تتواصل العمليات العسكرية الروسية على الأراضي الأوكرانية بالتزامن مع حرب إعلامية لا تقِلّ أهمية، تجري بين أطراف الأزمة في الفضاء الإعلامي والإلكتروني، بكل منافذه الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي. أظهرت هذه الأزمة أن الكلمة والصورة والأرقام يمكن أن تكون سلاحًا فعّالًا يدعم المعارك التي تجري على الأرض، ولها تأثيرها في البِنْية الذهنية والنفسية للمدنيين والعسكريين، على حدٍّ سواء. شاهدنا في هذه الحرب كيف جرت قرصنة البيانات وتشويهها والتعديل عليها، لإظهار الخصم في أسوأ صورة، وكسر صموده النفسي وروحه الوطنية، بل وصل الحد إلى استدعاء التاريخ والدين والروح القومية، باعتباره جزءًا من الحرب النفسية ضد الآخَر.
تُعتبر عمليات المعلومات إحدى أدوات الحرب الحديثة، المعروفة أيضًا باسم «عمليات التأثير» أو «حرب المعلومات». تتضمَّن هذه العمليات جمع المعلومات حول الخصم، ثم إدارتها وإعادة تحليلها ونشرها إعلاميًّا بطريقة مشوَّهة ومضلِّلة، بهدف التأثير سلبًا في الصورة الذهنية للخصم، وبناء رأي عام داخلي وخارجي يعارض توجُّهاته ومصالحه. في الحرب الأوكرانية لاحظنا عمليات سيبرانية، وإغراق بيئة الفضاء الإلكتروني بمعلومات مضلِّلة روَّج لها اللاعبون في الأزمة والمنخرطون فيها، بهدف توصيل رسائل معينة للتأثير في الرأي العام، بما يخدم مصالح الأطراف داخليًّا وخارجيًّا.
الحرب الأوكرانية أظهرت لنا أن مفهوم «حرب المعلومات» يتنامى ويتعقَّد، ويُوظَّف بطريقة غير مسبوقة. هذا المفهوم قد يكون هجوميًّا أو دفاعيًّا، وتندرج تحته الحرب الإلكترونية، وحرب القيادة والسيطرة، وحرب قرصنة المعلومات، وحرب العمليات النفسية، وحرب المعلومات الاقتصادية. وهكذا أصبحت حرب المعلومات متعدّدة المستويات والأهداف والأدوات والمجالات، وتخضع لإستراتيجيات مثلها مثل إستراتيجيات الحرب.
سنرى في هذه الدراسة كيف أن عمليات المعلومات، التي صاحبت الحرب الأوكرانية منذ انطلاقها، أعقد بكثير مما كنا نتصوّر، وسنحلِّل بتركيز كبير كيف أن الروس بذلوا جهودًا كبيرة في توظيف الحرب المعلوماتية والسيبرانية بشكلٍ متوازٍ مع العمليات العسكرية. وفي المقابل، سندرس كيف استطاع الأوكرانيون تجميع قدراتهم في حرب المعلومات وتوظيفها بشكل ناجح أيضًا ضد السردية الروسية. وأخيرًا، سنعرّج على الخطاب الإعلامي الغربي، وكيف ظهر موحَّدًا، تقريبًا، في مواجهة الرواية الروسية وداعمًا لأوكرانيا.
أولًا: عمليات المعلومات من الجانب الروسي
لعقود من الزمن وبالعودة إلى الحقبة السوفييتية، كانت المعلومات المضلِّلة وما يُسمَّى بـ«الإجراءات الفعّالة» (active measures) جزءًا أساسيًّا من إستراتيجية السياسة الخارجية لروسيا. تُعَدّ الجهات الفاعلة الروسية من أقوى الدول توظيفًا للعمليات النفسية، ونشر الدعاية والمعلومات المضلِّلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الذي يسميه الروس «التحكُّم الانعكاسي» (reflexive control).
بالعودة إلى الحرب الباردة، وكجزء من أنشطة الحرب النفسية بين المعسكرين الشرقي والغربي، لِعبت اللجنة السوفييتية لأمن الدولة (KGB) دورًا رائدًا في حملات التضليل بالمعلومات، في ما كان يُعرَف على نطاق واسع باسم «عملية إنفكشن الثانوية» (Operation Secondary Infektion). على سبيل المثال، في منتصف الثمانينيات نَشَر الروس دوليًّا أطروحة بأن فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز) كان معدَّلًا وراثيًّا، طوَّرته «البنتاغون» باعتباره جزءًا من أبحاثها المزعومة في الأسلحة البيولوجية، في معهد البحوث الطبية للأمراض المعدية التابع للجيش الأمريكي في فورت ديتريك بولاية ماريلاند، وأن الفيروس خرج عن نطاق السيطرة في النهاية، وانتشر في العالم[1].
من 2014 إلى 2020م قامت روسيا بسلسلة من عمليات المعلومات (Infektion) على وسائل التواصل الاجتماعي، تُدار من روسيا بواسطة كيان مركزي. على سبيل المثال، عمليات التزوير والتدخّل والهجمات ضد منتقدي الكرملين. استخدمت الحملةُ، كما ذكر عددٌ من التقارير، حساباتٍ مزوَّرةً، ووثائقَ مزوَّرةً، لإثارة الصراع بين الدول الغربية، واستهدفت في أغلب الأحيان أوكرانيا. وحتى قبل تسعة أشهُر فقط من انطلاق الغزو الروسي، أُنتِج ما لا يقلّ عن 2500 محتوى بسبع لغات، عبر أكثر من 300 منصّة[2].
- أهداف حرب المعلومات الروسية:
بتحليل روايات الحرب الموالية لروسيا ومحتواها من المعلومات المنسَّقة، التي يجري الترويج لها، يُلاحَظ أنها تحاول تشكيل تصوّرات الغزو والسياق الجيوسياسي الأوسع المحيط به، لتحقيق كل، أو بعض، الأهداف التالية:
أ. إضعاف معنويات السكّان الأوكرانيين: جرى تحديد روايات روسية متعدّدة، يبدو أنها تهدف إلى إضعاف معنويات الأوكرانيين، والتحريض على الاضطرابات داخل أوكرانيا، والانقسام بين تيارات المجتمع، وبينه وبين قيادته. من بين هذه الروايات لُوحِظت الادّعاءات، التي لم تثبُت صحّتها لاحقًا، باستسلام الحكومة الأوكرانية والجيش الأوكراني. ففي مارس نشرت روسيا مقطع فيديو على مواقع أوكرانية يوضِّح أن أوكرانيا استسلمت لروسيا، حتى إنّ الخبر ظهر على الشريط الإخباري في بث تليفزيوني لموقع قناة «أوكرانيا 24»، ما يُعَدّ نجاحًا روسيًّا في اختراق القناة الأوكرانية[3].
ذكرت شبكة «CNN» في مارس الماضي أن عملاء الإنترنت الموالين لروسيا ادّعوا أن الرئيس زيلينسكي (Zelenskyy) انتحر في المخبأ العسكري في كييف، حيث كان يقود المعركة ضد الغزو، زاعمًا أنه كان يفكِّر في الانتحار بسبب الإخفاقات العسكرية لأوكرانيا[4]. وتبيَّن أن هذه كانت معلومات مضلِّلة.
زعمت عملية أخرى في أبريل أن كتيبة آزوف، التي يطلق عليها الروس اسم «عصابة آزوف»، سعت للانتقام من زيلينسكي لتخلِّيه عن مقاتليهم ليموتوا في ماريوبول، وزعموا أن قادة «آزوف» حاولوا الفرار من المدينة بالتظاهر بأنهم مدنيون. يُذكَر أن كتيبة «آزوف» الأوكرانية هي حركة قومية متطرِّفة تتبنَّى الخطاب القومي الأبيض، تضُم عديدًا من مؤيدي النازية من أكثر من 22 دولة مختلفة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة[5]. هذا ما ساعد كثيرًا الروس في تأييد روايتهم، التي تسعى إلى تصوير الحكومة الأوكرانية والأوكرانيين الذين لا يؤيدون روسيا على نطاق أوسع على أنهم نازيون.
ب إبقاء أوكرانيا وحيدة دون دعم غربي: يسعى كذلك الروس إلى زرع الانقسام بين أوكرانيا والحلفاء الغربيين وباقي دول العالم، فمثلًا استهدفت روسيا ضرب العَلاقة بين أوكرانيا وبولندا، بنشر مقالات رأي لكُتّاب شبحيين (Ghostwrite)، يدّعون أنهم ينتمون إلى الحزب الوطني الديمقراطي في روسيا. روَّجَت هذه المقالات للسرد القائل إنّ عصابة إجرامية بولندية كانت تمارس الاتّجار غير المشروع باللاجئين الأوكرانيين، وإن هذه العملية يقف وراءها مسؤولون بولنديون رفيعو المستوى. سعت هذه الروايات كذلك إلى تصوير اللاجئين على أنهم يُثقِلون الاقتصاد البولندي ونظام الرعاية الصحية بشكل مُفرِط، وأن هؤلاء المهاجرين يضمُّون «نازيين جددًا»، يستغلُّون المعابر الجماعية للحدود لتنفيذ هجمات على الأراضي البولندية. في حين تضمَّنت إحدى العمليات المعلوماتية في أوائل فبراير أن الحكومتين الأوكرانية والبولندية سعتا إلى تمكين القوّات البولندية من الانتشار في غرب أوكرانيا، ونشرت خريطة توضِّح المواقع التي ستتمركز فيها القوّات المسلحة البولندية، زاعمةً أنها ستحتلّ مساحات شاسعة من أوكرانيا، وستبقى لسنوات[6]، واستعادت موسكو ظروفًا تاريخية سابقة مرت بها بولندا وأوكرانيا.
كذلك ضخَّمت الدعاية الروسية نقاط الخلاف الأوروبية حول كيفية التعامل دبلوماسيًّا مع روسيا، وحول فرض العقوبات الاقتصادية، وقبول بعض الدول كالمجر بإعلان استعدادها لدفع ثمن الغاز الروسي بالروبل، عكس بقية دول الاتحاد الأوروبي. تحاول روسيا أن تزرع الشقاق، خصوصًا بين فرنسا وألمانيا من جهة أنهما لا تزالان متواصلتين دبلوماسيًّا مع موسكو ودول أوروبا الشرقية التي تعارض هذا التقارب الدبلوماسي مع روسيا وترفض استمرار الحوار معها. وأعدَّت الدعاية الروسية حملة معلوماتية خاصة، بيَّنت من خلالها فشل القمة الأوروبية التي انعقدت في العاصمة البلجيكية بروكسل، في مارس، في الاتفاق على فرض عقوبات إضافية ضد روسيا، وأبرزت وجود مواقف مختلفة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي، إذ أصبحوا قلِقين بشكل متزايد من عواقب مثل هذه الإجراءات عليهم.
تضمَّنت الروايات التي لوحظت على قنوات «تليغرام» تحليلات بأن الغرب سينسى قريبًا أوكرانيا ويتخلَّى عنها، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تحويل انتباهه إلى صراعات وشيكة في أماكن أخرى، مثل الحرب المحتملة التي يمكن أن تشنّها الولايات المتحدة ضد إيران، أو تحوِّل إستراتيجيتها إلى المحيطين الهندي والهادي.
ج. تعزيز التصوّرات الإيجابية عن روسيا ومكافحة السرد الغربي: يبدو أن الروايات الروسية المتعدّدة التي جرى رصدها تهدف كذلك إلى تعزيز التصوّرات الإيجابية عن روسيا، وتلميع صورتها الذهنية لدى الجماهير، وإظهار عملياتها العسكرية بأنها عادلة وشرعية ومبرَّرة. تدحض موسكو من جانبٍ جرائمَ الحرب، التي يقول الغرب إنّ الجيش الروسي ارتكبها في أوكرانيا، ومن جانبٍ آخَر توجِّه باتّهامات مضادة للقوّات الأوكرانية. من الأمثلة على ذلك أن قناة «Cyber Front Z» على «تليغرام» روَّجت لفكرة أن «النازيين» الأوكرانيين أجبروا المدنيين على دخول مسرح في ماريوبول، ثم فجَّروه بعد ذلك، وأن القوّات الأوكرانية استخدمت أسلحة كيميائية[7]. كذلك اتّهمت روسيا أوكرانيا بالشروع في تنفيذ خطة لاستخدام «القنبلة القذرة»، وهو اتّهام رفضته كييف وحلفاؤها الغربيون، قائلين إنه ليس سوى ذريعة للتصعيد، وليس إلّا خلْق مبرِّر لروسيا لاستخدام القنابل النووية التكتيكية، تحت ذريعة أن أوكرانيا هي المُبادِرة.
حملة عمليات المعلومات المؤيِّدة لروسيا تجري ترجمتها إلى 6 لغات تقريبًا، وتستهدف جماهير في الصين وأمريكا اللاتينية وفي الشرق الأوسط، من خلال حسابات حقيقية أو وهمية. يمكن القول إنّ أغلب سُكّان العالم يتّخذون موقفًا محايدًا بشأن الحرب، أو يدعمون الموقف الروسي. فبينما صوَّتت 141 دولة في الأمم المتحدة لإدانة العدوان الروسي في أوكرانيا، فإنه لا توجد دولة واحدة من آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط فرضت عقوبات ضد روسيا.
يعود السب إلى أن روسيا استهدفت في السنوات الأخيرة الفضاء الإلكتروني في تلك المناطق، ما مكَّنها من نشر سرديتها الخاصة حتى أصبحت هذه الجماهير لا ترى الحرب التي يراها الغرب. فمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا طالما كانت هدفًا لعمليات المعلومات الروسية، فمنذ عام 2007م بدأ الكرملين التواصل مع الجماهير الناطقة بالعربية من خلال إطلاق قناة «روسيا اليوم»، وكان الربيع العربي والتدخّل الروسي في سوريا عام 2015م حدثين رئيسيين في تعزيز وسائل الإعلام الروسية وسرديات الكرملين في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، تنتج قناتا «روسيا اليوم» و«سبوتنيك عربي» محتوى على «تويتر» أكثر من «بي بي سي عربي»، فبينما كانت القناتان الروسيتان تنشران ما معدَّله 180 و87 تغريدة يوميًّا منذ إنشائهما، تحتفظ «بي بي سي عربي» بمجرّد 32 تغريدة. وبشكل عامّ، واصلت القناتان تأكيد أن الولايات المتحدة وأوروبا مسؤولتان عن عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، فيما ترسِّخان صورة موسكو بوصفها قوة استقرار[8]. وبالنظر إلى الاستياء الذي يشعر به كثيرون في المنطقة بشأن سياسات الغرب في الشرق الأوسط، فإن هذه الرواية تحظى بصدى واسع. ويبدو أنه أصبح هناك مقتنعون كُثُر بالرواية الروسية، ليس حبًّا مطلقًا لروسيا بقدر ما هو كُره للغرب وللولايات المتحدة.
من جانب آخر، صمَّمت موسكو إستراتيجية قائمة على مكافحة الروايات الغربية حول أوكرانيا من خلال إنشاء مجموعة من برامج التحقُّق والمنظَّمات، لتقويض أي أخبار تتعارض مع سردها الخاص. وأنشأت «القناة الأولى» في روسيا، أكبر قناة رسمية في البلاد، برنامجًا بعنوان «مكافحة التزييف» (AntiFake)، يدحض ما يُقال إنها قصص كاذبة عن الحرب في أوكرانيا. وتوظِّف أدوات تدقيق الحقائق، الإحصائيات، وتحليل الطب الشرعي، والفيديو بالأبيض والأسود، لإثبات أن الادّعاءات حول العنف الروسي مُختلَقة، وتتضمَّن مقاطع فيديو قصيرة تدحض المزاعم الغربية حول العملية العسكرية الروسية.
بينما كانت وسائل الإعلام في الغرب تشكِّك في تحقيق الجيش الروسي انتصارات عسكرية، وتقدِّم أرقامًا عن الخسائر الروسية، فإن القناة الأولى الروسية تدحض المعلومات الغربية، وتصوِّر العمليات الروسية على أنها ناجحة للغاية. ذكرت تقارير إخبارية لهذه القناة أن أكثر من 1100 منشأة للبنية التحتية العسكرية الأوكرانية جرى تعطيلها، ودُمِّرت مئات القطع من المعدّات. ولم يرِد ذكر لوقوع خسائر في الأرواح في صفوف الروس[9]. نشرت وزارة الدفاع الروسية خرائط لمنطقة خاركيف، أظهرت انسحابًا كبيرًا للجيش الروسي من هذه المنطقة، التي يتواصل فيها هجوم أوكراني مضاد واسع النطاق، مع عدم اعتراف موسكو بحجم الخسائر التي تتحدث عنه كييف. كذلك ورغم تراجُع الجيش الروسي في الأراضي الواقعة شرق منطقة خاركيف خلف نهر أوسكول، فإنّ المتحدث باسم الجيش الروسي تحدث فقط عن «سحب» قوّاته الموجودة في منطقتَي بالاكليا وإيزيوم (شرق أوكرانيا)، بهدف «إعادة تجميعها» بالقرب من دونيتسك (إحدى عواصم الانفصاليين الموالين لروسيا)، في محاولة لتضليل الرأي العام بأنها ليست خسارة عسكرية.
قبل ذلك، ومع انطلاق العمليات العسكرية، ومن أجل خلق الذريعة والمبرِّر للغزو، خاطب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأُمة الروسية صباح يوم العملية، 24 فبراير 2022م، قائلًا إنّ «الغرب يتحمَّل المسؤولية الكاملة للأحداث المأساوية» التي حصلت في منطقة الدونباس شرق أوكرانيا خلال الأعوام الماضية، وإنه اتّخذ قرار الغزو خيارًا ألجأه إليه الغرب، ولا يوجد بديل عنه الآن. يرى بوتين أن السياسيين غير المسؤولين في الغرب سعوا خلال السنوات الماضية إلى إجبار روسيا على هذا الخيار، بسبب توسيعهم لـ«حلف شمال الأطلسي (الناتو)» إلى الشرق، مقرِّبين جيوشهم وبِنيتها التحتية أقرب وأقرب إلى الحدود الروسية. حسب بوتين، فإن من المعروف أن روسيا حاولت بصبر وطَوال 30 عامًا الوصول إلى اتفاق مع «الناتو»، يضمن أمن أوروبا بشكل كامل ومتساوٍ بين الأمم المختلفة، لكن «الناتو» لم يقابل روسيا إلا بـ«الخداع والأكاذيب، ومحاولات الضغط والابتزاز»، مع شرح مستفيض للظرف التاريخي المؤدي إلى اللحظة الحالية[10].
بالنسبة إلى الكرملين فإنّ أهمّ معركة يجب تحقيق النصر فيها الآن هي المعركة الداخلية، أي الفوز بتعاطُف وتأييد الشعب الروسي، والتشويش على المعارضين، أو حتى إسكاتهم تمامًا. وحتى يجري ضبط إيقاع النشر الإعلامي، فرضت السلطات الروسية غرامات مغلَّظة على أي وسيلة إعلام أو صحفي ينشر الأخبار عن الحرب، معتمدًا على مصادر غير تلك التي تصدر عن الكرملين أو وزارة الدفاع الروسية، أو تصوير الحرب على أنها غزو وليست مجرد عمليات عسكرية. لقد وصلت هذه الغرامة إلى السجن لمدة 15 سنة لمن يخالف هذه السياسة[11]. ووفقًا لمركز «ميبورو» للأبحاث، يحصل 85% من الروس على غالبية معلوماتهم من وسائل الإعلام الحكومية الروسية، فيما يشير مركز «ليفادا» في روسيا، أحد منظِّمي استطلاعات الرأي المستقلِّين، إلى أن أكثر من نصف الروس يرَوْن أن «الناتو» والولايات المتحدة هما سبب الصراع في أوكرانيا، و7% فقط يلومون الكرملين[12].
لذلك يسعى الغرب من خلال التأثير الإعلامي لتشويه سمعة الرئيس الروسي من خلال التعويل على إمكانية قيام معارضة روسية للحرب، وربما إمكانية أن تستطيع هذه المعارضة بمساعدة العقوبات الاقتصادية الغربية إسقاط حُكم بوتين في روسيا. لكن ما تُظهِره استطلاعات الرأي يؤكد أن شعبية بوتين في ازدياد منذ بدء العملية العسكرية، وأن عددًا أكبر من الروس يدعم عمليات الدولة في أوكرانيا، فضلًا عن أن المظاهرات الروسية لا تزال ضعيفة، وغير قادرة على التأثير أو الصمود.
د. تشويه الصورة الذهنية الأمريكية والغرب دوليًّا: تستهدف حملات التأثير الإعلامية الروسية كذلك إضعاف المكانة العالمية للولايات المتحدة والغرب، وإدارة التصوّرات العالمية، سعيًا لإقناع الجماهير بعدالة ما تقوم به روسيا من دور للحد منها، وهو ما عبَّر عنه وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف خلال الاجتماع الوزاري المشترك الخاص للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون الخليجي وروسيا، بقوله: «نعمل لوضع حدّ للهيمنة الغربية على العالم». ولتحقيق هذا الهدف صمَّمَت روسيا حملات عمليات معلوماتية تُدار من جهات فاعلة روسية وبيلاروسية وموالية لروسيا، باستخدام مجموعة واسعة من التكتيكات والتقنيات والإجراءات، لدعم الأهداف التكتيكية والإستراتيجية المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالنزاع نفسه.
فمثلًا، نُشِرت تقارير وصور روسية عديدة على وسائل التواصل الاجتماعي وعلى الفضائيات الروسية وبعدَّة لغات، وروايات مثل الادّعاء بوجود مختبرات مرتبطة بـ«البنتاغون» تُجري أبحاثًا عن الأسلحة البيولوجية في أوكرانيا. ففي 06 مارس، ادّعى المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية إيغور كوناشينكوف أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كشفت عن أدلة على قيام مختبرات مرتبطة بـ«البنتاغون» في أوكرانيا بإجراء أبحاث حول الأسلحة البيولوجية. قامت حسابات تابعة لروسيا لاحقًا بتضخيم هذا الادّعاء، بما في ذلك القول إنّ المختبرات البيولوجية مموَّلة من الولايات المتحدة، وإنها لا تُوجَد في أوكرانيا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم أيضًا[13]. وروسيا لا تزال تُجري تحقيقات حول ذلك، وتزعم أنها بصدد تقديم إثباتات أكثر حول هذا الموضوع، لذلك فحتى الآن لم يظهر ما يؤكد الادّعاء الروسي.
كما يبدو أن رسائل حملة «DRAGONBRIDGE» بشأن الغزو تستهدف السياسة الخارجية للولايات المتحدة وعَلاقاتها مع الدول الأخرى، من خلال الادّعاءات بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلّا لمصالحها، وأنها شريك غير موثوق به في تحالفاتها، وأنها تسعى إلى تأجيج نيران الصراع في كل مكان في العالم، من أجل زيادة مبيعات أسلحتها. هذه الحملة الإعلامية الروسية شكَّكت كذلك في التوافق بين سياسة الولايات المتحدة وأوروبا حول إجراءات العقوبات ضد روسيا، مشيرةً إلى أن الولايات المتحدة أرهبت وأجبرت أوروبا على فرض تلك العقوبات، على الرغم من مشكلات الطاقة المتفاقمة في القارة الأوروبية[14].
أيضًا، يلاحظ المتابع للرسائل الروسية الموجَّهة إلى جمهور الناطقين باللغة العربية ترديد أن الولايات المتحدة هربت من أفغانستان في 2021م، وأنها تخلَّت الآن عن أوكرانيا التي تستحقّ مصيرها بسبب تحالفها مع «محور الشر الأمريكي»، وأن «الناتو» ضحَّى بأوكرانيا لتجنُّب الانخراط في حرب مع روسيا، واتّهام الغرب بالنفاق في تعاملاته مع السعودية مقارنةً بروسيا، من خلال عدم وضع الحرب في أوكرانيا جنبًا إلى جنب مع الحرب في اليمن، وتُورَد اتّهامات بالعنصرية من جانب الغرب ضد العرب والمسلمين. حتى إسرائيل برزت في وسائل الإعلام الروسية من خلال اتّهام المخابرات الإسرائيلية بأنها كانت تدعم أوكرانيا ضد روسيا في الأزمة الحالية، وأن إسرائيل دعمت الثورات الملوَّنة في أوكرانيا، جنبًا إلى جنب مع المخابرات الأمريكية.
على الرغم من أن بوتين قد لا ينجح نجاحًا كاملًا في حرب المعلومات في أوروبا وأمريكا، نظرًا إلى قوة سطوتها في عالم تقنية المعلومات، فإنه يحقِّق نجاحات في أماكن أُخرى في الشرق الأوسط وإفريقيا، خصوصًا في أكبر دولتين من حيث عدد السكان في العالم، الصين والهند. استثمرت الصين وإيران والهند الأزمة الأوكرانية بشكل انتهازي لخدمة أهدافهم الإستراتيجية طويلة الأمد. وُجِد أن نسبة كبيرة من وسائل الإعلام الحكومية الصينية والإيرانية والهندية تضخِّم الدعاية الروسية، بإنتاج محتوى إعلامي يوالي في معظمه روسيا.
قامت حملة إعلامية في الصين، التي تضُمّ الآلاف من الحسابات غير الأصلية (الوهمية) عبر عديد من منصّات التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية والمنتديات، بتحويل رسائلها لإنتاج محتوى باللغتين الإنجليزية والصينية يحاكي الروايات التي تروِّج لها وسائل الإعلام الحكومية الروسية. ومما تبنَّته إحدى الصحف التابعة للحزب الشيوعي الصيني الأدلة الروسية على أن مذبحة بوتشا كانت خدعة[15]. يُذكَر أن الروس قاموا بحملة إعلامية لتفنيد ودحض الاتّهامات التي وُجِّهت من الغرب بأن القوّات الروسية المهاجمة ارتكبت مجزرة راح ضحيتها العشرات من المدنيين من أبناء بلدة بوتشا الصغيرة، الواقعة شمال العاصمة الأوكرانية كييف.
اهتمّت الدوائر والمؤسسات الروسية بالعمل على نشر معلومات على موقع «Weibo» الصيني، في 24 مايو 2022م، مُظهِرةً منشورًا لجندي أوكراني يرتدي شارة العَلَم الأمريكي والوشم النازي. لاحقًا، نشر الموقع نفسه صورًا تُظهِر الجندي نفسه وهو يشارك في الاحتجاجات المناهضة للصين في هونغ كونغ. بعد ذلك، اتّهمت وسائل الإعلام الصينية وأصحاب النفوذ على موقع «Weibo» الجندي الأوكراني سيرهي فيليمونوف بأنه نازيّ مدعوم من الغرب، للتحريض على الاحتجاج في هونغ كونغ[16].
لُوحِظ أن شبكة الإنترنت الصينية، التي تضُم خُمس مستخدمي الإنترنت في العالم، داعمة لروسيا، وجُلّ مستخدميها مُتماهون مع رواية الكرملين. أما مستخدمو «الإنترنت غير الحُر» فيحصلون على كثير من معلوماتهم حول الحرب، من وسائل الإعلام الحكومية الروسية التي تُمجِّد الجنود الروس «النبلاء».
كذلك لُوحِظ أن مجموعة «بريكس»، التي تضُم إضافة إلى روسيا البرازيل والهند والصين وجنوب إفريقيا، تميل إلى تصديق السردية الروسية.
2. أدوات الحرب المعلوماتية الروسية:
استخدمت روسيا كل ما تملك من منافذ إعلامية تقليدية ورقمية، سواء الداخلية منها أو الخارجية، قبل الغزو وفي أثنائه، لشنّ حملات التأثير في الجماهير بروايات متعدّدة، منها ما هو حقيقي، وبعضها ملفَّق، بل حتى في أجزاء من العالم كان الروس نشيطين برسائلهم الإستراتيجية خلال الأزمة الأوكرانية، من خلال عمليات المعلومات المتزامنة مع نشاط التهديد السيبراني التخريبي. تشمل عمليات المعلومات الروسية والبيلاروسية المصاحبة للغزو عمليات التمكين الإلكتروني (Cyber-Enabled Operations)، واستخدام الأصول الثابتة (Established Asset)، وعمليات الاختراق والتسريبات (hack-and-leak operations)، مستخدمين في ذلك بِنية تحتية متطوّرة للحملة، ومجموعة من النواقل (Vectors) التي استعانت بها الجهات الفاعلة المحدّدة المتحالفة مع روسيا.
كان موقع تحليل استخبارات التهديدات «مانديانت» (Mandiant) يتتبَّع تحركات روسيا في المجال الرقمي لسنوات، وأصدر نظرة عامة شاملة عن أحدث النتائج التي توصَّل إليها. وتشمل هذه التحركات المتصيِّدين، وبوابات الأخبار المزيفة المرتبطة بجهاز المخابرات الروسية، في ما يسمِّيه مؤلِّفو التقرير حملة «معلومات مضلِّلة تروِّجها مجموعة كاملة من الجهات الفاعلة». ومن النواقل، ما يلي[17]:
أ.«APT28»: وهي قنوات «تليغرام» رصدتها دائرة الأمن الأوكرانية وحكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ووصفتها بأنها وسائط عمليات المعلومات التابعة لمديرية المخابرات الرئيسية التابعة لهيئة الأركان العامة الروسية. يتضمَّن نشاط القنوات الترويج لمحتوى يُستنتَج منه أنه يهدف إلى إضعاف ثقة الأوكرانيين بحكومتهم، وباستجابتها للغزو. يبدو أن المحتوى يهدف أيضًا إلى تقويض الدعم المقدم لأوكرانيا من شركائها الغربيين، وإعطاء المحتوى مصداقية، ويتخلله مزيد من المنشورات التي تسرِّب محتوى غير سياسي، أو تقارير إخبارية موثوقة. سلَّطت قنوات «Telegram» بدعم من الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU) الضوء على الفساد المزعوم وعدم الكفاءة من جانب الحكومة الأوكرانية، مثل الادّعاءات بأن أوكرانيا لم تكُن مستعدة للصراع، وأن الأوليغارشية الأوكرانية تدفع بزيلينسكي لمغادرة البلاد. واستطاعت قناتا «روسيا اليوم» و«سبوتنيك» الالتفاف على الحظر الغربي، عبر البث على «تليغرام» بدلًا من «تويتر» و«فيسبوك».
ب. الكاتب الشبح (Ghostwriter): جنّدَت روسيا مجموعة من الكُتّاب للكتابة في مواقع ويب مُخترَقة، وفي عديد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي المُشتبَه بها. ففي شهر أبريل الماضي جرى نشر محتوى ملفَّق للترويج لسردٍ يبدو أنه يهدف إلى إثارة عدم الثقة بين الأوكرانيين والحكومة البولندية. استمرت أيضًا الشخصيات الشبحية هذه في نشر وترويج مقالات الرأي، التي تنتقد حلف الناتو ووجوده في دول البلطيق، مع إشارات متزايدة إلى أوكرانيا في هذا السياق. قيَّمت شركة (Mandiant) أن بيلاروسيا، وبالتحديد مجموعة التجسُّس البيلاروسية «UNC1151»، كانت المسؤولة -على الأقل جزئيًّا- عن حملة «الكُتّاب الأشباح»، وأنها قامت كذلك بحملات مماثلة استهدفت البلدان الأوروبية.
ج. اختراق المنصّات المعادية: جنّدَت روسيا «قوّات إلكترونية» لمواجهة رواية الحرب من الطرف الأوكراني. قالت صحيفة «فونتانكا» الروسية إنها أرسلت أحد مراسليها للتسلل إلى منصّة هجوم إلكتروني أوكرانية تُدعى «Cyber Front Z»، وتمكَّنت من لقاء «القوّات الإلكترونية»، واكتشاف كيفية عملهم عبر منصّات التواصل الاجتماعي، بما في ذلك «يوتيوب» و«تيك توك» و«تويتر». وقال مراسل «Fontanka» إنهم جمعوا عديدًا من المراسلين والمعلقين ومحللي المحتوى والمصممين والمبرمجين، لتكوين جبهة إلكترونية ضد المواقع الإلكترونية الأوكرانية المدعومة من الغرب، وكتابة تعليقات تدحض الرواية الأوكرانية للحرب، على كل هذه المنصات.
د. الإنترنت: حلل المعهد الأسترالي للسياسة الإستراتيجية (ASPI) عمليات المعلومات المرتبطة بروسيا على شبكة الإنترنت منذ عام 2018م، فلاحظ أن أغلب الهاشتاغات والتغريدات الأكثر استخدامًا كانت تركِّز بشدة على نقد وإثارة القضايا السياسية الأمريكية الساخنة، وتشويه سمعة المرشَّحين في الانتخابات الأمريكية والأوروبية. تضمَّنت التغريدات كذلك جهودًا لتقويض «الناتو» أمام الجماهير الأوروبية، وتشويه سمعة الزعماء الأوكرانيين، والترويج للسياسة الخارجية والعسكرية الروسية في سوريا[18]. ربما كان موقع «تويتر» حاليًّا هو الكيان الأكثر تأثيًرا في وسائل التواصل الاجتماعي من حيث مشاركته العامة في عمليات المعلومات.
هـ. الهجمات السيبرانية: حسب مجلة «Cybercrime Magazine»، كلَّفت هجمات القراصنة والجرائم الإلكترونية بأنواعها المختلفة الاقتصاد العالمي أكثر من 6 تريليونات دولار في عام 2021 فقط، ويتوقَّع أن تكلِّف هذه الجرائم الاقتصاد العالمي نحو 10.5 تريليونات دولار سنويًّا بحلول عام 2025م، فهناك هجوم إلكتروني يحدث كل 11 ثانية في مكانٍ ما في العالم[19].
جديرٌ بالذكر أن مؤشر القوة السيبرانية الأمريكي، الذي يُعِدّه مركز «بلفر» في الولايات المتحدة، يضع الإمكانيات السيبرانية لروسيا في مركزٍ أقل من الولايات المتحدة، والصين، والمملكة المتحدة. مع ذلك، استغلّت روسيا سلاح الهجمات السيبرانية في نزاعاتها الأخيرة، كغزوها لجورجيا في 2008م، وللقرم في 2014م. ومنذ ذلك الحين أصبحت أوكرانيا «ساحة تدريب» لعمليات الحرب الروسية السيبرانية. لكن عندما غزت روسيا أوكرانيا توقَّع عديد من المحللين الأمنيين مستوى من الحرب السيبرانية تشنّه روسيا لم يسبق له مثيل، بسبب تاريخ روسيا في ما يتعلق بالهجمات من هذا النوع، وهذا ما لم يتحقَّق بالشكل المؤثر، حتى اللحظة.
مع ذلك، فقبل يوم الغزو بساعات، تفشَّى نوعٌ من البرامج الخبيثة يُسمَّى «الماسح» (Wiper) في الأنظمة الحوسبية الخاصة بالحكومة الأوكرانية، مُتلِفًا بياناتها. وقبل الغزو بأسبوع، شُنَّت حملة ضخمة من الهجمات المُوزَّعة للحرمان من الخدمات DDoS))، نسَبها كثيرون إلى روسيا، وأغرقت هذه الهجمات المواقع الإلكترونية للبنوك الأوكرانية بالبيانات والإشارات، ما أدى إلى تعذُّر الوصول إلى تلك المواقع. لم تكُن هذه الاعتداءات مفاجئةً، فقد واجهت أوكرانيا وابلًا من الهجمات السيبرانية، منذ احتدَّ النزاع بينها وبين روسيا في 2014م، لكن على الرغم من هذا العدد الكبير من الهجمات السيبرانية منخفضة المستوى، فإنّ البنى التحتية الأساسية في أوكرانيا -مثل خطوط التليفون والإنترنت والكهرباء وأنظمة الرعاية الصحية- لا تزال سليمة[20].
فلماذا إذًا لم تستخدم روسيا الهجمات السيبرانية كما كان متوقعًا، وأنه حتى اللحظة تُعَدّ الهجمات السيبرانية الروسية أعمالًا تجسُّسية أو تخريبية أكثر من كونها أعمالَ حرب؟ يمكن تفسير ذلك بأن روسيا لا تزال ترى أنه يمكن أن تسيطر على أوكرانيا، فربما كان من مصلحتها الحفاظ على أجزاء من بنية أوكرانيا التحتية بدلًا من تدميرها والاضطرار إلى إعادة بنائها مجددًا. لكن هناك فرضية أخرى مرجَّحة، وهي أن روسيا لا تحارب بكامل قوتها السيبرانية، لتجنُّب أي تصعيد أو تداعيات خارج نطاق أوكرانيا، ما قد يدفع الغرب إلى الردّ، لأنّ أيّ هجوم سيبراني قد يؤدي إلى تفعيل المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تنُص على أن الهجوم على أيٍّ من الدول الأعضاء يُعَدّ عدوانًا عليها جميعًا. مع ذلك فقد تُبقي روسيا أسلحتها السيبرانية الأقوى في جعبتها، وقد تزيد وتيرة هجماتها السيبرانية في حال تعثُّر الحرب البرية، أو تضرُّرها من العقوبات المالية.
أظهر الصراع الحالي في أوكرانيا مدى السرعة، التي يمكن بها توظيف المعلومات عن الأحداث اليومية من قِبَل مجاميع القرصنة الروسية، ومنفِّذي حرب المعلومات وقلب الحقائق وتعديل المعلومات. في تحليل لشركة «Mandiant» المتخصصة في مجال استخبارات التهديد والأمن السيبراني، رصدت الشركة عمليات المعلومات المتوافقة مع المصالح السياسية الروسية، التي حدثت بالتزامن مع نشاط التهديد السيبراني التخريبي والمدمِّر الذي رعته روسيا في الأسابيع التي سبقت الغزو مباشرة، وبعد بدء الغزو، فوجدت عمليات سيبرانية تنطوي على نشر برمجيات ماسحة (wiper malware) ضارة متخفية في شكل برامج فدية (ransomware).
ثانيًا: عمليات المعلومات الأوكرانية
أ. حملات التأثير الأوكرانية:
منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير رأينا الجيش الإلكتروني الأوكراني كذلك يخوض حربًا معلوماتية ضد الرواية الروسية، وينفِّذ هجمات إلكترونية على أهداف روسية، ويحرز نجاحًا ملموسًا في حرب الـ«أون لاين». حققت إستراتيجية الاتصال والمعلومات، التي اتّبعها الأوكرانيون ورئيسهم فولادمير زيلينسكي، نجاحًا واسعًا في جذب سيل من التعاطف والدعم الغربي، وهي إستراتيجية عزَّزتها واشنطن والعواصم الأوروبية على مدى السنوات الثماني الماضية، منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014م. تصدَّرت القصص البطولية والمقاومة العسكرية لجنود الجيش الأوكراني في مواجهة الهجوم الروسي وسائل الإعلام الغربية، جنبًا إلى جنب مع القصص الإنسانية للمدنيين الفارّين من منازلهم ومدنهم، وهو ما جعل الرأي العام الغربي يُبدي تعاطفًا مع الشعب الأوكراني.
ووفقًا لصحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية، فإنّ أوكرانيا نجحت في حرب المعلومات من خلال حملة التواصل القوية، التي أدت إلى تبرعات غربية كبيرة بالأسلحة، ودعم واسع النطاق لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة ضد روسيا. جاء خطاب زيلينسكي أمام الكونغرس بليغًا، إذ ركَّز على توضيح حقائق، وتأكيد قيم أوكرانية مشتركة مع الغرب، بهدف استمالتهم، إلى جانب تحذيرات من أن تداعيات الحرب ستطال الجميع، حال عدم الاكتراث للنتائج. ركَّز زيلينسكي على بناء الشعور بالهوية بين الأمريكيين وأوكرانيا، ولو جزئيًّا، ردًّا على انتقادات البعض بأن أوكرانيا بلد فاسد لا يشترك في قِيَمه مع الولايات المتحدة، إذ كان أول ما جرى تناوله هو تركيزه على الديمقراطية والاستقلال والحرية، وقارن الغزو الروسي بمستوى العدوان النازي الذي شهدته الحرب العالمية الثانية[21].
وبالفعل نجح تأثيره في انتزاع موافقة الولايات المتحدة بدعم أوكرانيا بأسلحة متنوعة بقيمة 800 مليون دولار، حتى شهر مايو، بما في ذلك صواريخ أرض-جو، والطائرات بلا طيار، التي رفضت إدارة بايدن تزويدها في السابق. قد تكون تعليقات زيلينسكي أسهمت في اختراق بعض أولئك الذين يميلون إلى الخط الروسي في واشنطن، وإقناعهم بأن الوضع الأوكراني ينطوي في النهاية على خطر أكبر على الولايات المتحدة، في حالة عدم الاستجابة[22].
2. أدوات حرب المعلومات الأوكرانية:
أ. منصة «تليغرام» المشفَّرة: أصبحت منصَّة «تليغرام» ساحة المعركة الرقمية الرئيسية في الحرب المعلوماتية بين كلِّ من الأوكرانيين والروس. ويمتلك زيلينسكي قناة على «تليغرام» يتحدث من خلالها مباشرة إلى الشعب الروسي باللغة الروسية. وما ساعد الحملات الإعلامية الأوكرانية هو أن المنصّات الاجتماعية «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» تخلَّت عن الحياد وانحازت إلى الجانب الأوكراني، من خلال حظْر الرسائل الروسية ووسائل الإعلام الروسية الرسمية، كـ«روسيا اليوم» و«سبوتنيك»[23].
ب. «سايبر هنتا- Cyber Hunta»: مجموعة قراصنة مؤيدة لأوكرانيا مؤلَّفة من عدة متطوعين، هدفهم الكشف عن تورط موسكو في الصراع في أوكرانيا. يزعمون أنهم ليسوا على صلة بالحكومة الأوكرانية. تهدف مجموعة القرصنة هذه إلى إزالة المتصيِّدين المؤيِّدين لروسيا من المواقع الأوكرانية، وحماية المواقع الأوكرانية من المتسللين الموالين لروسيا. سبق أن اخترقت مجموعة القراصنة هذه مواقع إلكترونية حكومية روسية، منها إدارة الرئاسة الروسية والبرلمان ووزارة الخارجية، وسبق أن تسللت إلى رسائل البريد الإلكتروني المرتبطة بـVladislav Yuryevich Surkov[24]، أحد مستشاري الرئيس بوتين.
ج. «سايبر هندرد8- Cyber Hundred8»: تهدف هذه المجموعة الناشطة في مجال القرصنة الإلكترونية كذلك إلى إزالة المتصيِّدين المؤيِّدين لروسيا من المواقع الإلكترونية الأوكرانية، وحماية المواقع الإلكترونية الأوكرانية من المتسللين الموالين لروسيا. إنهم يعلِّمون السكان طرق محاربة المتصيِّدين، ويساعدون في الانتقام من الهجمات الإلكترونية. ومع ذلك لا يُعرَف سوى القليل جدًّا عن هيكلها أو أعضائها[25].
د. «نَلّ سيكتور-Null Sector»: جرى إنشاء مجموعة المتسللين هذه بعد سقوط الرئيس الأوكراني السابق يانوكوفيتش في فبراير 2014م. وهُم يستخدمون في الغالب الهجمات المُوزَّعة للحرمان من الخدمات DDoS)) ضد مواقع الويب الروسية، إذ أغرقت الخوادم بطلبات غير مشروعة من خلال تحميل البنية التحتية للخوادم بشكل مرتفع، ما أدى إلى توقُّفها عن العمل[26].
هـ. الجيش السيبراني الأوكراني/الجيش (Ukrainian Cyber Troops/Army): تستهدف مجموعة القراصنة هذه، التي أسّسها مستشار الأمن السيبراني السابق يوجين دوكوكين والمبرمج ماهيشواري، الانفصاليين الموالين لروسيا والقوّات الروسية في أوكرانيا، بالإبلاغ عن حسابات المسؤولين الموالين لروسيا بمختلف المواقع المصرفية، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل إغلاق الحسابات[27].
ثالثًا: حملات الدعاية الغربية المعارضة لروسيا
1.سلطة الإعلام الغربي:
من المعروف أن الغرب وأوروبا يتحكمون في آلة إعلامية لم يسبق لها مثيل، جرى توظيفها في الحرب المعلوماتية ضد روسيا. منذ بدء الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، انطلقت حملة إعلامية غربية معارضة للهجوم الروسي، إذ حَظَر كُلٌّ من «فيسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر» و«غوغل» الرسائل الروسية بشكل أساسي، وقيَّدت هذه المواقع الوصول إلى قنوات المعلومات الروسية الرسمية. وبتحليل الحملة الإعلامية الغربية ضد روسيا، تتّضِح المبالغة الكبيرة في وصف الأحداث، والانتقائية في تسليط الضوء على بعض الحوادث دون غيرها، متجنِّبة الحياد والموضوعية في التحليل في كثير من الأحيان. سعت الدعاية الغربية إلى وصف العمليات الروسية بأنها «غزو غير مبرَّر»، وألقت الضوء على أي مظاهر معارضة لغزو أوكرانيا داخل روسيا، وبالغت في الأثر «المدمِّر» للعقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا. ويُسوِّق الغرب صورة قاتمة عن «الكارثة الاقتصادية» التي ستدمِّر اقتصاد روسيا وتشلّه، لكنهم تغافلوا عن أن روسيا تمتلك تدابير احتياطية، حتى في مجال البنوك، فهي والصين سعتا إلى إقامة شبكتَي تحويل بين البنوك بعيدًا عن الشبكة الغربية، فضلًا عن اعتماد موسكو نظام «الصفقات المتكافئة»، وبيع النفط بالروبل الروسي، وغيرها من الإجراءات الحمائية التي يبدو أن موسكو أعدَّت لها بشكل مسبق.
سارعت وسائل الإعلام الغربية ورسمت التقارير الغربية صورة معينة لجذور الصراع الحالي، تقوم بمجملها على سردية أن هناك شعبًا حصل على استقلاله عام 1991م، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبحت غالبيته المتحدثة بـ«الأوكرانية» (في غرب البلاد) تريد الفكاك من عَلاقتها التاريخية بالشرق (روسيا)، والاتجاه نحو الغرب، أوروبا تحديدًا، وحلف شمال الأطلسي (الناتو). بالتالي فإن الصراع على الأرض، حسب الخطاب الغربي، يدور بين «أُمة» أوكرانية تصارع للحفاظ على ثقافتها واستقلالها ووحدتها، ضد رغبة روسية بالهيمنة على كييف وإعادة «أشباح» ماضي الاتحاد السوفييتي. وانصبَّ المجهود الدعائي الغربي على تفنيد كل ما يقوله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من مبرِّرات للعملية العسكرية في أوكرانيا، للوصول إلى النتيجة الوحيدة الممكنة، وهي أن العملية العسكرية «غزو غير مبرَّر» لدولة لا تهدِّد روسيا إطلاقًا، بل على العكس روسيا هي التي تهدِّد هذه الدولة وغيرها من الدول التي كانت تابعة في السابق للاتحاد السوفييتي. أما «الناتو»، حسب المقاربات الإعلامية الغربية، فإنه لم يتوسَّع شرقًا إلا لأن دول الاتحاد السوفييتي السابقة هي التي طرقت بابه وطلبت الحماية من روسيا (الجارة المخيفة التي تهدِّد أمنها)[28].
2. خطاب إعلاميّ غربيّ موحَّد ضد روسيا:
بتحليل الخطاب الإعلامي الدعائي الغربي، تُلاحَظ فيه وحدة الخطاب، ولا نكاد نستطيع رؤية رواية أخرى تحلِّق خارج هذا الخطاب. لذا، يقول الأكاديمي اللبناني أسعد أبو خليل، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا ستانيسلاوس، في مقالة بصحيفة «الأخبار» اللبنانية: «ليست مقالات الأمن القومي والسياسة الخارجية في صحف الغرب إلا منابر لدوائر الاستخبارات الغربية، وهي جزء من الآلة الحربية الغربية ضد أعدائها، خصوصًا عندما تجد الإعلام الغربي يتطابق في نقل رواية واحدة لا خلاف فيها تقريبًا». ويعدِّد أبو خليل أمثلة كثيرة على طريقة عمل الإعلام الغربي، من أزمة القرم إلى حروب الشرق الأوسط، ومن فلسطين إلى العراق وسوريا، ويرى أن هذا الإعلام حضَّر للحرب الحالية، وأن مثل هذا التحضير لا يمكن أن يكون قد حصل دون تنسيق مع أجهزة أمنية واستخباراتية غربية[29].
في الحقيقة، يوجد في الإعلام الغربي اتفاق عامّ على أن العملية العسكرية الروسية فشلت في تحقيق أهدافها، ولا تكاد تجد في الصحافة الغربية تغطية مختلفة عن هذا التحليل الانحيازي. من أبرز جوانب التغطية الغربية الإعلامية، التي فقدت كثيرًا من الحيادية، تضخيم المقاومة الأوكرانية التي يزعمون أنها تصدَّت لـ«الغزو الروسي»، وأنها كانت أكفأ بكثير من التوقعات، وأن هذه المقاومة هي ما يُفشِل المخططات الروسية، وأنها ستنجح بالتأكيد في النهاية.
كذلك تنصبّ التحليلات الإعلامية الغربية على أن الجيش الروسي لا يتّسِم بالكفاءة القتالية، وضخَّمت مشكلاته اللوجستية، من نقص قطع الغيار وإمدادات الطعام والوقود، في إشارة إلى المشكلات التي تعرَّض لها الرتل العسكري الكبير الذي أراد دخول كييف. ولا نكاد نرى في الإعلام الغربي تغطية إعلامية محايدة للنجاحات المعتبرة، التي يحققها الجيش الروسي، خصوصًا في الجنوب الأوكراني.
إضافة إلى ذلك، تقول المصادر الغربية إنّ معنويات الجيش الروسي منخفضة جدًّا نتيجة لعدة أسباب، أهمها أنه من الممكن ألا يكون الجنود الروس يعرفون ما ينبغي فعله في أوكرانيا بالضبط، أو أنهم لم يتوقعوا كل هذه المقاومة الأوكرانية، وربما أُخبِروا من قيادتهم بأن الأوكرانيين سيستسلمون بشكل سريع، وستسقط كييف في غضون أيام، وهو ما لم يحصل حتى الآن. طبعًا لا يغفل الإعلام الغربي عن تغطية الدعم العسكري لأوكرانيا، الذي أسهم، حسب الدعاية الغربية، في صدّ الهجوم الروسي بكفاءة[30].
مع ذلك، تظهر أحيانًا وجهات نظر مستقلة في بعض المنافذ الإعلامية الغربية، تفنِّد السردية الغربية للأحداث. فمثلًا، قدَّم ضابط متقاعد من الجيش الأمريكي ومحاضر في التاريخ في جامعة المارينز، هو د. إدوارد إريكسون، وجهة نظره قائلًا: «إنّ التغطية الإعلامية الغربية تركِّز حصرًا على المستوى التكتيكي من الحرب، ولا ترى إلا الجانب الأوكراني من القتال، مع تعاطُف من قِبَل المراسلين مع الجانب الأوكراني»، وهو لا يصدِّق أن أداء الجيش الروسي بالسوء الموصوف من طرف الإعلام الغربي. فعلى مستوى عملياتيّ، يرى إريكسون أن الروس يقومون بحملة متكاملة، وحتى الآن يبدو الأداء الروسي فيها جيِّدًا، وعلى الرغم من الانسحابات الأخيرة فإنهم يتقدَّمون على أكثر من محور، ويحرزون نتائج مهمة، وينجحون في حصار المدن في إقليم الدونمباس. ويؤكد الخبير الأمريكي أيضًا أن الجيش الروسي لم يستخدم حتى الآن قدراته النارية الكاملة وبكثافة، خصوصًا مدفعيته القوية، وأننا لم نشهد، حتى اللحظة، قيام القوّات الجوية الروسية بعمليات ضخمة[31].
الخلاصة
الحكمة العسكرية التي تقول: «أول ضحية في الحرب هي الحقيقة»، ستبقى قائمة. حرب المعلومات ستظل واحدة من الأدوات الرئيسية المستخدمة في الحروب القادمة. عمليات المعلومات والدعاية والدعاية المضادة شكَّلت جزءًا محوريًّا من مشهد الأزمة الأوكرانية الجارية، وكشفت عن صراع محتدم حول سردية الأزمة بين روسيا من جانب، وأوكرانيا ومعها القوى الغربية الأخرى من جانب آخر، في محاولة من هذه الأطراف لإعادة صياغة مشهد الأزمة الأوكرانية، على النحو الذي يتسق مع مصالح ورؤية كل طرف. نتوقع أن مثل هذه العمليات، بما فيها تلك التي تنطوي على نشاط التهديد السيبراني والهجمات التخريبية والمدمِّرة الأخرى المحتملة، ستستمر مع تقدُّم النزاع في أوكرانيا، وأن حروب المستقبل ستستمر وبشكل أكبر في أن تكون «حروبًا هجينة»، وهي مزيج من حروب النيران وحروب المعلومات. فلم تقتصر حرب المعلومات في الأزمة الأوكرانية على منافذ الإعلام التقليدي، بل ذهبت إلى الإعلام الرقمي، وإلى الحرب السيبرانية.
أظهرت هذه الحرب أن منصّات وسائل التواصل الاجتماعي ستقوم بدور رئيسي في حروب المعلومات القادمة، خصوصًا أنها تُعتبر مجالًا هامًّا لتدوير المعلومات دون التحقق منها، وبتكلفة قليلة. يمكن لأي شخص أن ينتحل شخصية وهمية أخرى أو اسمًا مستعارًا، ويقول وينشر أي شيء، والنتائج هي مزيج من الحقيقة والخيال، اللذين يتطوّران بسرعة كبيرة للغاية، إذ يصبح من شبه المستحيل حتى على المحترفين التحقق من هذه النتائج، ومعرفة الصحيح من الخطأ، في كل هذه المعمعة. تأتي بعد ذلك الفوضى والشك وعدم اليقين، واختلاط الحقيقة بالخيال.
كذلك فالحرب السيبرانية، كأحد أنواع حرب المعلومات، شكَّلت جزءًا هامًّا من عمليات المعلومات في هذه الأزمة، ومن شبه المؤكد أنها ستكون جزءًا مأساويًّا من حروب المستقبل. ستتضمَّن محاربة الأعداء عن بُعد، باستخدام فئات جديدة من الأسلحة، مثل الفيروسات، والبرامج الضارة، والبرامج التي تغيِّر هدف تشغيل النظام، أو حتى توقف تشغيل النظام بالكامل، وستكون الهجمات الإلكترونية ساحة المعركة الجديدة غير المرئية، التي لا يمكن التنبؤ بها، إذ سيتنافس المتسللون والقراصنة من مختلف الدول لتعطيل عجلة الاقتصاد ومختلف مجالات الحياة في الدولة المستهدفة. لا شيء يمنع ذلك، إذ يمكن لأي شخص يملك جهاز حاسوب في منزله والخبرات التقنية الكافية أن يشنّ مثل هذه الهجمات، ويشكِّل ضررًا قد يكون مدمِّرًا في بعض الأحيان، إذ بإمكان هذا الفرد أن يعطِّل شبكات بأكملها، بما في ذلك تلك التي تدعم البنية التحتية الحيوية.
من أهم ملامح الحرب السيبرانية أنه لا يمكن لأحد أن يتوقعها، فالأساليب متجدِّدة ومفتوحة للإبداع والابتكار وإنتاج الأفكار وصراع العقول. من المؤكد أننا أمام حروب جديدة ليس لها سوابق في التاريخ، وفي بداية عصر جديد لن يكون فيه مكان إلا لمن يبحث ويبتكر في مجال الفضاء السيبراني، إما للدفاع عن بنيته المعلوماتية وفضائه الإلكتروني، وإما للهجوم على الأعداء المحتملين حال اقتضت الضرورة.
كثير من الدول بدأ يفكر في إنشاء جيش تكنولوجيا المعلومات «جيوش رقمية»، من خلال تأهيل أكبر عدد من الكوادر القادرة على الإبداع في هذا الفضاء الواسع. العقول المبدعة هي التي يمكن أن تغيِّر قواعد حروب المستقبل، وتنتزع انتصارًا بتكاليف أقل من تكلفة الأسلحة التقليدية، وأسلحة الدمار الشامل، وتُلحِق أكبر الأضرار غير المرئية بالعدوّ المحتمل. قد تتغيَّر موازين القوى العسكرية في المستقبل، إذ يمكن لدولة لا تمتلك الكفاية من القوة الصلبة (العسكرية) أن تستخدم قوتها العقلية والإبداعية في الفضاء المعلوماتي والسيبراني، لتتفوَّق على أعدائها.
لكن مع ذلك، فمن الضروري توليد تشريعات دولية لضبط العمليات السيبرانية، لأن الحرب السيبرانية يمكن أن تؤدي إلى انهيار العالم كله، وتعيده مئات السنين إلى الوراء، وتفجِّر صراعات جديدة أكثر خطورة من كل الصراعات، التي شهدتها البشرية حتى الآن.
[1] Wilson center, Douglas Selvage & Christopher Nehring , Operation «Denver»: KGB and Stasi Disinformation regarding AIDS, , 22 July 2019, Accessed: 29 May 2022, https://bit.ly/3lRLESP
[2] GRAPHICA, Ben Nimmo and others, Exposing Secondary Infektion,2021, Accessed: 29 May 2022, https://bit.ly/38WLmaj
[3] MANDIANT, ALDEN WAHLSTROM and others, The IO Offensive: Information Operations Surrounding the Russian Invasion of Ukraine,19 may 2022, Accessed 29 may 2022, https://bit.ly/3NFa8KP
[4] CNN, Sean Lyngaas, Pro-Russia online operatives falsely claimed Zelensky committed suicide in an effort to sway public opinion, cybersecurity firm says,19 may 2022, Accessed: 29 May 2022, https://cnn.it/3N1jLDB
[5] إندبندنت العربية، إنجي مجدي، ما كتيبة «آزوف» ذات الشعار النازي الذي أحرج «الناتو}؟، 08 أبريل 2022م، تاريخ الاطلاع 30 مايو 2022م، https://bit.ly/3t4aCSG
[6] المرجع السابق.
[7] MANDIANT, ALDEN WAHLSTROM and others, The IO Offensive: Information Operations Surrounding the Russian Invasion of Ukraine, lbid.
[8] إندبندنت عربية، هل انهزم بوتين حقًّا في حرب المعلومات؟ 27 مايو 2022م، تاريخ الاطلاع 01 يونيو 2022م، https://bit.ly/3GBRHV3
[9] BBC NEZS , Simona Kralova & Sandro Vetsko , Ukraine: Watching the war on Russian TV-a whole different story, 2 mars 2022, Accessed: 2 June 2022, https://bbc.in/3aiGLzn
[10] The print , Full text of Vladimir Putin’s speech announcing ‘special military operation’ in Ukraine, 24 February 2022, Accessed: 2 June 2022, https://bit.ly/3z9Szi0
[11] TRT عربي، بشار زعيتر، حرب المعلومات.. الجبهة التي يتفوّق بها الأوكرانيون على الروس، 10 مارس 2020م، تاريخ الاطلاع: 07 يونيو 2020م، https://bit.ly/3NvfZCM
[12] إندبندنت عربية، هل انهزم بوتين حقًّا في حرب المعلومات؟ مرجع سابق.
[13] MANDIANT, ALDEN WAHLSTROM and others, The IO Offensive: Information Operations Surrounding the Russian Invasion of Ukraine, lbid.
[14] المرجع السابق.
[15] المرجع السابق.
[16] Doublethink Lab, Mandarin-language Information Operations Regarding Russia’s Invasion of Ukraine, 2 mars 2022. Accessed: 2 june 2022, https://bit.ly/3amWaPh
[17] MANDIANT, ALDEN WAHLSTROM and others, The IO Offensive: Information Operations Surrounding the Russian Invasion of Ukraine, lbid.
[18] ASPI, Jake Wallis, Albert Zhang and Ingram Niblock, Understanding global disinformation and information operations, 11 Apr 2022,Accessed: 11 april 2022, https://bit.ly/3w5znA9
[19] Cybercrime Magazine, Steve Morgan, Cybercrime To Cost The World $10.5 Trillion Annually By 2025, 13 November 2020., Accessed: 7 June 2022, https://bit.ly/3ayjI43
[20] Scientific American , Elizabeth Gibney, Where Is Russia’s Cyberwar? Researchers Decipher Its Strategy
, 21 March 2022, Accessed: 7 juin 2022, https://bit.ly/391YB9S
[21] سكاي نيوز عربية، حرب المعلومات والاتصالات بين روسيا وأوكرانيا.. لمَن الغلبة؟، 19 مارس 2022م، تاريخ الاطلاع: 01 يونيو 2022م، https://bit.ly/3GBRHV3
[22] المرجع السابق.
[23] إندبندنت عربية، هل انهزم بوتين حقًا في حرب المعلومات؟ مرجع سابق.
[24] Security Affairs, Pierluigi Paganini, Ukrainian hackers Cyber Hunta leaked emails of Putin’s Advisor, 29 october 2016, Accessed: 7 June 2022, https://bit.ly/3tfO8OH
[25] MANDIANT, ALDEN WAHLSTROM and others, The IO Offensive: Information Operations Surrounding the Russian Invasion of Ukraine, libd.
[26] المرجع السابق.
[27] Research Gate, Cyber and Information warfare in the Ukrainian conflict, January 2018. Accessed: 1 June 2022, https://bit.ly/3azQtOe
[28] Icon news، هنا موسكو.. ما لا يخبرك به الإعلام الغربي عن حرب روسيا في أوكرانيا، 24 مارس 2022م، تاريخ الاطلاع: 01 يونيو 2022م، https://bit.ly/3x6tSl7
[29] جريدة الأخبار اللبنانية، أسعد أبو خليل، حرب البروباغاندا العالمية: غرب الرأي الواحد، 05 مارس 2022م، تاريخ الاطلاع 08 يونيو 2022م، https://bit.ly/3amWaPh
[30] Icon news Icon news، هنا موسكو.. ما لا يخبرك به الإعلام الغربي عن حرب روسيا في أوكرانيا، مرجع سابق.
[31] المرجع السابق.