جولة ترامب الآسيوية.. إعادة ترسيخ النفوذ الأمريكي وسط تصاعد المنافسة بين القوى الكبرى

https://rasanah-iiis.org/?p=38376

اختتم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخرًا أولى جولاته الآسيوية منذ عودته إلى البيت الأبيض، لتأتي في خضم تصاعد المخاوف من حرب الرسوم الجمركية والتوترات الاستراتيجية مع الصين، والتي ألقت بظلالها على التجارة العالمية. لم تكن هذه الجولة مجرد زيارة بروتوكولية، بل كانت عملية واسعة النطاق تهدف إلى إعادة ترسيخ النفوذ الأمريكي وتأمين صفقات اقتصادية حاسمة، بما يُعزز مصالح واشنطن وشراكاتها. ويعكس نهج ترامب محاولة استراتيجية لإعادة تقوية الوجود الأمريكي في آسيا، إلى جانب السعي لتخفيف حدة المخاطر وإعادة ضبط قواعد التعاون مع الدول الآسيوية، في إطار يتسم بـ «الندية» والصفقات المتبادلة.

كان اللقاء الأكثر ترقبًا في هذه الجولة هو قمة ترامب مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في بوسان، حيث سعى الجانبان إلى احتواء التوترات التي كبدت التجارة العالمية خسائر فادحة. أثمرت القمة عن هدنة تكتيكية؛ فوافقت الصين على تعليق قيودها على صادرات المعادن النادرة لمدة عام، وتعهدت بالحد من صادرات المواد الأولية المستخدمة في تصنيع الفنتانيل، مقابل موافقة واشنطن على خفض بعض الرسوم، واستئناف بكين استيراد المنتجات الزراعية الأمريكية. ومع سعي كل بلد لتعزيز نفوذه، يتضح أن كلاهما غير مستعد للرضوخ لضغوط الطرف الآخر، مفضلًا استراتيجية النفس الطويل. وتكشف تقارير، عن تحركات صينية استراتيجية، حيث تعمل بكين على تطوير نظام «المستخدم النهائي المُعتمد | VEU» لتقييد وصول الشركات المرتبطة بالجيش الأمريكي إلى المعادن النادرة، بينما تسهّل وصول الشركات المدنية الموثوقة. هذا التوجه يُنذر بتعقيد سلاسل التوريد الخاصة بالمواد الحيوية للشركات الأمريكية والأوروبية العاملة في المجالين المدني والدفاعي معًا.

على الرغم من إبداء ترامب انفتاحًا تجاه تخفيف القيود على صادرات الصين التكنولوجية إلى الأسواق الأمريكية، فقد أكد أن محادثاته مع شي بشأن تجارة «أشباه الموصلات» لم تشمل معالجات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، التي ما زالت خاضعة للقيود الأمريكية الصارمة. وفي تأكيد على الموقف الأمريكي الثابت، صرح المدير التنفيذي لشركة «إنيفيديا» جنسن هوانغ، أن القوانين الأمريكية تمنع تصدير رقائق «بلاكويل» إلى الصين. وقدم الطرفان تنازلات محسوبة تتعلق بالرسوم وصادرات المعادن النادرة والديناميكيات التجارية الأوسع، مما يُشير إلى سعي واشنطن وبكين في الوقت الراهن إلى إدارة المخاطر المباشرة وتعديل ردودهما المتبادلة. إلا أن هذه التهدئة لا تُخفي حقيقة أن التنافس الاستراتيجي العميق على الريادة التكنولوجية ما زال هو العامل الحاسم في مسار العلاقات وتأثيرها على التجارة العالمية.

في هذا الصدد، تُبرز موجة الاتفاقات التجارية التي أعلن عنها ترامب خلال جولته الآسيوية إصرار الولايات المتحدة على توظيف الروابط الاقتصادية لخدمة أهداف استراتيجية وبلورة شكل من التعاون المشروط الذي يعزز نفوذها. وبالنظر إلى الإطار الذي وضعه «الأمر التنفيذي 14346»، تُظهر واشنطن سعيًا حثيثًا لإضفاء طابع مؤسسي على الوصول التفضيلي إلى الأسواق من خلال الاتفاقات والأطر المقترحة مع فيتنام وماليزيا وكمبوديا وتايلاند، مما يُعمق المواءمة الاقتصادية مع شركاء رئيسيين في جنوب شرق آسيا. تمثل هذه الحزمة مجتمعة تحولًا في النهج الأمريكي، إذ انتقلت واشنطن من المواجهات القائمة على الرسوم العقابية إلى إطار من التبادلية المتفاوض عليها، وذلك بعد أن دفعت ضغوط ترامب الأولية تلك الدول إلى السعي لإبرام صفقات تجارية مع الولايات المتحدة.

وأطلقت الولايات المتحدة وتايلاند إطارًا تجاريًا ضخمًا، تلتزم بموجبه بانكوك بشراء منتجات أمريكية تزيد قيمتها على 20 مليار دولار، تشمل الطائرات والمنتجات الزراعية والطاقة، مع إزالة معظم الرسوم على السلع الأمريكية. في المقابل، تمنح واشنطن تعرفة صفرية على بعض المنتجات، مع الإبقاء على رسم بنسبة 19% على سلع أخرى. هذه الصفقة تجسد نموذج «التبادلية المتفاوض عليها» التي يسعى إليها ترامب لتعزيز المصالح الاقتصادية الأمريكية بشكل مباشر.

بشكل مُشابه، اتفقت الولايات المتحدة وفيتنام على إطار للتجارة المتبادلة والمتوازنة، يفرض رسومًا بنسبة 20% على معظم السلع الفيتنامية مع خفض بعضها إلى الصفر، مقابل منح المنتجات الأمريكية وصولًا تفضيليًا للأسواق الفيتنامية. وقد توصلت واشنطن إلى مُقترح مُشابه مع ماليزيا، إلا أن هذا المقترح قوبل بتحفظات؛ حيث أعرب عدد من النواب الماليزيين عن مخاوفهم من أن الاتفاق المقترح يميل بشكل كبير لصالح الولايات المتحدة، مما يشير إلى حساسية التوازن في هذه الشراكات الجديدة.

كما توصلت الولايات المتحدة وكمبوديا إلى اتفاق تجاري يلتزم الأخير بموجبه بإلغاء الرسوم على جميع السلع الصناعية والغذائية والزراعية الأمريكية، مقابل منح الولايات المتحدة تعرفة صفرية على أصناف محددة. على صعيد آخر، لعب ترامب دورًا مباشرًا كوسيط في وقف إطلاق النار بين تايلاند وكمبوديا بعد خمسة أيام من الاشتباكات الدامية في يوليو الماضي، والتي أدت إلى مقتل ما لا يقل عن 43 شخصًا وتشريد أكثر من 300 ألف مدني. ومع ذلك، عادت التوترات إلى الواجهة مؤخرًا، حيث علقت تايلاند تنفيذ اتفاق السلام الذي توسطت فيه واشنطن بعد إصابة جنديين تايلانديين بانفجار لغم قرب الحدود. ورغم أن تدخل ترامب أوقف القتال مؤقتًا، فإن النزاع الجوهري بين البلدين ما زال دون حل، مما يجعل الهدوء الهش مهددًا بالانهيار.

ربما يتمثل الجانب الأهم والأكثر تأثيرًا في نهج ترامب في سياسته الأمنية. فالتطورات الأمنية في المنطقة أصبحت مصدر قلق متزايد بسبب السلوك الصيني الأكثر حزمًا. ورغم محاولات واشنطن معالجة بعض هذه القضايا بنهجها التفاوضي الأخير، لا تزال حدود استعداد الولايات المتحدة لتحمل أعباء أمنية تتجاوز مصالحها الاستراتيجية غير واضحة. كما يواجه أي مسعى لمواجهة فعالة للصين تحديًا جوهريًا، يتمثل في ضرورة الانخراط الأمريكي عبر أطر متعددة الأطراف، وهو نهج لم يُبد ترامب اهتمامًا به ولا يتماشى مع أسلوبه التفاوضي الفردي المفضل.

وخلال الجولة، ركز وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسِث، على تعميق العلاقات الدفاعية مع ماليزيا والهند وكمبوديا. كما أطلقت «قوة المهام الفلبينية» بهدف تعزيز قابلية التشغيل البيني بين القوات في المنطقة. على المستوى الأمني الأكبر، جدّد الرئيس ترامب التأكيد على التحالف الأمريكي-الياباني خلال مؤتمر «أبيك» في كوريا الجنوبية، مُشددًا على الالتزام المشترك بإقامة «منطقة حرة ومفتوحة في المحيطين الهندي والهادئ». وأكدَّ ترامب ورئيسة الوزراء اليابانية سناي تاكايتشي على تنامي الدور الدفاعي لليابان، بالتزامن مع تسريع الولايات المتحدة تسليم صواريخ AMRAAM المتقدمة. وناقش الجانبان سُبل تعميق التعاون العسكري والتدريبات المشتركة، وذلك كرد فعل مباشر على التوترات الإقليمية وتصاعد الوجود العسكري الصيني.

