها استعادة العقوبات إذا اختبرت طهران صاروخا باليستيًّا أو منعت المفتِّشين النوويين من دخول أي موقع، وذلك خلال ستين يومًا من قرار ترامب رفض التصديق على التزام إيران بالاتِّفاق، لتتضح مع تلك الإجراءات أكثر طبيعة المواجهة المرتقَبة مع النِّظام الإيرانيّ.
ولم تتوقف الإجراءات التي شرعت فيها إدارة ترامب عند ممارسة ضغوط داخلية على النِّظام بالتهديد بورقة الاتِّفاق النووي واستهداف إحدى أهمّ مؤسَّساته التي يبني عليها النِّظام بقاءه وهي الحرس الثوري، بل شملت الإجراءات تصعيدًا استهدف إحدى أهمّ أذرع إيران الإقليمية وهو حزب الله، وذلك في إطار مخطَّط متكامل لحصار الحزب وتقويض دوره، سواء إقليميًّا أو على الساحة اللبنانية، وفي إطار استراتيجية أوسع نطاقًا تستهدف احتواء نفوذ إيران على الساحة الإقليمية.
فمؤخَّرًا في مطلع أكتوبر 2017 أعلنت الولايات المتَّحدة وعودًا بتقديم مكافأة مالية تصل إلى 12 مليون دولار لمن يُدلِي بمعلومات عن فؤاد شكر وطلال حمية، وهما من كبار مسؤولي حزب الله، وهذا النمط من التعامل هو ذاته الذي استخدمته الولايات المتَّحدة وتستخدمه مع عناصر تنظيم القاعدة المصنف إرهابيًّا، كما مرَّر مجلس النواب الأمريكي في 26 أكتوبر 2017 قانونًا أقرّ مجلس النواب عقوبات تتضمن ثلاثة إجراءات ضدّ ميليشيات حزب الله اللبنانية، وبموجب الإجراء الأول، تُفرَض عقوبات جديدة على أي كيانات يثبت دعمها للحزب من خلال إمداده، بالأسلحة على سبيل المثال. أما الإجراء الثاني فيفرض عقوبات على إيران وحزب الله “لاستخدامهما المدنيين دروعًا بشرية”، والإجراء الثالث هو قرار يدعو الاتِّحاد الأوروبيّ إلى تصنيف حزب الله تنظيمًا إرهابيًّا، ولا يخرج إعلان سعد الحريري رئيس الحكومة اللبنانية استقالة حكومته التي يشارك فيها حزب الله عن تلك الاستراتيجية المعلنة. وتتضح بصورة أكبر ملامح المواجهة المرتقَبة بين الولايات المتَّحدة وحزب الله بوصفه وكيلًا لإيران من خلال إشارة مايك بنس، نائب الرئيس الأمريكيّ، إلى أن “الرئيس ترامب لن يقف متفرجًا إزاء ما تخطِّط له إيران؛ إيران راعي الإرهاب الأساسي، وحزب الله وكيلها”.
ولا تقتصر المواجهة على حزب الله، بل تمتد لتشمل مناطق النفوذ الإيرانيّ كافة في المنطقة، ففي العراق تجري المشاورات والمداولات خلال الشهور الماضية للحدّ من النفوذ الإيرانيّ في العراق، ويبدو أن التوظيف الأمريكيّ لإيران لمواجهة تنظيم داعش والمساعدة في استعادة الدولة العراقية لسيطرتها على المناطق التي استولى عليها التنظيم قد استنفدت غرضها، ومن ثَمَّ فإن العودة الأمريكيَّة للعب دور رئيسي على الساحة العراقية تفرض تقويضًا لدور إيران ودور وكلائها وميليشياتها المسلَّحة، لهذا جاء تصريح تصريح وزير الخارجية الأمريكيّ ريكس تيليرسون الذي قال فيه إن “الميليشيات الإيرانيَّة الموجودة في العراق، بعد أن انتهت الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية، يجب أن تعود إلى ديارها”.
والواقع أن هذه الاستراتيجية الأمريكيَّة التي تستهدف أذرع إيران والحدّ من نفوذها لا تنفصل عن العودة إلى قواعد الاشتباك العسكري الأمريكيّ مع الملفَّات المفتوحة في المنطقة في إطار سياسة القيادة من الأمام التي تَبنَّاها ترامب، فالولايات المتَّحدة ممثَّلةً في قوَّتها العسكرية عادت بقوة للعب دور على الساحتين السورية والعراقية، ووقفت إلى حدّ بعيد التحرُّكات العسكرية الإيرانيَّة التي كانت تستهدف خلق واقع ميداني يخدم المشروع السياسي الإيرانيّ الكبير الذي يستهدف ربط أراضيها بمناطق نفوذها ومناطق تمركز التكتلات السكانية المذهبية في العراق وسوريا ولبنان التي تدين بالولاء لنظام الولي الفقيه، وهو مشروع له بعده الاقتصادي بوصفه يربط أراضي إيران بالبحر المتوسط عبر قطاع جغرافي غني بالموارد الطبيعية، وفي مقدمتها النِّفْط، بما يحوِّل إيران إلى عملاق اقتصادي إقليمي.
