حرب غزة والنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط

https://rasanah-iiis.org/?p=34093

مقدمة

قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023م، كان التقييم الأمريكي للأوضاع في الشرق الأوسط أنَّها تسير باتّجاهٍ مواتٍ للمصالح الأمريكية، حتى أنَّ جو بايدن عندما شرع في رحلته الأولى إلى المنطقة كرئيس في 2022م، أشاد بحقيقة أنَّها المرة الأولى منذ هجمات 11 سبتمبر 2001م، التي يزور فيها زعيم أمريكي المنطقة دون مشاركة القوّات الأمريكية في مهام قتالية. وهذا ما أكَّده أيضًا مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان، قبل أيام قليلة من «طوفان الأقصى»، بقوله إنَّ الشرق الأوسط أصبح أكثر هدوءًا اليوم ممّا كان عليه منذ عقدين من الزمن، وأشاد بقُدرة الولايات المتحدة على التركيز على الأولويات الإستراتيجية خارج الشرق الأوسط.

تكمُن الإشكالية في أنَّه بينما كانت تتّخِذ واشنطن خطوات عملية لاستعادة النفوذ، من خلال جهد دبلوماسي ومحفِّزات اقتصادية وترتيبات أمنية، حيث تركِّز جهدها لمواجهة التحدِّيات في بيئات إقليمية أخرى، إذ بها تجِد نفسها مضطرَّةً للعودة والانخراط ومتابعة مزيد من المهام القتالية في المنطقة، في ظل تحدِّيات غير مسبوقة، ليس على صعيد علاقاتها بخصومها الإقليميين كإيران ووكلائها، أو منافستها للقُوى الكُبرى في المنطقة كالصين وروسيا وحسب، لكن أيضًا على صعيد علاقاتها بحلفائها الإقليميين، الذين اختلفت وجهات نظرهم تجاه الأحداث عن وجهات نظر الولايات المتحدة، ورأوا أنَّ سياسة واشنطن أعادت الصراع والفوضى من جديد للمنطقة، وعطَّلت مشروع الاستقرار، الذي كانت تقوده القُوى الرئيسية الفاعلة في المنطقة، وفي مقدِّمتهم المملكة العربية السعودية.

هكذا أعادت عملية طوفان الأقصى، التي عُدَّت بمثابة زلزال إستراتيجي ضربَ المنطقة، الجدلَ بشأن علاقة الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط. وضمن هذا النقاش، طُرِحت أسئلة جوهرية جديرة بالنقاش، أهمّ هذه الأسئلة: ما هي انعكاسات «طوفان الأقصى» وما تبِعها من تطوُّرات على النفوذ الأمريكي في المنطقة ومتابعتها لإستراتيجيتها في المنطقة؟ ويتفرَّع من هذا السؤال المركزي عدد من الأسئلة الفرعية، وهي ثلاثة: الأول، ما هي طبيعة علاقة الولايات المتحدة بالمنطقة قبل «طوفان الأقصى»؟ والثاني: ما هي ردود الفعل الأمريكية على «طوفان الأقصى» وحرب غزة، وما هي أهدافها ودوافعها؟ وأخيرًا، إلى أيّ مدى نجحت الولايات المتحدة في تحقيق ومتابعة سياساتها، وما هي النتائج والتداعيات التي ترتَّبت على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط؟

ستحاول هذه الدراسة أن تجيب عن هذه التساؤلات من منظور واقعي، باعتبار أنَّ الولايات المتحدة انخرطت، في صراع إقليمي واسع النطاق لتأكيد تفوُّقها، واستخدمت أدوات مختلفة أبرزها القوَّة العسكرية لحماية أمنها، والحيلولة دون حدوث تغيُّر في ميزان القُوى، الذي من شأنه إذا حدث أن يهدِّد الوضع القائم. وفي هذا السياق، ستعتمد الدراسة على المنهج الاستقرائي، الذي يركِّز على جمع البيانات والعلاقات المترابطة بطريقة دقيقة؛ من أجل الربط بينها والخروج بنتائج كلِّية. وهو كغيره من المناهج العلمية يحدِّد الإشكالية أو الظاهرة محل البحث؛ من أجل متابعة تفاصيلها، والتعرُّف إلى مسبِّباتها، من ثمَّ الانتقال من الأمور الجزئية إلى الأمور الكلِّية، أو بمعنى آخر، من المفهوم الخاص إلى العام. وفي إطار هذا المنهج، يمكن الاستعانة بدراسة الحالة كأداة لاستقراء انعكاسات «طوفان الأقصى» وحرب غزة على النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، وعلى مكانتها الدولية.

أولًا: الواقع والسياسة الأمريكية ما قبل «طوفان الأقصى»

ظلَّ الشرق الأوسط منذ حرب تحرير الكويت عام 1990م في قلب الاهتمام الأمريكي، لكن شكَّل فك ارتباط الولايات المتحدة بهذه المنطقة، جزءًا من إستراتيجية محسوبة منذ ولاية الرئيس باراك أوباما لتحويل تركيز واشنطن نحو تنافسها المتصاعد مع الصين، وقد أحيت هذه السياسة المنظور الأمريكي للمنطقة قبل عام 1990م، والذي جمَعَ بين الحد الأدنى من الوجود العسكري، والاعتماد على الحلفاء الإقليميين للحفاظ على الاستقرار. وعلى الرغم من أنَّ هذا لم يتحقَّق لأنَّ الشرق الأوسط فرَضَ نفسه على الأجندة الأمريكية خلال فترتي أوباما وترامب، غير أنَّ إدارة الرئيس بايدن كانت تفخر حتى وقت قريب، بأنَّ مشكلات الشرق الأوسط لم تثنها عن التحوُّل نحو الشرق الأدنى، مع ذلك كانت عواقب هذه السياسة وخيمة على واشنطن والمنطقة، فقد أدَّى تراجُع مظلَّة الحماية الأمريكية إلى تعرُّض النفوذ الأمريكي لتحدِّيات رئيسية، أبرزها:

1. تصاعُد نفوذ إيران واقترابها من العتبة النووية:

أتاح تراجُع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة الفُرصة لإيران لمدّ نفوذها الإقليمي، وتعزيز تواجدها على مشارف الممرّات البحرية الإستراتيجية، وتشجَّعت على شن مزيد من الهجمات غير المباشرة ضدّ الأُصول والقواعد الأمريكية في المنطقة. وبينما كانت سياسة إدارة بايدن الرئيسية عند دخوله البيت الأبيض هي إحياء الاتفاق النووي مع إيران لاحتواء طموح إيران النووي. لكن مع تعثُّر المفاوضات، عزَّزت إيران من قُدراتها على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، وأصبحت قريبة من تخطِّى العتبة النووية، ليس هذا وحسب؛ إنها أظهرت مزيدًا من التحدِّي للولايات المتحدة، من خلال دعمها لروسيا في حربها على أوكرانيا، وتعزيز تحالفها مع الصين وفنزويلا وكوريا الشمالية، ضمن سياسة ممنهجة لبناء تحالُف مناهض للهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية.

2. توتُّر العلاقات مع بعض الحلفاء التقليديين:

شعَرَ شُركاء واشنطن بالإحباط؛ بسبب الاستجابة الأمريكية الباهتة للاضطرابات وتجاهُل مصالحهم، ومن ثمَّ دفعت سياسة واشنطن بحلفائها التقليديين إلى تبنِّي سياسة أكثر استقلالًا عن واشنطن، وشرعت هذه الدول في تنويع شراكاتها الإستراتيجية. وبمرور الوقت، تزايدت الثقة بالنفس لدى الدول الرئيسية في الشرق الأوسط وقادتها، وإدراكهم أنَّ الولايات المتحدة لم تعُد راغبة أو قادرة على حل مشاكلهم بالنيابة عنهم، وأنَّ عليهم أن يأخذوا الأمور الإقليمية بأيديهم. وكان هذا مقدِّمةً للاتفاق السعودي-الإيراني، وإعادة دمْج سوريا في منظومة العمل العربي، وعكست هذه التحوُّلات تغييرًا حادًّا في نهْج القُوى الإقليمية وفي مقدِّمتها السعودية، حيث انحرفت بقوَّة نحو التفاوض وخفْض التصعيد كبديل للمواجهة، وإثر ذلك توقَّف التنسيق رفيع المستوى بين السعودية والولايات المتحدة بشأن إيران، وتابعت سياساتها النفطية الأكثر ارتباطًا بمصلحتها الوطنية، بعيدًا عن الضغوط الأمريكية، وظهر جليًا أنَّه لأول مرَّة منذ عام 1990م، تشهد المنطقة تحوُّلات مهمَّة بدون مشاركة من الولايات المتحدة [1].

3. السياسة النفطية المستقِلَّة لدول الخليج:

كان الاعتقاد بأنَّ عنصر الطاقة لم يعُد مهمًّا في إستراتيجية واشنطن تجاه الشرق الأوسط، لا سيّما في ظل الطفرة التي شهدها النفط الصخري، والرغبة في التحوُّل العالمي نحو الغاز المُسال ومصادر الطاقة المتجدِّدة، لكن أثبتت الحرب الروسية على أوكرانيا، أنَّ نفط الشرق الأوسط ودول الخليج تحديدًا مهم، في إطار احتفاظ واشنطن بمكنتها الدولية، لكن كان لتخارج واشنطن من المنطقة أثرًا سلبيًا على نفوذها فيما يتعلَّق بمجال النفط، إذ في ظل تراجُع الشراكة الإستراتيجية مع دول الخليج، فإنَّها بحثت عن مسار خاص بها على صعيد الاقتصاد وتنويع المصادر والعلاقات. وقد مثَّل رفْض السعودية والإمارات الاستجابة للضغوط الأمريكية بزيادة إنتاج النفط للحد من ارتفاع الأسعار بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، انزعاجًا كبيرًا لواشنطن، حيث أدركت خطأ حساباتها في هذا الملف[2].

4. تنامي نفوذ الصين:

وجدت الصين فرصةً تاريخية لأن تمدّ نفوذها إلى المنطقة، ويصبح الشرق الأوسط جزءًا من التنافس الجيوسياسي والجيواقتصادي مع واشنطن على المسرح الدولي، وأثمرت جهودها عن الوصول إلى اتفاق لتطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، وهو الاتفاق الذي غيَّر ديناميات الصراع في المنطقة بصورة كبيرة، وترَكَ الولايات المتحدة أمام تحدِّي تراجُع تأثيرها الإقليمي، وخسارة حُلفاء مؤثِّرين في مواجهة إيران، وفقدان المكانة الاقتصادية في المنطقة لصالح الصين. ولهذا شكَّلت الصين تحدِّيًا للدور، الذي تلعبه الولايات المتحدة منذ فترة طويلة، باعتبارها وسيط القوَّة الخارجي الرئيسي في الشرق الأوسط، كما شجَّع تراجُع الحضور الأمريكي على ظهور جهات فاعلة سعت إلى ملء الفراغ الأمني، كتركيا التي وسَّعت من عملياتها العسكرية في سوريا والعراق وطال نفوذها لبنان، كما وصل حضورها العسكري منطقة الخليج، وتدخَّلت روسيا في الصراع في سوريا ونجحت في تغيير موازين القُوى لصالحها في مواجهة واشنطن، علاوةً على ذلك، أضافت الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل حزب الله في لبنان والمتمرِّدين الحوثيين في اليمن والقوّات الكردية في سوريا، المزيد من التعقيد إلى المشهد الجيوسياسي[3].

لتفادي التحوُّلات الجارية في الشرق الأوسط، والدفع بترتيبات جديدة لاحتواء التهديدات واستعادة التأثير، تبنَّت إدارة بايدن إستراتيجية جديدة، واشتملت هذه الإستراتيجية على خمسة مبادئ[4]: المبدأ الأول الشراكات؛ وفقا لهذا المبدأ ستدعم الولايات المتحدة وتعزِّز الشراكات مع الدول الإقليمية، التي تشترك في النظام الدولي القائم على القواعد، مع التأكُّد من أنَّ تلك الدول قادرة على الدفاع عن نفسها ضدّ التهديدات الأجنبية. والثاني الردع؛ أي لن تسمح الولايات المتحدة للقُوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرِّية الملاحة عبر الممرّات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع الجهود، التي تبذلها أيّ دولة للسيطرة على دولة أخرى أو على المنطقة، من خلال التعزيزات العسكرية أو التوغُّلات أو الهجمات والتهديدات. والثالث الدبلوماسية؛ بمعنى أنَّ الولايات المتحدة لا تهدُف فقط إلى ردْع التهديدات، التي يتعرَّض لها الاستقرار الإقليمي، بل ستعمل على تقليل التوتُّرات حيثما أمكن ذلك، ووقف التصعيد، وإنهاء الصراعات حيثما أمكن ذلك، من خلال الدبلوماسية. أمّا المبدأ الرابع فهو التكامل؛ أي العمل على بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شُركاء الولايات المتحدة، حيثما أمكن ذلك، مع احترام سيادة كل دولة واختياراتها المستقِلَّة. وأخيرًا الخامس وهو القيم؛ بالتأكيد على تعزيز حقوق الإنسان والقِيَم المنصوص عليها في ميثاق الأُمم المتحدة.

من خلال هذه المبادئ التوجيهية، والتي يعزِّز بعضها البعض، حاولت الولايات المتحدة أن تحتوي التحوُّلات الجارية في الشرق الأوسط، وقد نجحت بعض تحرُّكاتها على النحو الآتي:

أ. إعادة ضبْط العلاقة مع الحلفاء: وعَدَ بايدن الزعماء العرب في قمَّة عُقِدت في المملكة العربية السعودية، بأنَّ إدارته ستُعيد بناء الثقة و«تحقيق نتائج حقيقية، وأنَّها ستعمل في سياق الشرق الأوسط كما هو اليوم؛ منطقة أكثر اتحادًا ممّا كانت عليه منذ سنوات». وبالفعل ركَّزت الولايات المتحدة جهودها على بناء وتمكين بنية دفاعية جوِّية وبحرية متكاملة في المنطقة، من خلال شراكات مبتكرة وتقنيات جديدة، إضافةً إلى دعْم اتصالات البنية التحتية عبر العراق والخليج والأردن، ودعْم اتفاقيات التجارة الحُرّة الجديدة في جميع أنحاء المنطقة، وفتح المجال الجوِّي، بما في ذلك أمام الطائرات الإسرائيلية، التي تحلِّق فوق المملكة العربية السعودية. وبالفعل نجحت الولايات المتحدة أن تُحدِث بعض الاختراقات، لا سيّما مع حلفائها القُدامى، كالمغرب ومصر ودول الخليج، وذلك عبر المناورات والتدريبات المشتركة، والزيارات الرسمية، ناهيك عن المحادثات والتنسيق خلف الكواليس.

ب. الرهان على توسيع اتفاقيات إبراهام لإعادة رسم التوازنات الإقليمية: كان ملف التطبيع واتفاقيات إبراهام رافعةً مهمَّة للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، لما ينطوي عليه من رهانات، كان الظن أنَّها ستعيد تشكيل الشرق الأوسط من منظور أمريكي، حيث استبدلت واشنطن جهود صُنع السلام باتفاقات أبراهام، ولم يكُن للفلسطينيين أيّ دور على الإطلاق. وافترضت إدارة بايدن، على وجه الخصوص، أنَّها إذا شجَّعت التعاون الإقليمي، فإنَّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين يمكن أن يتأجَّل، وفي المقابل، استخدمت الحكومة الإسرائيلية الاتفاقات لتقول إنَّه لم يعُد من الضروري التوصُّل إلى تسوية مع الفلسطينيين، حيث يمكنهم إبرام اتفاقيات منفصلة مع الدول العربية في المنطقة.[5] وكانت المفاوضات قبيل اندلاع «طوفان الأقصى» تجري مع السعودية حتى تنضم إلى هذه الاتفاقيات، لكن ما كان يعطِّلها شروط الرياض، التي كان من بينها تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، وهذه المفاوضات لو نجحت كانت ستُعَدُّ مكسبًا أمريكيًا هائلًا لاستعادة تأثيرها الإقليمي بعد سنوات من التراجع، باعتبار مكانة المملكة ودورها.

ج. دمْج الحلفاء الإقليميين في مشروعات دولية داعمة للهيمنة الأمريكية: دشَّنت الولايات المتحدة في هذا الإطار ما يُعَرف بتحالف I2U2 بين الهند وإسرائيل والإمارات والولايات المتحدة، ومنتدى النقب، وتعمل هذه المنتديات على معالجة التحدِّيات المُلِحَّة، بدءًا من الأمن الغذائي إلى تغيُّر المناخ إلى هيكل الأمن الإقليمي. كما أطلقت واشنطن طريقًا تجاريًا جديدًا يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا عبر السِكَك الحديدية والموانئ، وقال البيت الأبيض إنَّ المشروع سيكون إيذانًا ببدء «عصر جديد من الاتصال»، سيشكِّل تحدِّيًا مباشرًا لمبادرة الحزام والطريق الصينية. ومن الواضح أنَّ هذه المشروعات تستهدف دمْج عدد من الحُلفاء في الشرق الأوسط مع حُلفاء من منطقة جنوب شرق آسيا وآخرين في الغرب، في جهود احتواء صعود الصين.[6] لقد خطَّطت الولايات المتحدة من خلال تعزيز تحالفاتها الإقليمية، إلى إعادة رسْم وهندسة التنافس الإقليمي، وعرقلة التفاهمات الإقليمية، التي كانت تحِدّ من نفوذ الولايات المتحدة على الصعيد الإقليمي، بما في ذلك نفوذ الصين المتنامي، والانفتاح الإيراني على دول المنطقة، وعزْل الولايات المتحدة عن قضايا المنطقة، بالتوازي مع ذلك ركَّزت الولايات المتحدة جهودها على احتواء تهديدات إيران ووكلائها الإقليميين.

د. دعْم الاستقرار وتحقيق الردع الإقليمي: عزَّزت واشنطن من جهودها من أجل تأمين الاستقرار الإقليمي، وإتاحة المجال لنقل واشنطن أُصولها إلى مناطق الصراع الجديدة في أوروبا وفي جنوب شرق آسيا. لقد دفعت واشنطن نحو تعزيز العلاقات بين تركيا والإمارات العربية المتحدة، وتركيا وإسرائيل، وقطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة وقطر، كما عملت على جسْر الخصومات، التي استقطبت منطقة الشرق الأوسط لسنوات عديدة من خلال الدبلوماسية والمصالح المتداخِلة. وفي هذا الإطار، توسَّطت في رسْم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وتمسَّكت بمسار الدبلوماسية مع إيران لتسوية الخلافات بشأن البرنامج النووي، وبحثت إمكانية إعادة إحياء اتفاق 2015م، والتي تضمَّنت في إطارها اتفاقًا بشأن تبادُل السجناء، وبدت واشنطن من خلال هذا النشاط الدبلوماسي حريصةً على دعْم الأمن والاستقرار الإقليمي[7]، وبالتوازي مع ذلك سعت واشنطن إلى بناء هيكل أمني إقليمي تشرف عليه، ويتِم فيه دمْج إسرائيل، بحيث تتحمَّل دول المنطقة عبء تحقيق الأمن والاستقرار، ومواجهة المخاطر والتحدِّيات، وكان هذا الهيكل بالأساس يستهدف إيران، وهو ما سيحقَّق عدَّة مكاسب لواشنطن.

ثانيًا: الاستجابة الأمريكية للتطوُّرات بعد «طوفان الأقصى»

لقد أظهرت الولايات المتحدة استجابةً واسعة لعملية طوفان الأقصى، ويمكن أن نُشير إلى حدود هذه الاستجابة، وما انطوت عليه من أهداف ودوافع على النحو الآتي:

1. ضمان أمن إسرائيل والقضاء على المقاومة الفلسطينية:

نظرت الولايات المتحدة إلى هجوم حماس في السابع من أكتوبر، على أنَّه تهديد وجودي لحليفتها الإستراتيجية إسرائيل، وبينما تعهَّدت إسرائيل بسحق حماس، وشنَّت بناءً على ذلك حربًا واسعة على قطاع غزة، فإنَّ واشنطن وفَّرت لإسرائيل الدعم العسكري والسياسي والاقتصادي لتحقيق هذا الهدف. فعَقِبَ «طوفان الأقصى»، أجرى الرئيس الأمريكي جو بايدن اتصالًا هاتفيًا برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكِّدًا أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية تقِف إلى جانب إسرائيل، وتدعم بشكل كامل حقّ تل أبيب في الدفاع عن نفسها، كما سارع الرئيس الأمريكي إلى زيارة إسرائيل لإظهار وقوفه وإدارته إلى جانب إسرائيل في حربها على غزة، وشارك في اجتماع مجلس الحرب الإسرائيلي.

بالإضافة إلى ذلك، تبنَّى بايدن وعناصر إدارته الرواية الإسرائيلية فيما يتعلَّق بهجوم 7 أكتوبر، الذي شنَّته حماس، بما في ذلك اتّهام حماس بقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء، وهي ادعاءات لم يثبت صحتها، وذلك في محاولة لحشد الدعم والرأي العام العالمي لصالح إسرائيل في حربها على قطاع غزة. كما برَّرت إدارة بايدن الهجمات الإسرائيلية واستهداف المدنيين، عبر اتّهام عناصر حركة حماس بالتخفِّي بين المدنيين الفلسطينيين، واستخدام الأطفال والأبرياء كدروع بشرية، وزرْع أنفاق إرهابية تحت البنايات المدنية. إضافةً إلى ذلك، عمِلَت واشنطن على توفير غطاء حماية يحول بين إسرائيل وبين تحمُّل أيّ لوم أو مسؤولية دولية، بما في ذلك الحيلولة دون تمرير أيّ قرار في مجلس الأمن يُدين إسرائيل، أو يدعو إلى وقْف الحرب.

وعلاوةً على ذلك، التزمت الولايات المتحدة بتأمين المساعدات العسكرية لإسرائيل، وبالفعل قامت إدارة بايدن بمدّ إسرائيل بصواريخ القبّة الحديدية للدفاع الجوِّي، والقنابل ذات القطر الصغير، ومعدّات JDAM، التي تحوِّل القنابل غير الموجَّهة إلى أسلحة موجَّهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS). وتأتي عمليات تجديد الموارد إلى جانب الصفقات المُتفَق عليها سابقًا للأسلحة المتقدِّمة، مثل الطائرات المقاتلة من طراز F-35، وطائرات الهليكوبتر من طراز CH-53 الثقيلة، وناقلات التزوُّد بالوقود الجوِّي من طراز KC-46، كما طلبت إدارة بايدن من الكونجرس مساعدات إضافية بـ 14 مليار دولار لإسرائيل[8].