وقد أعلن ترامب والرئيس الكوري الجنوبي لي جاي ميونغ، عن تقدم ملموس في محادثات التجارة والأمن. حيث وافقت سيول على خطة استثمارية بقيمة 350 مليار دولار، منها 200 مليار نقدًا و150 مليارًا مُخصصة لقطاع بناء السفن. الأكثر أهمية هو التحول الكبير في اللاعقات الأمنية الثنائية، حيث وافقت واشنطن على السماح لكوريا الجنوبية ببناء غواصات تعمل بالطاقة النووية داخل الولايات المتحدة. كما أعلن الرئيس لي، عن زيادة في الإنفاق الدفاعي بلغت 8.2% (وهي الأكبر خلال ست سنوات) ليبلغ إجمالي الإنفاق 66.3 تريليون وون (47.1 مليار دولار). هذه التطورات تُرسخ من الدور الأمني الكوري الجنوبي في مواجهة التهديدات الإقليمية.

تعكس هذه التطورات استمرار الانخراط الدفاعي الأمريكي الفعال في جنوب شرق آسيا والمحيطين الهندي والهادئ، وتؤكد حرص واشنطن المستمر على تثبيت نفوذها الاستراتيجي رغم كل المخاوف والشكوك. يرتكز نهج ترامب الأساسي على مطالبة دول المنطقة بزيادة إنفاقها الدفاعي، ويظل نجاح هذا النهج مرهونًا بقدرة واشنطن على طمأنة شركائها وإثبات التزام طويل الأمد يتجاوز التعاملات الآنية والمشروطة.

تواجه دول جنوب شرق آسيا ضغوطًا متزايدة ومزدوجة من واشنطن وبكين في آن واحد. فمن جهة، تستهدف الرسوم الأمريكية البضائع الصينية المُعاد تصديرها عبر المنطقة، مما يهدد سلاسل القيمة الخاصة بها. ومن جهة أخرى، تهيمن البضائع الصينية على أسواق المنطقة، بينما تربطها بالصين روابط اقتصادية عميقة تشمل الاستثمارات وسلاسل التوريد والتجارة، مما يجعلها شديدة الارتباط ببكين. ورغم أن صفقات ترامب الأخيرة مع دول آسيان (رابطة دول جنوب شرق آسيا) تُشير إلى تقارب أكبر مع واشنطن، فإن المنافسة المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تشكّل عاملًا أساسيًا في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي الإقليمي، حيث يتم استخدام الاتفاقيات التجارية بشكل متزايد كأدوات للنفوذ الجيوسياسي، مما يضع دول المنطقة أمام معضلة التوازن بين القوتين.

في المقابل، عززت الصين ورابطة آسيان (رابطة دول جنوب شرق آسيا) شراكتهما خلال القمة الأخيرة بترقية اتفاقية التجارة الحرة بينهما إلى «النسخة 3.0». يهدف هذا التحديث إلى توسيع التعاون ليشمل البنية التحتية والاقتصاد الرقمي والتحول الأخضر. وانتقد رئيس الوزراء الصيني لي تشيانغ السياسات الحمائية الأمريكية، ساعيًا إلى تقديم الصين كشريك إقليمي أكثر استقرارًا. وقد شهدت تجارة الصين مع آسيان نموًا كبيرًا، حيث بلغت 785 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025م. ورغم أن الصين هي أكبر شريك تجاري لآسيان، فإن الولايات المتحدة ما تزال تحتفظ بحضور واسع، مع حجم تجارة بلغ 571.7 مليار دولار عام 2024م، بالإضافة إلى دورها المحوري كشريك أمني ودفاعي.

وفي ظل هذا السياق الجيوسياسي، سيعقد التنافس الدائر بين واشنطن وبكين من استراتيجيات التحوط في المنطقة، ستجد دول جنوب شرق آسيا صعوبة متزايدة في اتباع استراتيجيات الموازنة الحذرة، مع محاولة الحفاظ على علاقاتها الاقتصادية الممتدة مع الصين وفي الوقت ذاته الإبقاء على علاقات إيجابية مع الولايات المتحدة. وستبقى الشراكات الدفاعية والأمنية أولويةً استراتيجيةً لحلفاء واشنطن في المحيطين الهندي والهادئ، وقد دفع النهج الأمريكي القائم على المعاملات المتبادلة-إلى جانب التحديات الأمنية المتزايدة-تلك الدول إلى زيادة إنفاقها العسكري وتوجيه استثمارات ضخمة نحو الولايات المتحدة، وهو ما يراه ترامب إنجازًا سياسيًا واقتصاديًا. وسيتحدد مستقبل هذا النهج بدرجة كبيرة وفق تطورات العلاقات الأمريكية-الصينية، ومدى صلابة الالتزامات الأمنية الإقليمية، وقدرة دول المنطقة على تنويع اقتصاداتها. كما تُضيف المواقف الشعبية الداخلية ضغطًا إضافيًا على حكومات المنطقة في التعاطي مع سياسات واشنطن. وفي ضوء هذه المعطيات، سيكون لخيارات دول جنوب شرق آسيا دور حاسم في تشكيل موازين القوى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما يحمله ذلك من تداعيات واسعة على استقرار المنطقة.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير