أجبرت الولايات المتحدة أعضاء حلف الناتو من الأوروبيين أن يرفعوا حصتهم من الانفاق العسكري في الحلف وهددت، تحت دوافع أمنية، بالاستيلاء على جزيرة غرينلاند وهو إقليم ذاتي الحكم تابع للدنمارك. بالعودة إلى الماضي وبالتحديد خلال الحرب العالمية الثانية غزت الولايات المتحدة جزيرة غرينلاند بعد انسحاب النازيين من الدنمارك ومنذ ذلك اللحين حافظت الولايات المتحدة على مصالحها العسكرية في هذه الجزيرة. وفي وقتنا الحاضر وبالتحديد في مارس 2025، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطابٍ ألقاه أمام الكونغرس عن نيته لضم الجزيرة قائلًا: «نحن بحاجة إلى غرينلاند من أجل أمننا القومي بل وحتى العالمي، ونعمل مع جميع الأطراف المعنية لمحاولة تحقيق ذلك، سنحصل عليها بطريقة أو بأخرى، سنحصل عليها». وصرح نائبه جي دي فانس خلال زيارته للجزيرة واضعًا الأعراف الدبلوماسية جانبًا:«رسالتنا إلى الدنمارك بسيطةٌ للغاية، لم تُحسنوا معاملة شعب غرينلاند». أما موقف شعب الجزيرة فقد صوت سابقًا وبالأغلبية لنيل الاستقلال بدعمه «الحزب الديمقراطي» الذي يعارض ضم الجزيرة للولايات المتحدة حيث حاز على أغلبية مقاعد البرلمان. أما الدنمارك فقد رفضت على لسان رئيس وزرائها مته فريدريكسن ضغوطات واشنطن وتهديداتها الذي قال «لا يمكنكم ضم أراضي دولة أخرى».
مصالح أمريكية قديمة
اقترح وزير الخارجية الأمريكي ويليام هـ. سيوارد على الدنمارك والمملكة المتحدة بيع غرينلاند وكندا لأسباب أمنية وذلك بعد شراء ألاسكا من روسيا عام 1886م مقابل 7.2 مليون دولار. وبعد اجراء استفتاء، أبرمت الدنمارك معاهدة مع الولايات المتحدة في يناير 1917م، باعت بموجبها مجموعة من جزرها الكاريبية (المعروفة الآن بجزر فيرجن الأمريكية ( مقابل 25 مليون دولار من الذهب. وفي عام 1910م، حاولت الولايات المتحدة مبادلة جزيرتي مينداناو وبالاوان الفلبينيتين مع الدنمارك مقابل غرينلاند، ورفضت الدنمارك اقتراح المبعوث الأمريكي مرة أخرى. ومنذ الحرب العالمية الثانية، بقيت القوات الأمريكية في غرينلاند، في البداية بسبب التهديد بالعدوان النازي، ثم استمر هذا التواجد العسكري «طالما ثمة تهديدٌ لأميركا الشمالية»، وذلك وفقًا لاتفاقية ثنائية بين كوبنهاجن وواشنطن في عام 1943م.
وبعد الحرب الباردة في عام 1946م قدم الرئيس الأمريكي الرئيس هاري ترومان عرض الولايات المتحدة الأقوى؛ شراء الجزيرة الأكبر في العالم بقيمة مليار دولار رفضت الدنمارك هذه العرض، لكنها وافقت على استمرار الوجود العسكري الأمريكي وعضوية الناتو المشروطة. وشاركت في المناورات العسكرية لحلف الناتو واستضافتها أيضًا لكنها تجنبت التكامل العسكري الكامل؛ فلم توافق على وجود قواعد عسكرية على أراضيها ولا رؤوس حربية نووية ولا نشاط عسكري، باستثناء جزيرة غرينلاند حيث سمحت للقوات الأمريكية أن تبقى فيها في وقت السلم. وفي عام 1951م وضعت الولايات المتحدة نظام رادار للإنذار المبكر في «قاعدة ثول الجوية» التي أصبح اسمها مؤخرًا «قاعدة بيتوفيك الفضائية» تحت قيادة قوة الفضاء الأمريكية.
سيادة الدنمارك على جزيرة غريينلاند
سيطرت الدنمارك لأول مرةٍ على جزيرة غريينلاند في عام 1262م واستعادتها لاحقًا في عام 1721م، ثم ضمتها لأراضيها في 1814م، وانتهى حكم الدنمارك المباشر على الجزيرة في عام 1979م حيث منحت الحكومة الدنماركية الجزيرة الحكم الذاتي وعليه أُنشا برلمانها المنفصل الخاص بها. تتمتع غريينلاند الجزيرة الأكبر في العالم والتي تمتد على مساحة تزيد عن 2.1 مليون كيلومتر مربع، بموارد طبيعية غير مستغلة من المعادن الأرضية النادرة والنحاس والذهب واليورانيوم والنفط وثروات بحرية كبيرة. وتحت الحكم الذاتي ومقابل تلقيها دعم من الميزانية يصل إلى 60٪، تترك غريينلاند دفاعها وشؤونها الخارجية بيد الدنمارك، وتدير بنفسها شؤونها الداخلية. أما شعبيًا، يسعى وبغالبية ساحقة أهالي الجزيرة إلى الاستقلال لكنهم يترقبون بحذر اللحظة المناسبة لتحقيق هذا الطموح. عسكريًا، تبقي الدنمارك وجود عسكري رمزي حيث ترى التهديدات ضئيلة، وعلى النقيض تفوقت على مدار العقود الماضية القوات الأمريكية المتمركزة في غرينلاند على التواجد العسكري الدنماركي بمراحل، وهذا ما كشفه حادث تحطم طائرة عام 1968م؛ حيث تبين أن الولايات المتحدة شيدت وبدون إذن الدنمارك منشأةً لتخزين الأسلحة النووية تحت الأرض، شملت مفاعلًا نوويًا. لم يتقبل الشعب الدنماركي ولا برلمانه المنتخب وجود رؤوس نووية على أراضيهم، لاسيما أن هذه الفعل هو انتهاك صريح لشروط كوبنهاغن للانضمام إلى حلف الناتو.
المفاجأة البريطانية
ثمة حقيقة مثيرة جدًا في قصة غريينلاند وهي أن من يملك حق الشراء الأول للجزيرة من الدنمارك هي المملكة المتحدة، وفي هذا الصدد يقول الخبراء إن الدنمارك وقعت اتفاقية مع الولايات المتحدة لبيع جزر الهند الغربية الدنماركية أو جزر فيرجن الأمريكية في عام 1917م مقابل الاعتراف بالسيادة الدنماركية على غرينلاند. كما تم الاتفاق على أنه إذا قررت الدنمارك بيع غرينلاند، فإن بريطانيا العظمى – التي كانت قوةً ذات هيمنةٍ عظميةٍ آنذاك — ستحصل على حق الرفض الأول نظرًا لقرب الجزيرة الجغرافي والعرقي من كندا (التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك). واليوم، أصبحت المملكة المتحدة شريكًا ولاعبًا أقل نفوذًا على الساحة الجيوسياسية، لذا تخفي أوراقها ونواياها، إذ لم تعلن بعد عن حقها في الرفض لكنها تقف بحزم وراء سيادة الدنمارك على الجزيرة.
الدخول في نظام ترامب
تتابع إدارة ترامب تنامي اهتمام الصين بجزيرة غريينلاند لاسيما بعد ذوبان جليد المحيط المتجمد الشمالي واستمرار الممرات المائية لفترات مفتوحة وسالكة لفترات أطول من السنوات السابقة، مما جعل وقت الشحن من موانئ أوروبا إلى آسيا ينخفض إلى 14 يومًا (متجاوزًا قناة السويس والبحر الأبيض المتوسط) بينما انخفض وقت العبور البحري من موانئ شمال شرق الولايات المتحدة إلى آسيا إلى 20 يومًا. وبفضل هذه التغيرات، ستتمتع السفن الحربية الروسية والصينية أيضًا بحرية غير مسبوقة في هذه المياه، مما يزيد من أهمية ما يسمى بفجوة GIUK —وهي الفجوة بين غرينلاند وأيسلندا والمملكة المتحدة— لأغراض المراقبة والدفاع، ولأن هذه الدول أعضاء في حلف الناتو، لا توجد عقبة أمام تعزيز تدابيرهم الأمنية.
ولا تُشكّل غرينلاند أي تهديد للمصالح الأمريكية لأنها تابعة لحلف الناتو، لذا تستمر القواعد الأمريكية في الجزيرة بالعمل بسلاسة، مع وجود تحذير وحيد، وهو أن الدنمارك لا تزال تُعارض نشر الرؤوس النووية على أراضيها. وبما أن الرئيس الأمريكي يطمح إلى تطوير ونشر مبادرة الدفاع الصاروخي «القبة الذهبية»، فإن ذلك يستلزم تركيب أنظمة دفاعية في مواقع الدفاع الأمامية للولايات المتحدة، بما في ذلك ألاسكا وغرينلاند. وإلى حين تطوير نظام الدفاع الصاروخي الجديد وتشغيله، قد يرغب «البنتاغون» في نشر أسلحة نووية في غرينلاند، وهي محظورة حاليًا. وداخليًا، سيجد البرلمان الدنماركي صعوبة بالغة في تغيير موقفه حتى مع استمرار الضغط من الجانب الأمريكي.
علاوة على ذلك، يفاقم سعي الولايات المتحدة للحصول على الموارد الطبيعية، وخاصةً المعادن الأرضية النادرة الضرورية لتطوير تقنيات المستقبل، الأزمة تعقيدًا؛ فبموجب قوانين البيئة في الاتحاد الأوروبي، يخضع تعدين الموارد الطبيعية لرقابة صارمة، مما يتعارض مع نهج الحكومة الأمريكية الحالية. ورغم أن اختصاص الاتحاد الأوروبي لا يشمل غرينلاند وجزر فارو، إلا أن نوك أبرمت شراكة مع بروكسل، حيث تعتمد المعايير البيئية نفسها بموجب تشريعاتها. وأخيرًا و في محاولة لتهدئة ترامب، يدرس البرلمان الدنماركي اتفاقية تعاون دفاعي مع الولايات المتحدة، تمنح بموجبها الجيش الأمريكي صلاحيات واسعة لنشر قواته وتخزين معداته على أراضي الدنمارك القارية لمدة عشر سنوات، لكن لا تزال النقاشات حول هذه الموضوع مستمرة في البرلمان الدنماركي ومن المتوقع التصويت النهائي عليها بنهاية شهر يونيو من هذا العام.