وكهدف مشترك، تدعم واشنطن بشدَّة استمرار إسرائيل في جهود عسكرية للقضاء حركة حماس، وتغيير الواقع في غزة ما بعد الحرب، وهُنا يقول بايدن: «ما دامت حماس متمسِّكة بأيديولوجية التدمير، فإنَّ وقْف إطلاق النار لن يصنع السلام. وبالنسبة لأعضاء حماس، فإنَّ كل وقْف لإطلاق النار يمثِّل لهم فُرصةً لإعادة بناء مخزونهم من الصواريخ، وإعادة تمركُز المقاتلين، وبدء عمليات القتل من خلال مهاجمة الأبرياء مرَّةً أخرى. إنَّ النتيجة، التي تسمح لـ«حـماس» بالسيطرة على غزة، من شأنها أن تؤدِّي مرَّةً أخرى إلى إدامة كراهيتها، وحرمان المدنيين الفلسطينيين من الفُرصة لبناء شيء أفضل لأنفسهم»[9]، ليس هذا وحسب بل تخطِّط واشنطن لمرحلة ما بعد حماس في غزة، وتبحث عن سُلطة بديلة لإدارة القطاع، وذلك بعد أن تراجعت عن مخطَّطات التهجير، التي رفضتها دول المنطقة، وفي مقدِّمتها مصر والأردن.

2. حماية المصالح الأمريكية وتأكيد النفوذ العالمي:

فسَّرت الولايات المتحدة الهجوم الذي شنَّته حركة حماس، بأنَّه يستهدف بالأساس الإستراتيجية الأمريكية، ويعكس اتّجاهًا إقليميًا آخر مناهض ومعاكس لمسار السياسة الأمريكية في المنطقة؛ وبالتالي فإنَّ ردود الفعل الأمريكية قد تأسَّست على رغبة مُلِحَّة لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، واحتواء الفوضى الإقليمية المحتملة، ورُبّما استغلال الحدث لتحقيق ما عجزت عنه الدبلوماسية والمشاركة، إذ لا تزال الولايات المتحدة تنظُر لذاتها على أنَّها القَّوة العالمية الأكثر تأثيرًا، وأنَّ نفوذها في الشرق الأوسط لم يعُد كما كان قبل عقد أو عقدين، والواقع أنَّه بالمقارنة بأيّ قوَّة أخرى، أو مجموعة قُوى، فإنَّ واشنطن الأكثر قُدرةً على النهوض بالمهام العسكرية والدبلوماسية في المنطقة، خصوصًا أنَّ الصين التي عزَّزت نفوذها في المنطقة، تبدو مهتمَّةً بالمبادرات الاقتصادية، ولا ترغب في لعِب دور ما في الحرب أو السلام، لكن تحوُّطًا لدخول المنطقة حيِّز التنافس الجيوسياسي، بعدما عزَّزت الصين حضورها الاقتصادي الكبير، فإنَّ الولايات المتحدة قد تكون وجدت في التطورات فُرصةً لتثبيت نفوذها وتأكيده.

يُثبت تشكيل الولايات المتحدة للتحالف الدولي لحماية لبحر الأحمر، والذي تمَّ الإعلان عنه في ديسمبر 2023م، وجهةَ النظر تلك، إذ على الرغم من الهدف المُعلَن وهو التصدِّي لهجمات الحوثيين وحماية حركة التجارة عبر البحر الأحمر، فإنَّ هناك اعتقادًا بأنَّ هناك أهدافًا غير مُعلَنة ترتبط بتعاظُم مكانة منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي في الإستراتيجية الأمريكية على الصعيد الدولي، والتي قد تدفع واشنطن إلى عسكرة المنطقة، وذلك في إطار إستراتيجية واشنطن لإعادة الانتشار بهذه المنطقة، وتوسيع نفوذها على نحوٍ فعّال؛ وبالتالي تأمين السيطرة على مضيق باب المندب، وقطْع الطريق على مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومواجهة النفوذ المتصاعد لروسيا وإيران وتركيا في هذه المنطقة، وفي الوقت نفسه حماية المصالح الإسرائيلية، ولعِب دور بارز في إعادة هيكلة التوازنات الإستراتيجية بشرق أفريقيا[10].

3. ردْع إيران ووكلائها والحيلولة دون اتّساع نطاق الصراع:

حشدت الولايات المتحدة إمكانياتها؛ من أجل ردْع فصائل المقاومة، وحرمانها من المشاركة في الحرب إلى جانب حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية، وكذلك لأجل حماية المصالح الأمريكية في المنطقة من التهديدات والاستهدافات المتوقَّعة. في هذا الإطار، حذَّرت واشنطن حزب الله في لبنان وبقية الميليشيات في العراق ولبنان واليمن من الانخراط في الصراع، أو شن هجمات على إسرائيل، كما حرَّكت مجموعتين من حاملات الطائرات نحو شرق البحر المتوسِّط، ونشرت 2000 جندي من مشاة البحرية قبالة الشاطئ، ووضع 2000 جندي آخرين في وضع الاستعداد، وذلك في استعراض واضح للقوَّة، والتعبير عن الجدية في الوقوف إلى جانب إسرائيل، والاستعداد التام لاستخدام القوَّة، في حال هاجمت أيٌّ من هذه الفصائل إسرائيل. وقد قامت الولايات المتحدة بالفعل بتوجيه ضربات للميليشيات في العراق وسوريا واليمن، وقد كانت أبرز الهجمات تلك التي شنَّتها مع حليفتها بريطانيا ضدّ الحوثيين، وكذلك الضربات التي استهدفت 85 هدفًا في 2 فبراير 2024م، والتي تمَّ تنفيذها باستخدام قاذفات B-1، التي انطلقت من الولايات المتحدة، جزءًا ممّا يقول المسؤولون الأمريكيون إنَّها ستكون حملةً تستغرق عدَّة أيام ضدّ أهداف إقليمية مرتبطة بإيران[11]. وكانت واشنطن ترغب في تعزيز قوَّة ردعها لتجنُّب التصعيد واتّساع نطاق الحرب، مع إتاحة الفُرصة لإسرائيل لشن حرب ضارية على جبهة واحدة ضدّ حركة حماس، وعدم فتْح جبهات إضافية[12]. كما عمِلَت واشنطن على تقويض قُدرة إيران ومحور المقاومة على إلحاق المزيد من الضرر من خلال العقوبات المنسَّقة، وعمِلَت الولايات المتحدة بالمشاركة مع حلفائها الغربيين على فرْض مزيد من العقوبات على إيران وأذرعها في المنطقة، على خلفية التصعيد الذي تقوم به، كما فرضت جولات متعدِّدة من العقوبات لإضعاف الهيكل المالي لـ«حماس»، وقطعها عن التمويل الخارجي، ومنْع الوصول إلى قنوات التمويل الجديدة، بما في ذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي[13].