ترتيبات إقليمية متوازية
يرتبط بوتيرة التصعيد الأمريكيَّة تلك موقف إقليمي تقوده المملكة العربية السعوديَّة، وذلك لتشديد الضغوط على إيران، فمن الرياض أعلن سعد الحريري استقالة الحكومة اللبنانية، في ضربة قوية لحزب الله ولإيران، فهذا القرار يربك وضع الحزب على الساحة اللبنانية ويعرِّضه لمزيد من الضغوط في الداخل، كما أنه ينزع الغطاء الشرعي عن الحزب الذي تصنِّفه الولايات المتَّحدة تنظيمًا إرهابيًّا، ويمكن ربط هذه الاستقالة بموجة التصعيد ضدّ الحزب وتهيئة بيئة مناسبة للانقضاض عليه وتقليص دوره أو إنهائه، إذ إن القانون الذي أقره مجلس النواب أكتوبر 2017 فرض عقوبات على الحزب تَضمَّنَت ثلاثة إجراءات، منها دعوة الاتِّحاد الأوروبيّ إلى تصنيف حزب الله تنظيمًا إرهابيًّا، وهذه الضغوط الأمريكيَّة بجانب نزع الشرعية الرسميَّة عن الحزب قد تدفع بعض الدول الأوروبية إلى الاستجابة للمطالبات الأمريكيَّة بتسمية الحزب منظَّمةً إرهابيةً بعدما لم يعُد ممثَّلًا رسميًّا في الحكومة اللبنانية.
في الإطار نفسه تَحوَّلَت الرياض إلى قبلة للزعمات الدينية الشيعية والقيادات السياسية العراقية، وذلك في سياق سياسة تستهدف استعادة العراق مكانته ودوره الطبيعي بعيدًا عن الوصاية الإيرانيَّة، فبمبادرة سعوديَّة بدأت العلاقات تعود إلى طبيعتها مع زيارة وزير الخارجية عادل الجبير لبغداد في فبراير 2017، لتبدأ بعدها الزيارات الرسميَّة المتبادَلة، ويُدَشَّن مجلس التنسيق السعوديّ العراقي المشترك، ويُتَّخَذ القرار بإعادة تسيير الرحلات الجوية بين البلدين. ومن الواضح أنه يوجد تنسيق سعوديّ-أمريكيّ-عراقي يستهدف بالأساس الوجود والتأثير الإيرانيّ في العراق، ولا تخرج تلك التحرُّكات عن السعي الأمريكيّ للتأثير في العملية الانتخابية العراقية القادمة لتضييق الخناق على حلفاء إيران داخل العراق وتقليل نصيبهم من الحصة السياسية بصورة مؤثِّرة.
رسالة قوية إلى إيران
إجمالًا يمكن القول إن إيران في إطار تلك التكتيكات التي تعكس تصعيدًا منسَّقًا غير مسبوق بصدد مواجهة صعبة، بدايةً لأن الاستراتيجية الجديدة تجاوزت التعامل الانتقائي مع إيران بالتركيز على بعض الملفَّات دون غيرها، وحددت نطاق الخطر الإيرانيّ وحدوده وأشكاله، كما حدَّدَت الخطوط العريضة لاستراتيجية مواجهة هذا الخطر، وفعليًّا بدأت تكتيكات المواجهة بالتشابك والتكامل.
كذلك عكست السياسة الأمريكيَّة مؤخَّرًا نجاح ترامب في توحيد موقف معاونيه وإدارته في ما يتعلق بالموقف من الملفّ الإيرانيّ، وذلك بعد أشهُر من التصريحات المتناقضة، كما أن الإدارة الأمريكيَّة حريصة على توحيد موقفها مع موقف حلفائها الأوروبيين والإقليميين، وذلك ضمانًا لتكثيف الضغط على إيران، وضمانًا لنجاح الإجراءات المُزمَع اتخاذها. ولا يخلو التنسيق من تهديدات للمصالح والكيانات الحريصة على شراكتها التجارية مع إيران، دون التفات إلى خطر سلوك النِّظام، لهذا صرَّح وزير الخارجية الأمريكيّ بأن “جميع الأطراف التي تربطها علاقات تجارية مع الحرس الثوري وأعوانه تجازف مجازفة كبيرة، سوء كانت تلك الأطراف شركات أوروبيَّة أو شركات عالَمية”، الأمر الذي قد يضمن لهذا المسار النجاح.
