جولة عراقجي الأخيرة.. دبلوماسية بناء الثقة في ظل تعقيدات المحادثات النووية

https://rasanah-iiis.org/?p=37647

زارَ مؤخرًا وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، المملكة العربية السعودية، ودولة قطر، وسلطنة عُمان، والإمارات العربية المتحدة، حيث أطلعهم على آخر التطورات فيما يخُص مفاوضات إيران مع الولايات المتحدة حول الملف النووي. وناقش سُبل تعزيز التعاون الثنائي والتطورات الأمنية في المنطقة. وكان الهدف الرئيسي من زيارته يتمثل في تنسيق موقف إيران في المفاوضات النووية الجارية مع دول الخليج العربي، وبناء الثقة وإزالة شكوك دول الجوار من نوايا إيران والنتائج المحتملة في حال تَوصَّل الأطراف لاتفاق نووي جديد.

أتت هذه الجولة قُبيل زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، للشرق الأوسط التي جرى خلالها التوقيع على عِدة اتفاقيات لتعزيز التعاون مع دول الخليج العربي في مجالات: الأمن والتكنولوجيا والاقتصاد. وفي هذا التوقيت والسياق، تحمل جولة عراقجي دلالاتٍ بالغة الأهمية؛ إذ تعكس ردة فعل إيران الاستراتيجية على التحولات الجيوسياسية المتسارعة في المنطقة، كما تؤكد سعي طهران لإعادة رسم صورتها ونقلها من صورة القوة المزعزعة للاستقرار، إلى صورة الشريك في استباب الأمن الإقليمي، وذلك في وقت يتسم بانعدام الثقة وتنافس محموم لمزيد من النفوذ. ناهيك أن إيران تُدرك جيدًا الدور الدبلوماسي المتنامي الذي تلعبه دول الخليج في المنطقة ونفوذها في رسم ملامح أي اتفاق نووي مُزمع.

أكد عراقجي خلال مؤتمر صحفي عُقد في جدة مع نظيره السعودي: أنَّ «للمملكة العربية السعودية دورٌ هام في استدامة أي اتفاق مُحتمل، وأن التنسيق مع الرياض أولوية لدينا». وأشار أيضًا إلى: أن «أي اتفاق يتجاهل مصالح دول المنطقة لن يكون دائمًا». ورغم أن السعودية ليست شريكًا مُباشرًا في المحادثات النووية التي تتوسط فيها سلطنة عُمان، إلا أن علاقاتها الوثيقة مع واشنطن تجعلها وسيطًا مُحتملًا، مما يُعزز نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي. كما ناقش الوفدان الوضع الأمني ​​في البحر الأحمر، وأقرّا بضرورة التعاون الإقليمي للحفاظ على الاستقرار؛ إذ توسطت عُمان في هُدنة بين الولايات المتحدة و «الحوثيين» لمنع المزيد من التصعيد، وذلك قُبيل زيارة ترامب للمنطقة. وخلال زيارة ترامب إلى السعودية، أعلن أنه سيرفع العقوبات عن سوريا بناءً على طلب ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مما يعكس تحوّلاً كبيرًا في السياسة الأمريكية؛ وإدراكًا منها للدور المحوري الذي تلعبه دول الخليج، تبدو إيران الآن حريصةً على المشاركة في جهود خفض التصعيد الإقليمية، وتُعرب عن استعدادها لتقديم ضمانات لجيرانها العرب.