4. التنسيق مع الحلفاء الدوليين والإقليميين:

على الصعيد الدولي، نسَّقت الولايات المتحدة مواقفها من الأزمة مع حُلفائها الدوليين، وقد أظهر العديد من القادة الغربيين التزامهم بدعم إسرائيل سياسيًا وعسكريًا، وكان الظن الأمريكي أنَّه يمكنها أن توفِّر لإسرائيل الدعم على غرار ما قدَّمته لأوكرانيا، من خلال حشْد دولي واسع النطاق. ويبدو أنَّ هذا الحشد متصل بإستراتيجيتها الأوسع لتأمين المكانة الدولية في مواجهة القُوى المنافسة كالصين وروسيا، وبينما مثَّل التصعيد في البحر الأحمر الاشتباك الأكثر تأثيرًا لاتّساع نطاق الصراع، حيث مثَّلت هجمات الحوثيين بالمسيِّرات والصواريخ ضّد السفن المتّجِهة لإسرائيل، وكذلك السفن والبوارج الأمريكية والبريطانية تحدِّيًا رئيسيًا للولايات المتحدة ولحرِّية التجارة العالمية، بالإضافة إلى كونه ورقة ضغط قد تؤثِّر على مجريات الحرب على غزة، فإنَّ واشنطن عمِلَت على إطلاق مبادرة متعدِّدة الجنسيات تهدُف إلى حماية السفن التجارية في البحر الأحمر، وذلك قبل شن هجمات عسكرية على أهداف للحوثيين داخل الأراضي اليمنية بالمشاركة مع بريطانيا[14].

وعلى الصعيد الإقليمي، زار بلينكن وأعضاء الإدارة الأمريكية العديد من دول المنطقة، وفي هذا الإطار بذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة لاحتواء غضب الحلفاء الإقليميين من موقف واشنطن المنحاز إلى إسرائيل، والمتجاوز لأُسُس الشراكة الإقليمية، وابتغت واشنطن تحقيق أربعة أهداف أساسية، هي: الحد من اتّساع نطاق الحرب، ومناقشة ملف المساعدات الإنسانية لغزة، في الوقت الذي يتعرَّض له الفلسطينيون للمجاعة في ظل الحصار الذي تفرضه إسرائيل، والتخفيف من حدَّة الأزمة الإنسانية الناجمة عن الغارات اليومية، التي ترتكبها إسرائيل، واستكشاف كيف يمكن للاتفاقات السياسية بعد توقُّف القتال أن تُطلِق مفاوضات من أجل منطقة مستقِرَّة وسِلْمية، وبحث التعاون في خِطَط إعمار غزة ما بعد الحرب. وبالمجمل، ترغب الولايات المتحدة في ألّا تؤِّثر حرب غزة على نهجها وخِطَطها طويلة الأمد في المنطقة، والتي كانت قيْد التنفيذ عشيةَ السابع من أكتوبر.

5. محاولات الاحتواء وتحسين الصورة:

بعد أن اتّسع نطاق الحرب الإسرائيلية على غزة، فإنَّ الأزمة الإنسانية قد تفاقمت، وارتفعت النداءات الدولية والأُممية لحماية المدنيين، وبدا أنَّ الولايات المتحدة تتحمَّل مسؤوليةً أساسية عن ذلك، باعتبارها تحولُ دونَ أيّ تحرُّك دولي لوقف الحرب، بدأت إدارة بايدن في ممارسة ضغوط على إسرائيل من أجل تخفيف حدَّة الأزمة الإنسانية، وتغيير المسار الراهن، وضبْط النفس، وحماية المدنيين[15]، ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضًا إلى دعوات واشنطن الحوثيين وغيرها من الميليشيات للتهدئة، وعزْل نفسها عن مجريات الحرب على غزة، وكذلك انخراط الولايات المتحدة في المفاوضات، التي أفضت إلى هُدَنٍ مؤقَّتة تَّم فيها تباُدل عدد من الأسرى وإدخال بعض المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى دور إدارة بايدن في احتواء التصعيد ومنْع انتشار الحرب إلى جنوب لبنان، وذلك من خلال سحْب حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس جيرالد فورد» من البحر الأبيض المتوسِّط إلى قاعدتها بالولايات المتحدة، وما تحمله هذه الخطوة من رسالة ضمنية إلى إسرائيل، وأخرى إلى إيران وحزب الله، بأنَّ الولايات المتحدة لا تزال لا تُفضِّل حربًا إقليمية، وذلك إلى جانب الزيارات الرسمية، التي قام بها المبعوث الأمريكي آموس هوكستين إلى كلٍّ من إسرائيل ولبنان لتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701 سنة 2006م، وتشجيع المفاوضات لترسيم الحدود البرِّية[16].