لا شكّ أن الخطوات الأمريكيَّة والسعوديَّة الراهنة ترسل رسالة صريحة إلى إيران، بأن عليها أن توازن بين الإجراءات التصعيدية الجديدة وما تحمله من تبعات، والتعاطي مع دورها الإقليمي أو برنامج صواريخها الباليستية أو دعمها للميليشيات المسلَّحة في المنطقة أو ممارسة العنف والتدخل الإقليمي واسع النطاق، وإلا فإنها يجب أن تحسب أنها بصدد مواجهة مفتوحة مع إدارة ترامب وحلفائها الإقليميين، وأن تدرك أن الموقف الراهن مختلف عن الفترة التي أعقبت توقيع الاتِّفاق النووي، لأنها خلال تلك الفترة لم تستشعر أي مسؤولية تجاه سياساتها المزعجة.
خسائر متوقَّعة
مبدئيًّا مع دخول الاستراتيجية حيِّز التنفيذ أصبحت إيران في موقف تصعب معه ممارسة مزيد من التصعيد في الملفات الرئيسية التي راهنت عليها خلال المرحلة الماضية، بداية من تكثيف نشاطها الإقليمي لجل كسب مزيد من النفوذ، أو تهديد الاستقرار في بعض الدول، فضلًا عن التحدِّي المستمر بإجراء التجارب الصاروخية بعيدة المدي، فالخطوات الإيرانيَّة يجب أن تكون محسوبة بدقة، وإلا فإن ردود الفعل في إطار هذا التصعيد المستجَدّ قد تفوق التوقُّعات.
فالرئيس الأمريكيّ وإدارته داخليًّا قد وضعوا شعبيتهم ومصداقيتهم على المحكّ عبر اختبار القدرة على احتواء خطر الدول المارقة كإيران وكوريا الشمالية، حسب تعبير الرئيس الأمريكيّ نفسه، كما أن دور وتحالفات الولايات المتَّحدة ومصالحها الحيوية في المنطقة مرهونة بتنفيذ تلك الاستراتيجية.
كما تُلقِي دول الخليج، وفي مقدِّمتها المملكة العربية السعوديَّة، بثقلها خلف سياسات احتواء الخطر الإيرانيّ، وقد لعبت المملكة دورًا رئيسيًّا في التحول الكبير في الموقف الأمريكيّ من إيران، وذلك بالتوازي مع سياسات غير تقليدية من جانب المملكة لمواجهة خطر إيران، عبر المواجهة المباشرة للدور الإقليمي لإيران، ولا يبدو في الأفق تراجع عن هذه المواجهة إذا لم تراجع طهران مواقفها وسياساتها.
وفي النهاية يمكن القول إن إيران فرَّطَت في فرصة الانفتاح والتفاهم التي أتاحها الاتِّفاق النووي، واستغلَّت تَحوُّلات السياسة الأمريكيَّة وأولوياتها في فترة الرئيس السابق باراك أوباما، وأقدمت على تحقيق طموحات نظامها وقياداته مستغلَّة الفرصة التي أتاحها ما يُعرَف بـ”الربيع العربي” وحالة الفوضى والارتباك التي أصابت النِّظام الإقليمي والهروب من المشكلات الداخلية، لكن نتيجةً لهذا التمادي في السياسات ذات الطابع التوسُّعي التي تتعدي التصور المنطقي لحدود دور الوحدات الإقليمية من منظور القوي الدولية والإقليمية الرئيسية وفي مقدمتها الولايات المتَّحدة، أصبح على إيران أن تواجه استراتيجية متكاملة ومنسَّقة تستهدف تحديد نطاق وجودها الجغرافي ونفوذها السياسي.
وعلى الرغم من أن سقف الخطاب السياسي لإيران مرتفع في مواجهة الموقف الأمريكيّ والإقليمي المستجدّ، فإنها نتيجة ضغوط شديدة قد تلجأ إلى الحوار والتفاهم سبيلًا لمعالجة الأزمة لا سيما إذا ما استشعرت أن استثماراتها السياسية الضخمة خلال السنوات الماضية في المنطقة ومصالحها ستكون في خطر، ومِن ثَمَّ فإن أمام طهران خيارين:
الأول: التمسُّك بالسياسات الراهنة واتباع سياسات المماطلة والمساومة بالأوراق الإقليمية التي تمتلكها، لكن هذا الخيار سيضعها في مواجهة مزيد من العقوبات والعزلة وتقويض مكتسبات الاتِّفاق النووي بصورة كاملة، وقد تتطوَّر الأمور نحو الأسوأ.
الثاني: الدخول في مرحلة جديدة من التفاهم والانخراط، والأرجح أن خيار التفاهم لن يكون مطروحًا إلا إذا لم يستشعر النِّظام الإيرانيّ أنه قد يتحمل تكلفة كبيرة نتيجة إصراره على مواقفه وسياساته الراهنة، وهي الرسالة التي تعمل الولايات المتَّحدة ومعها المملكة العربية السعوديَّة على إيصالها إلى إيران خلال المرحلة الراهنة.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعكس بالضرورة رأي المركز