وخلال جولته، زار عراقجي، قطر والتقى برئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن جاسم آل ثاني، وناقش معه تطورات الأوضاع في غزة، بالإضافة إلى قضايا إقليمية أخرى. كما حضر خلال زيارته قطر «المؤتمر الرابع للحوار العربي-الإيراني» في الدوحة، حيث أكد على أهمية الحوار الإقليمي في ظِل الصراعات الدائرة وتحولات موازين القوى. وشدَّد المؤتمر على «الحاجة لشراكة مستدامة وبنَّاءة لضمان السلام والاستقرار الإقليميين». وتُمثل هذه الجهود، من خلال توظيف الدبلوماسية الثنائية، جِسرًا بين المفاوضات الرسمية للدول والحوار غير الرسمي، مما يسمح للطرفين باستعراض القضايا الحساسة في بيئة مرنة وأقل خطورة، ما يُسهم في صياغة السياسات الرسمية، وبناء الثقة اللازمة للتعاون المستقبلي. وفي إطار جهود إيران لبناء توافق إقليمي حول المحادثات النووية والمخاوف الأمنية الأوسع، التقى عراقجي أيضًا نظيره الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، في أبو ظبي في 12 مايو، حيث ركز اهتمامه على تعزيز نهج إقليمي مُنسق ومُوحد تِجاه القضايا الرئيسية، بما فيها القضية الفلسطينية. وقد زار عراقجي عُمان في سياق المحادثات النووية السابقة (الجولة الرابعة)، حيث شَكَر السلطنة على استضافتها للمحادثات، مؤكدًا على أهمية وساطتها في المفاوضات. وجدَّدت إيران التزامها بالتطوير النووي السلمي بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي، مؤكدةً استعدادها لمواصلة الحوار الدبلوماسي، رغم ذلك طالبت الولايات المتحدة إيرانَ بتفكيك منشآت تخصيب اليورانيوم ووقف جميع أنشطة التخصيب، معتبرةً ذلك خطًا أحمر غير قابل للتفاوض. ومن جانبه، أكدَّ عراقجي موقف إيران الرافض لامتلاك أسلحة نووية، مؤكدًا حقها «السيادي في مواصلة تطوير برنامجها النووي السلمي، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم». وأعرب عن تفاؤله بإمكانية التوصل إلى اتفاق نووي عادِل ومتوازن، شريطةَ أن تتخلى الأطراف الأخرى عن مطالبها «غير الواقعية». وقبل الجولة الرابعة من المفاوضات، حذَّر القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، الولايات المتحدة من عواقب وخيمة، مُهددًا بـ «فتح أبواب جهنم» إنْ هاجمت الولايات المتحدة أيًا من المنشآت النووية الإيرانية. تكشف لنا هذه التصريحات طبيعةَ الانقسامات الداخلية في إيران ونهجَ طهران الثنائي؛ فبينما تعمل قنواتها الدبلوماسية على تأمين اتفاق، يستمر «المتشددون» في موقفهم المتشكك، مُستخدمين لهجةً خطابيةً قويةً لتعزيز رواياتهم على الصعيد الداخلي والإقليمي. وعلى الجانب الآخر، وصفَ المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي، المناقشات بأنها «صَعبة لكنها مُفيدة»، مُشيرًا إلى أنه على الرغم من بقاء قنوات الاتصال مفتوحة، إلا أنَّ قضايا أساسية مثل: سقف تخصيب اليورانيوم وتخفيف العقوبات لا تزال قائمة. ومن خلال تأكيدها المتكرر على حقوقها بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي والطبيعة السلمية لبرنامجها، لا تهدف إيران فقط إلى تأكيد الشرعية القانونية لبرنامجها، بل أيضًا إلى حِياكة سردية تخدم مصالحها. وفي هذ الصدد، يبدو أن كلًا من إيران والولايات المتحدة تُديران الروايات العامة بعناية من خلال التأكيد على إحراز التقدم في المفاوضات بهدف الإبقاء على قنوات التواصل مفتوحة، لكن بحدود لتجنب الظهور بمظهر المتساهل. لذلك نجدُ الولايات المتحدة مُصرة على تقييد البرنامج النووي الإيراني بشكل صارم. بينما، تؤكد إيران استعدادها للتفاوض بشأن نطاق التخصيب ومستواه وكميته لفترة زمنية محددة فقط لبناء الثقة[ME1] . وفي سياق هذه التطورات أصبح دور عُمان ودول الخليج الأخرى مُهمًا جدًا لتحقيق انفراجة في هذا الملف. لا سيما أنهم وسطاء موثوقون قادرون على الحِفاظ على قنوات اتصال سرية ومنع نقل التصورات الخاطئة.    

وإقليميًا، اتجهت طهران الآن إلى النهج الدبلوماسي لتخفيف وطأة الضغوط الخارجية وبناء الثقة مع الدول المجاورة؛ إذ تعكس محادثات عراقجي مع قادة الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية، بشأن القضية النووية جُهدًا مدروسًا لطمأنة الرياض بأن طهران لن تُشكل تهديدًا مباشرًا، وأيضًا لتقديم ضمانات أمنية. ويعكس هذا التواصل إعادة تقييم استراتيجي أوسع نِطاقًا، حيث تبحث الرياض وطهران، رغم التوترات السابقة، سُبل حل المسائل الأمنية الحساسة بشكل ثنائي. وتستندُ هذه الجهود إلى تبادُلات سابِقة رفيعة المستوى، أهمها زيارة وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، إلى طهران، والتي تُشير إلى أن كِلا الجانبين يختبران أسلوبًا جديدًا للتواصل يُعطي الأولوية للحوار الإقليمي على الوساطة الخارجية. وإذا استمر هذا النهج، قد نشهد تحولًا كَبيرًا في هيكل الأمن الإقليمي، مما يُرسخ الاستقرار في التعاون بين دول الإقليم نفسه بدلًا من التدخل الأجنبي. ومن الواضح أن واشنطن أصبحت أكثر اعتمادًا على حلفائها الإقليميين المقربين، لا سيما المملكة العربية السعودية، حيث تتلاقى مصالحهم نحو تجنب الصراع، سعيًا لضمان الاستقرار وتعزيز الدبلوماسية على المواجهة. وهذه نقطة بالغة الأهمية بالنظر إلى حرص ترامب على تجنب الدخول في حروب جديدة، مُرجحًا كفة التفاوض وضبط النفس الاستراتيجي على المشاركة العسكرية المباشرة. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح مدى نجاح هذا النهج؛ لأنه يعتمد إلى حدٍ كبير على مأسسة آليات الشفافية وحل النزاعات، بالإضافة إلى قُدرة إيران على كبح وكلائها الإقليميين.

ويكشف تواصل إيران الأخير مع دول الخليج عن حرصها على التنسيق بين القوى الإقليمية وتقليل شكوكهم حولها قبل دخولها في المراحل الحاسمة عالية المخاطر من المفاوضات مع الولايات المتحدة. وبذلك، تعترفُ إيران ضمنيًا أيضًا بالنفوذ الجيوسياسي المتزايد لدول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية، التي لعبت أدوارَ وساطة حاسمة، وسعت بشكل سلمي لحل النزاعات الإقليمية والعالمية.


المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير