في الأسابيع الأخيرة عندما غيَّرَت وسائل الإعلام الأصولية فجأة لقب إبراهيم رئيسي من “حُجَّة الإسلام” إلى “آية الله”، وجاء في الأخبار أن دروس “بحث الخارج” الفقهية التي يدرّسها بدأت بالتزامن مع هذا اللقب الجديد، طرح هذا الأمر مرة أخرى احتمالية خلافته للقائد الحالي علي خامنئي. يدّعي إبراهيم رئيسي أنه كان لأكثر من 15 عامًا طالبًا لدى خامنئي، وهو اليوم يتولى منصب سِدَانة العتبات الرضوية (مسجد الإمام الرضا في مدينة مشهد)، والنائب الثاني لرئيس مجلس خبراء القيادة.
خامنئي في عامَي 2012 و2015 خاطب رئيسي بلقب حُجَّة الإسلام، وجاء ذلك في حكمين منفصلين، الأول لمنصب قاضي المحكمة الخاصة برجال الدين، والثاني لسدانة المسجد الرضوي بمدينة مشهد، لكن خلال الأسابيع الأخيرة نقلت وسائل الإعلام، ومنها وكالتا “فارس” و”تسنيم” المقربتان من الحرس الثوري، تصريحات رئيسي مخاطِبةً إياه بلقب “آية الله”، كما سمّاه الموقع الشخصي الخاص به “آية الله” منذ أواخر سبتمبر من العام الجاري.
بعد نشر التسجيل الصوتي لآية الله حسين علي منتظري، الذي كان يحتلّ منصب نائب قائد الثَّورة، كان رئيسي أحد مخاطبي منتظري في هذه الجلسة التي جمعته مع مسؤولي إعدامات عام 1988، ولاحقًا نشر أمين مجلس خبراء القيادة بيانًا اعتبر فيه نشر هذا التسجيل “نبشَ قبرٍ مليءٍ بالتحدِّيات” من أجل “تطهير الخونة”، لكن رئيسي لم يُبدِ أي تصريح شخصي بهذا الخصوص.
لماذا يمكن لإبراهيم رئيسي أن يكون الخيار الأمثل لخلافة القائد الإيراني؟ وما باقي الخيارات؟ ومَن الأشخاص؟ وما سماتهم؟ وأيَّ هذه الخيارات يدعَم خامنئي؟ وإذا لم يُعيَّن خليفة له وهو على قيد الحياة، فماذا سيحدث؟
» تعزيز خلافة رئيسي
يوضح المحلل السياسي الإيراني حسن شريعتمداري، أن بعض الدلائل يشير إلى أنّ رئيسي أحد مواضع اهتمام خامنئي لمنصب “ولاية الفقيه”، بعد وفاته بالطبع، وتلقيبه بـ”آية الله” ليس العلامة الوحيدة، فتنصيبه على سدانة المؤسَّسة الخيرية الكبرى في إيران، التي كان يُقال عن متولِّيها منذ القِدَم “شاه بلا تاج”، يشير إلى الأمر ذاته. وفي نفس الوقت فإنّ والد زوجته، أي أحمد علم الهدى، عُيّنَ في حركة غير مسبوقة رئيسًا للحوزة العلمية في مدينة مشهد التي تُعَدّ ثاني حوزة علمية في إيران بعد قم، في حين كانوا من قبل يعتبرون إدارة الحوزات العلمية في إيران، بل وفي زمن “الجمهورية الإسلامية”، أمرًا مستقلًّا، وهذا التحرُّك يعني أن خامنئي شخصيًّا استولى على إدارة الحوزة، ويؤدِّي مهامَّ العزل والتنصيب. في مثل هذه الأجواء، عندما يتردّد قادة الحرس الثوري على رئيسي في مثل هذه المؤسَّسة المالية الضخمة ويقدّمون تقاريرهم له، تَقوَى الشائعات القائلة بأن خامنئي جعل من مشهد مركزًا من مراكز استمرار السُّلْطة بعد وفاته، وأن من المحتمل أن يكون رئيسي أحد مرشَّحي ولاية الفقيه.
الأصوليون يرغبون، بعد وفاة خامنئي أو عجزه التامّ، أن يحدث الانتقال إلى العهد التالي في هدوء، كما يرغبون في تعيين خليفته في حال قوّته التامَّة، وبذلك يتقلَّص معدّل المخاطرة، ولا تُمَسُّ امتيازاتهم، لهذا تُظهِر وسائل إعلامهم رئيسي وتدعمه، بغَضِّ النظر عن حقيقة إن كان خامنئي هو من ابتكر فكرة إظهار رئيسي أم لا، وذلك في سياق تقليص حِدَّة معركة المصالح، ولكي يتمّ هذا الانتقال بعده بهدوء.
» الجزء المُبهَم
ما لا نعرفه بشأن إبراهيم رئيسي هو من دَعَمَه وقدّمه في بداية دخوله حلقة الأمنيِّين الخواصّ، ومَن وضع هذه الثقة الكبيرة في هذا الطالب الشابّ الذي تَرَقَّى بسرعة! وباستثناء هذه النقطة الغامضة فإن ما تَبَقَّى من سيرته واضح، فهو على الدوام في الصفّ الأول لخواصّ النِّظَام الأمنيِّين، سواء في عهد الخميني أو في عهد خامنئي. وعلى أي حال فإن له دورًا أساسيًّا في عمليات القتل التي حدثت إبّان الثَّورة، وكذلك في إعدامات السجناء السياسيين عام 1988.
في الحقيقة يثق النِّظَام كثيرًا بالأشخاص الذين كان لهم دور في أعمال القتل، لأنه يعلم أن هؤلاء الأفراد ليس لديهم أي فرصة أو مصلحة في تغيير النِّظَام، ولا يمكن أن يجدوا لأنفسهم مكانًا آخَر في العالَم، ومن جهة أخرى باع هؤلاء الأفراد أرواحهم للشيطان في شبابهم، وكان لديهم الاستعداد لارتكاب أي جريمة ليترقَّوا في الرُّتب. لذا ليس لدى النِّظَام أدنى مخافة تجاه هؤلاء الأفراد في المستقبل.
» أخطار تهدّد النِّظَام
اعتبر المحلِّل السياسي أن تحدِّي المصالح بين “كُتَل” النِّظَام المختلفة من الممكن أن يزداد، وبالتزامُن مع حدوث الاضطرابات الاجتماعية يمكنه تهديد وجود النِّظَام، وهو الخطر الأول. أما الخطر الثاني فهو تلك المخاوف التي تعتري خامنئي من أن يتخلى القائد المقبل عن طريق سلفه، وينتهج طريقًا جديدًا، والثالث أن يعيِّن القائدُ الجديدُ أفرادًا يهمّونه، وأن يُحدِث تغييرات واسعة بين شريحة الخواصّ، والنتيجة أنّ كثيرين سوف يفقدون امتيازاتهم. ومن جانب آخر عندما تحين لحظة تغيير القائد، وهي لحظة تمثِّل نقطة تحوُّل ونقطة ضعف كبرى للنِّظام في الوقت ذاته، من المحتمل أن يُبدي المستاؤون من النِّظَام جرأةً أكبرَ وينزلوا إلى الميادين. المهمّ في الأمر هو: هل سيختار خامنئي، وهو بكامل قوَّته، شخصًا من الشريحة الأمنيَّة ومن بين القتلة الذين يثق بهم، أم سيختار شخصًا تثق به غالبية القوى في السُّلْطة؟ هل يملك خامنئي القدرة على أن يختار شخصًا ويدعمه في حياته، ويقنع به جميع مراكز القوى، حتى تحدث عملية الانتقال بهدوء بعد موته؟ في هذه الحالة، هل توجد فرصة كافية، أم أن الأجل لن يمهله؟
بالنظر إلى هذه النقاط يُعَدّ رئيسي خيارًا مناسبًا، فهو شخص له علاقات مع الشبكات الأمنيَّة كافَّةً وكذلك الحرس الثوري، وله جماعة قوية تسانده في مشهد، كما أنّه يَدّعي أنه كان تلميذًا لـ15 عامًا في حلقة درس “بحث الخارج” لخامنئي، التي لم يكُن خامنئي هو من يدرّس فيها آنذاك. ولكن مع أن رئيسي مرشَّح مناسب فإنه ليس الخيار الوحيد.
» البدائل الأخرى
أوضح شريعتمداري أنه يجب التنبُّه لحقيقة أن القائد التالي سيكون نتيجة لتوافُق مؤسَّسة القائد والقائد، مع الحرس ورجال الدين، الطرفَين اللَّذَين يشكِّلان عمادَي السُّلْطة الرئيسيَّين، فالحكومة والإصلاحيون مع أنهم لن يتمكنوا من لعب دورٍ في تحديد القائد فمن الممكن أن يلعبوا دورًا في بعثرة الأوراق في الحالات القهرية، مثل موت خامنئي أو عجزه، كما يجب الانتباه للخيارات المطروحة والتيَّارات التي يمكن لهذه الخيارات أن تكسب وُدَّها، فالذين كانوا تلاميذَ لدى القائد، مثل محمود علوي وزير الاستخبارات، وإبراهيم رئيسي، من الممكن أن تكون لهم علاقات أفضل مع القائد، وأن يكون خامنئي مطمئنًّا إلى أنّهم سيكملون طريقه، وهم بدورهم سيكونون مخلصين بشأن الاستمرار في هذا الطريق، لكن ليس معلومًا إلى أي حدّ يتمتّع هؤلاء بشعبية بين رجال الدين، أو إلى أي حدّ يمكنهم أن يصلوا إلى تسوية مع جميع تيَّارات الحرس.
كما يمكن لهاشمي شاهرودي وصادق لاريجاني أن يكونا محطّ ثقة رجال الدين بشكل أكبر، ولكن ليس معلومًا إن كانا يتمتعان بمكانة رفيعة وعلاقات متعددة بين أوساط الحرس، وعلى الرغم من أن لاريجاني له علاقات مقرَّبة مع البعض في مؤسَّسة القيادة، فإن بعض التيَّارات السياسية من الممكن أن يكون لديها حساسية تجاه شاهرودي، مع أنه درّسَ خامئني ومحطّ ثقة بعض أطياف القيادة. الخيار الآخر هو مجتبى، ابن خامنئي، الذي سيُطرَح اسمه في ما بعد، ولكن الاحتمال ضعيف جدًّ، لأنه شخصيَّة تعمل في الخفاء.
أحمد الخميني الذي كان يتولى جميع شؤون الخميني خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، ويعرفه جميع الخواص في إيران، لم يُطرَح اسمه في مجلس خبراء القيادة بوصفه مرشَّحًا متوقَّعًا. أما مجتبى خامنئي فلديه منافسون أقوياء في مؤسَّسة القيادة، فضلًا عن أن المجتمع لا يعرفه من الأساس، وإذا افترضنا أن اسمه لم يُطرَح خلال الأشهُر المقبلة فإن فرصه ستكون قليلة جدًّا لخلافة والده. بالطبع يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن حسين طائب مساعد رئيس استخبارات الحرس، والأشخاص من رجال دين الحرس، ورجال الدين المتنفّذين الموالين للحرس، هم أقرب إلى مجتبى، ومن الممكن أن يجعلوا موافقة الحرس منوطًا بها انتخاب شخص مثل مجتبى.
من جانب آخر، ظهرت حكومة ترغب في أن تحوز السُّلْطة النهائية، لكنها لا تمتلك الأدوات لذلك. في مثل هذه الظروف يمكن لروحاني، عبر تقديم نفسه مرشَّحًا، أن يلعب هذا الدّور، وأن يتمتع بدعم قطاعات من النِّظَام والمجتمع.
المهمّ هنا أنّ خامنئي إذا لم يتمكن، في حال حياته، من اختيار أحد هذه الخيارات وتقويته وتثبيته بحيث يصبح بشكل رسميّ وعمليّ المرشَّح التالي لمنصب وليّ الفقيه، وتزول بذلك جميع الاستفسارات، فحادثة تغيير القائد ستكون معقَّدة ومصحوبة بأحداث غير متوقَّعة، لأن حرب المصالح ستقع، بخاصة في ما يتعلق بموضوع رجال الدين الذين هم حتى الآن يقفون في صفوف السُّلْطة الأولى ممسكين بزمام الشؤون السياسية، فهل سيحافظ هؤلاء، بعد خامنئي، على سلطتهم، أم أن الحرس سيستحوذ على هذه السُّلْطة وتتحول المؤسَّسة الدينية إلى أداة بيد الحرس؟
في هذه المعادلة التي تحتوي على عدة متغيرات، إذا لم يُمنح خامنئي الفرصة لتثبيت خليفة له، فبإمكان استمرار حرب المصالح أن يُدخِل حسن الخميني ومجتبى خامنئي وأفرادًا آخَرين إلى الميدان، وفي حال طالت مدّة هذه الحرب، فيُحتمل أن ترافقها أحداث لا يمكن التنبُّؤ بها اليوم.
التخمين في هذا الموضوع صعب جدًّا، لكن يمكن لخامنئي أن يثق بتلاميذه بسبب ولائهم لنهجه، فهو ملتزم بشكل كبير بالطريق الذي انتهجه خلال سنوات قيادته البضع والعشرين، ويؤكِّدها في خطاباته بشكل دائم، ومن معالمها العداء لأمريكا، ونفوذ إيران خارج حدودها، وتثبيت إيران كقوة إقليمية ودولية. بناءً عليه فإن “قائد الثَّورة” مقيَّد للغاية بأن يختار شخصًا يسير على طريق الثَّورة التي يظنّ أنها تحدث الآن، وأن لا يسمح هذا الشخص بأن تعود الأمور إلى طبيعتها، وأن يسجِّل أثر خامنئي في التاريخ، وأن يخلّد اسمه، وما هو مسلَّمٌ به أن أشخاصًا مثل شاهرودي ولاريجاني سيُحدِثون تغييرات على نهجه بعد موته، وسَيُسيِّرون شؤون الدولة وفقًا لذوقهم.
لا شكّ في أن مؤسَّسة القيادة هي الأقوى من بين القوى الثلاث، أي رجال الدين والحرس ومؤسَّسة القيادة، ما دام خامنئي على قيد الحياة، وبعد خامنئي ستصبح هذه المؤسَّسة هي الأضعف، ولن يلعب موضوع “عناية خامنئي” دورًا كبيرًا، لذا سيلعب مجلس خبراء القيادة دورًا ثانويًّا في القيادة، أي إنّ السيناريوهات سيُتفَق عليها قبل التصويت في مجلس الخبراء، والشخص الذي سيُصوَّت له هو من يَحظَى بتأييد كلّ من الحرس ورجال الدين ومؤسَّسة القيادة.
» المجازفة الكبرى
في حال الوصول إلى طريق مسدود بسبب موت خامنئي، يمكن لبعض الشخصيَّات مثل هاشمي رفسنجاني -بالطبع إذا بقي حتى ذلك الوقت على قيد الحياة- أو خاتمي أو الآخرين، أن يجمعوا الأفراد المستائين من الانتخابات التي ستحدث حينها، ربما لن يتمكنوا من تقديم سيناريو خاصّ بهم، ولكن قد يستطيعون أن يُحبِطوا المخطَّط الموجود، فمثلًا يمكنهم كسب أصوات البعض في مجلس الخبراء، وفي مثل هذه التركيبة من الممكن لبضعة آراء أن تحدد المصير.
الحقيقة أن الإصلاحيين اليوم لا يمثِّلون قطاعًا اجتماعيًّا كبيرًا وقويًّا، والمقصود القاعدة الاجتماعيَّة المؤثرة سياسيًّا. صحيحٌ أنه قد يمكنهم إحباط السيناريو الْمُعَدّ والمتَّفَق عليه مُسبَقًا، لكن حتى الآن لا تُرى فيهم أي معالم تدلّ على أن بإمكانهم إنجاح السيناريو الخاصّ بهم.
بالطبع جميع هذه التوقعات مشروطة بأن تبقى “الجمهورية الإسلامية” صامدة حتى ذلك الوقت أمام موجة الاستياء، والظروف الاجتماعية السيئة، وأوضاع المنطقة، وأن يمكنها تَحَمُّل هذه الخلافات حتى النهاية، وتثبِّت دعائم القائد الجديد، فمن أكبر الأخطار التي يمكن أن تهدّد الأنظمة السلطوية التي توشك على الانهيار عملية تغيير القائد التي تُعتَبَر مجازفة كُبرَى.
المصدر: موقع زيتون