ثالثًا: النتائج وعواقب السياسات

يمكن إبداء بعض الملاحظات على نمط التدخُّل الأمريكي في المنطقة بعد حرب غزة، على النحو الآتي:

الملاحظة الأولى: أنَّ الولايات المتحدة حاولت استيعاب تداعيات هذا الصراع على النفوذ الأمريكي في المنطقة، من خلال تحقيق التوازن بين عدَّة أهداف، وهي: إظهار التضامن مع إسرائيل؛ وإدارة العلاقات مع الشركاء العرب؛ واحتواء الحرب في غزة لمنع اندلاع حريق إقليمي، والحفاظ على صورة الولايات المتحدة ومكانتها دوليًا والقواعد والقِيَم التي تتبناها، وكذلك الحفاظ على شعبية بايدن قبل الانتخابات الرئاسية، لكن يبدو أنَّها كانت محاولة لتحقيق التوازن بين عدَّة أهداف متعارِضة.

الملاحظة الثانية: أنَّ منطق الهيمنة والقوَّة، لا يزال هو المنطق، الذي يوجِّه السلوك الأمريكي، ويظهر ذلك في تراجُع واشنطن عن مبادئ الدبلوماسية، والمشاركة لصالح القوَّة والانخراط العسكري.

الملاحظة الثالثة: أنَّ التطوُّرات فرضت على الولايات المتحدة تغيير بعض مواقفها، وهو ما أظهر السياسة الأمريكية وكأنَّها متذبذبة.

الملاحظة الرابعة: لا يُستبعَد أن تكون الولايات المتحدة قد وظَّفت «طوفان الأقصى»، لإعادة الانتشار العسكري، والدفع بترتيبات مهمَّة لتأمين النفوذ في غرب آسيا وحوض البحر الأحمر والشرق الأوسط ككُل، وذلك في إطار تأمين مكانتها الدولية، وحصار خصومها وإحباط خِطَطهم الاقتصادية والسياسية.

وعلى أيّ حال، فإن «طوفان الأقصى» والتعاطي الأمريكي معها قد خلَقَ واقعًا جديدًا في المنطقة، وضمن هذا الواقع يمكن كشف أهمّ الانعكاسات على السياسة الأمريكية في المنطقة؛ وذلك على النحو الآتي:

1. عودة قضية فلسطين إلى جدول الأعمال مع أُفُق محدود للتسوية:

بعدما كانت إدارة بايدن تحاول خلْق واقع إقليمي جديد، متجاوزةً قضية فلسطين، بما في ذلك حل الدوليتين، أعاد الصراع الراهن القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وتأكَّد أنَّ اتفاقيات أبراهام لا يمكن أن تكون نواةً لتحقيق السلام، طالما تمَّ تجاهُل الحقوق الفلسطينية. وقد وصلت هذه القناعة إلى القوى الإقليمية، بما في ذلك أعضاء اتفاقيات إبراهام أنفسهم، الذين باتوا مجبرين على إدانة إسرائيل وإعادة التفكير في المسار الذي تابعوه، بعدما تبيَّن أنَّ إسرائيل تتمادى في عدوانها[17]. أمّا فيما يخُصّ السعودية، فإنَّها أكَّدت على موقفها الراسخ، بأنَّها لن تقوم بتطبيع العلاقات مع إسرائيل ولن تساعد في إعادة إعمار غزة، طالما استمرَّت إسرائيل في عرقلة الطريق نحو إقامة الدولة الفلسطينية. وقال وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان: «إذا كُنّا نُعيد ضبْط الوضع الراهن قبل 7 أكتوبر، بطريقة تؤهِّلنا لجولة أخرى، كما رأينا في الماضي، فنحن لسنا مهتمِّين بهذه المحادثة»[18].

وفقًا لهذه التطوُّرات، أدركت إدارة بايدن أنَّه ستكون هناك حاجة إلى عملية سياسية بعد انتهاء الحرب في غزة، ودار نقاش حول خِطَط اليوم التالي لغزة، لكن التحدِّي هو أنَّ إدارة بايدن بحاجة إلى خطَّة ذات مصداقية؛ محدَّدة زمنيًا، ولها نهاية واضحة، وإلّا سيكون ذلك مضيعةً للوقت. وهناك تحدِّيٌ آخر، وهو أنَّ اليمين المهيمن على السُلطة في إسرائيل، غير مقتنع بأيّ تسوية، ويتابع مسار القوَّة كخيار وحيد، كما أنَّ المزاج الشعبي في إسرائيل مؤيِّد لهذا النهج المتطرِّف. ومن جهة أخرى فإنَّ الانتخابات الأمريكية، التي باتت على الأبواب، قد تحول دون ممارسة الضغوط الكافية على اليمين المهيمن على السُلطة في إسرائيل. وأخيرًا تفتقر السُلطة الفلسطينية إلى الشرعية كطرفٍ في المفاوضات، ولا تزال المقاومة صامدةً في مواجهة الحملة الإسرائيلية، بل إنَّ العنف يتّسِع نطاقُه في الضفة الغربية. وهكذا يمكن القول إنَّ القضية الفلسطينية فرضت نفسها على إدارة بايدن، لكن في الحقيقة كقضية مستعصية تاريخيًا على الحل، وتخضع لتوازنات القوَّة، وتنفرد الولايات المتحدة بدورها كوسيط غير نزيه وغير عادل، فليس من المأمول أن نشهد تغييرًا على مسار حل الدولتين، بل دورةً جديدةً من الصراع، لكنّها جولةٌ مختلفة عن غيرها.[19]

2. مواجهة إقليمية على جبهات متعدِّدة وعودة إجبارية للمهام القتالية:

