تورُّط إسرائيل المتهور في غزة

https://rasanah-iiis.org/?p=33569

بواسطةنويد أحمد

لا يزال الجيش الإسرائيلي يواصل توغُّله البرِّي تحت غطاءٍ جوِّي كثيف في غزة، حيث حوَّلت القوّة النارية الهائلة أجزاءً من غزة إلى أرضٍ جرداء، لكنَّ التقدُّم على الأرض لا يزال بطيئًا.

أفادت وزارة الصحة في غزة بأنَّ المجموع الكلِّي للقتلى تجاوز 18000، وبِنِسبة تفوق 900% عدد القتلى في الحرب البرِّية الإسرائيلية السابقة في عام 2014م، التي استمرَّت لمدَّة 50 يومًا.

وما يكشف عن حجم الصدمة والذهول، أنَّه لا يزال نحو 200 رهينة إسرائيلية في يد حماس.

وتذكر الجماعات الفلسطينية أنَّ الأسرى يشملون أفرادًا من الجيش الإسرائيلي، وموظَّفين يعملون مع الجيش. ومن جانبها، رفضت تل أبيب هذه «الادّعاءات»؛، إذ قال المستشار السابق لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، اللواء يعقوب أميدرور، في بيان: «سنواصل العملية العسكرية، كما لو أنَّهم ليسوا موجودين هناك»، الأمر الذي يبيِّن إستراتيجية تل أبيب على الأرض.

وعلى الرغم من أنَّ واشنطن تُحذِّر علنًا من أنَّ دعمها إسرائيل سوف يتضاءل، فإنَّ إدارة بايدن تُعارض بشدَّة وقْف إطلاق النار، مُتذرِعةً بحرمان حماس من فُرصة أخرى للبقاء، ضاربةً عرض الحائط بمحنة آلاف العائلات الفلسطينية المحاصَرة في غزة.

الرؤية الإستراتيجية والتكتيكية

منذ أن استندت إسرائيل إلى المادّة 40 من قانونها الأساسي في 09 أكتوبر، وأعلنت نفسها رسميًّا في حالة حربٍ مع حماس، حشدت قوّة قوامها 550000 جندي، بما في ذلك 350000 جندي احتياطي، مقابل ما يُقدَّر بـ25000-30000 مقاتل من حماس.

يُقدَّر أنَّ بضعة آلاف لقوا حتفهم في الأعمال العدائية منذ 07 أكتوبر، بينما يُعتقَد أنَّ نحو 20000 يختبئون في ملاجئ تحت الأرض وفي شبكة من الأنفاق.

بدأ الجيش الإسرائيلي، إلى جانب عملياته البرِّية المكلفة والطاحنة، بإغراق الأنفاق بمياه البحر، وهذا قد يؤدِّي إلى موت الرهائن الإسرائيليين إلى جانب خاطفيهم. وحسب التقارير، فلأول مرة في نوفمبر ينشئ الجيش الإسرائيلي خمس مضخَّات لإغراق الأنفاق بآلاف الأمتار المكعَّبة من المياه في الساعة، ويسعى الجيش لطرد مقاتلي حماس من شبكة الأنفاق المعهودة، ومن ثمَّ القضاء عليهم بنيران القوّات البرِّية أو الجوِّية.

يتكدَّس سُكاّن غزة، البالغ عددهم مليونَي نسمة، في مساحة تقارب مساحة مدينة فيلادلفيا الأمريكية، أو ضعف مساحة واشنطن العاصمة تقريبًا. وعلى غرار النتائج السلبية للقصف الشامل لغزة، ستكون العواقب وخيمة وراء إغراق الأنفاق، على التربة، وعلى مخازن المياه الجوفية، على المدى البعيد.

ويؤكد هذا التكتيك من جديد ردّ فعل الجيش الإسرائيلي المتسرِّع وغير المحسوب، بدلًا من إيجاد إستراتيجية جيِّدة الإعداد تستند إلى معلوماتٍ استخباراتية دقيقة.

قد يفرض مبدأ العقاب الجماعي بحجة أنَّ مقاتلي حماس يختبئون بين المدنيين، على مرأى الجميع، تكاليف دبلوماسية واقتصادية وأيديولوجية، قد تتجاوز بكثير نطاق الحملة العسكرية.

ولم تستطِع إسرائيل بعد اعتقال أو قتْل كبار ضُبّاط حماس العمليين، وعلى رأسهم يحيى السنوار، بينما خسرت جنودًا بنيران حماس (لم يُكشَف عن عددهم علنًا بعد). وفشلت إستراتيجية «جزّ العشب» الإسرائيلية نحو غزة فشلًا ذريعًا في السابع من أكتوبر، وسقطت معها فكرة إسرائيل حول ردع الأعداء. ومع ذلك، يُدافع السياسيون الإسرائيليون والإستراتيجيون منهم عن الجنود الإسرائيليين، الذين يشنون عمليات اعتقال من منزلٍ إلى آخر لمدة 18 شهرًا.

يبدو أنَّ الدروس المُستفادة من العمليات البرِّية السابقة، التي شنَّتها إسرائيل في غزة أصبحت طي النسيان. وفي هذا الصدد، تشير دراسة لـ«المعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي»، حول الصراع بين إسرائيل وحماس، نُشِرت عام 2021م، إلى أنَّ «السِمَة الأكثر دلالة في الصراع في غزة، كانت عدم التوافق الإستراتيجي بين أهداف إسرائيل العسكرية والعملياتية البحتة لإضعاف قُدرات حماس العسكرية -بمساعدة التقنية الفائقة في تحديد الأهداف وضربها بدقة- وأهداف حماس الإستراتيجية القائمة على المعلومات». لو كان التخلُّص من قوّة غير تقليدية مختبئة في مُدُن ذات كثافة سُكّانية عالية أمرًا في غاية السهولة، لما سمِعنا عن العمليات في الفلوجة في عام 2004م، والموصل والرقّة في 2016-2017م.

لا يمكن للهجوم الانتقامي الضخم الجاري حاليًّا أن يصمد أمام الرأي العام، ولا يُرضي حُلفاء إسرائيل في الغرب الملتزمين إياها، والقلِقين أيضًا. ستُحدِّد فشل إسرائيل في استعادة قوّتها على الردع على الأرض، مكانتها بين أصدقائها وأعدائها، على حدٍّ سواء. وسوف يؤدِّي الاعتماد على الاستخدام المفرط للقوّة، دون وجود أهداف واقعية للمهمّة، إلى حرب دموية. وبعد ذلك، سيكون «حزب الله» في الشمال على استعداد للانقضاض على إسرائيل بقوّته النارية الهائلة للتغلُّب على دفاعاتها الجوِّية.

استند الردع الإسرائيلي المتلاشي إلى ثلاث ركائز: الإنكار، التموضُع، والاعتماد الثابت.

وتشكَّلت فكرة الإنكار، من خلال التوهُّم أنَّها تمتلك التفوُّق العملياتي والاستخباراتي والإجراءات الوقائية لإضعاف وتدمير قُدرات حماس وبنيتها التحتية.

وتمثَّل التموضع من خلال الإنكار التكتيكي، ونشْر إسرائيل إشارات الردع إلى الجماعات المنافسة الأخرى. وكان الاعتماد الثابت يتمثَّل في السماح لحماس بالبقاء في السُّلطة، منذ فوزها في الانتخابات عام 2006م، من خلال منحهم حصَّة من نظام الحُكم.

إستراتيجية حماس الثابتة

يحى السنوار المخطِّط لهجوم حماس في 7 أكتوبر، قضى نحو عقدين من حياته في السجون الإسرائيلية، حيث تعلَّم اللغة العبرية وأجادها وفهِمَ العقلية الإسرائيلية. وكان السنوار بين 1027 سجينًا فلسطينيًّا، أُطلِق سراحهم في صفقة تبادُل أسرى مقابل جندي إسرائيلي واحد.

يعرف السنوار كيف يمكن أن يُلحِق الأذى بعدوِّه، فهو الآن يتلاعب بنفسية الإسرائيليين عن طريق الاحتفاظ بالرهائن، وإطلاق سراحهم على دفعات صغيرة. يمكن مقايضة كل جندي إسرائيلي مأسور بالثمن الذي يختاره السنوار، أو هكذا يعتقد.

ويعتقد السنوار أنَّه كُلَّما طالت مدَّة احتجاز الأسرى، حصل على صفقة أفضل يكبِّد بها زعماء إسرائيل وقادتها أثمانًا باهظة.

في حال ساد صوت العقل ووضعت إسرائيل الأولوية لمواطنيها الأسرى، فيمكنها إنهاء هذه العملية المعقَّدة والمحرجة لها، من خلال التوصُّل إلى اتفاق مع حماس.

على الرغم من أنَّ اتّباع سياسية الحد الأدنى من الأضرار قد يحقِّق انتصارًا قصير المدى للسنوار وجماعته، فإنَّ إسرائيل ستحصل على فُرصةٍ أخرى لإعادة تأسيس الردع داخل الحدود وعلى الحدود، مع إيجاد حلول للإشكالية السياسية في غزة.


الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد

نويد أحمد
نويد أحمد
باحث في الشؤون الاستراتيجية