لقد فتَحَ حزب الله جبهة الشمال مع إسرائيل؛ لتخفيف الضغط عن فصائل المقاومة الفلسطينية[20]، وكذلك بدأت الميليشيات المحسوبة على إيران في العراق وسوريا شنَّ عشرات الهجمات بالصواريخ والمسيّرات على القواعد والتمركزات والمصالح الأمريكية بالعراق وسوريا، بل بدأت في توجيه ضرباتها نحو الداخل الإسرائيلي، ناهيك عن دخول الحوثيين على خط الصراع، وفتْح جبهة مع إسرائيل عبر البحر الأحمر[21]. وبحسب التقديرات، كان هناك أكثر من 150 هجومًا صاروخيًا وطائرات بدون طيّار على القوّات الأمريكية في الشرق الأوسط، منذ 7 أكتوبر 2023م[22]. حمَّلت الولايات المتحدة إيرانَ المسؤوليةَ عن الهجمات، التي تتعرَّض لها مصالحها في المنطقة، حيث تُشير معلومات الاستخبارات الأمريكية إلى أنَّ سفينة إيرانية مُتمركِزة في البحر الأحمر، قد مكَّنت الحوثيين من استهداف السُفُن باستخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ بدقَّة[23]، بل إن «البنتاغون» اتّهم إيران بالتورُّط المباشر في الهجوم بطائرة بدون طيّار على ناقلة كيماويات بالقُرب من الهند. وردًّا على ذلك، يميل أعضاء في الكونجرس إلى توجيه ضربة عسكرية لإيران، إذا استمرَّت الهجمات على القواعد الأمريكية في العراق وسوريا، ومن اليمن[24]. كما تتّهِم واشنطن إيران بالمسؤولية عن مقتل اثنين من قوّات البحرية الأمريكية في خليج عدن، أثناء اعتراضهما شحنةً من مكوِّنات الصواريخ البالستية وصواريخ كروز الإيرانية، التي قال الجيش الأمريكي إنَّها كانت متّجِهةً إلى اليمن، وأخيرًا تحمِّل واشنطن إيران المسؤولية عن الهجوم بمسيَّرة انتحارية على قاعدة التنف في شرق الأردن قُرب الحدود مع العراق؛ الأمر الذي أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين، وإصابة العشرات، وهو أعنف هجوم تعرَّضت له واشنطن في المنطقة، منذ أحداث السابع من أكتوبر.

لقد فرضت هذه التطوُّرات على الولايات المتحدة ضرورة تعزيز أُصولها العسكرية، وإعادة توجيه مواردها من جديد إلى المنطقة، لكن هذه المرَّة تخوض واشنطن المواجهة على جبهات متعدِّدة، حيث يجتمع أكثر من طرف على هدف إخراج القوّات الأمريكية من الشرق الأوسط. وهذه الجهات تقوم بعمليات مُمنهَجة تتِم إدارتها بنجاح، ويتِم فيها استغلال نقاط الضعف الأمريكية لشن هجمات أكثر حدَّة من أيّ وقتٍ مضى، وفي الوقت نفسه الاستفادة من المشاعر المعادية للولايات المتحدة، ليس بين الشيعة وحسب، ولكن بين السُنَّة كذلك، حيث يتِم فرْض أمر واقع جديد على واشنطن[25].

والخطورة هي أنَّ العمليات التي تقوم بها إيران والميليشيات التابعة، تعكس الارتباط العضوي المتزايد، والقُدرة الكبيرة على تهديد المصالح الأمريكية، مع تآكُل في قوَّة الردع الأمريكية[26]، وهذا الأمر قد يجُرّ الولايات المتحدة إلى تكثيف للهجمات ورُبّما حرب مباشرة مع إيران، على غرار حرب الناقلات في الثمانينيات من القرن الماضي، أو تصعيد غير مسبوق، كما حدث مع اغتيال قاسم سليماني في يناير 2020م، حيث تدعو أطراف أمريكية ردًّا على الهجمات، التي تعرَّضت لها نقطة المراقبة في الأردن، إلى توجيه ضربات مباشرة داخل الأراضي الإيرانية، ولا تقنعها ضربات محدودة لتمركزات تابعة للحرس الثوري أو الميليشيات التابعة لإيران[27].

وليس من المُستبعَد أن تجِد واشنطن نفسها مضطرَّة لأن تُعيد النظر في انتشارها العسكري بالمنطقة، بما في ذلك الانسحاب الكامل من سوريا، حيث تُشير مصادر في إدارة بايدن إلى أنَّ واشنطن لم تعُد مهتمَّة بمواصلة المهمَّة، وأنَّ هناك مناقشات داخلية نشِطة لتحديد كيف ومتى يمكن أن يتِم الانسحاب[28]، والأمر نفسه ينطبق على العراق، لا سيّما بعد تشكيل لجنة ثنائية للترتيب والتسريع من إنهاء مهام قوّات التحالف الدولي ضدّ داعش، تحت تأثير الضغط الشعبي بعد حرب غزة[29].

 3. تبايُن في وجهات النظر مع الحُلفاء الإقليميين:

كانت الولايات المتحدة بصدد ترميم علاقاتها بحلفائها الإقليميين، لكن أظهرت حرب غزة أنَّ هناك فجوةً كبيرةً في المواقف، وبدا أنَّ الولايات المتحدة لأوّل مرَّة تخوض مواجهات عسكرية دون دعْم عربي صريح وواضح، خصوصًا المواجهة مع إيران ووكلائها. وهُنا يُشار إلى إلغاء الأردن قمَّةً كان من المقرَّر أن يلتقي فيها بايدن بالرئيسين الأردني والمصري ورئيس السُلطة الفلسطينية محمود عباس[30]، ومع تطوُّر الحرب ونتيجةً لعدم استماع واشنطن لنصائح هؤلاء الحُلفاء فإنَّهم قد اتّجهوا للبحث عن بدائل، حيث توجَّهت مجموعة من وزراء الخارجية العرب في 20 نوفمبر 2023م، في جولة إلى الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن التابع للأُمم المتحدة، وكانت محطَّتهم الأولى في بكين، وكانت هذه وسيلة للدول العربية للإشارة إلى أنَّ لديها خيارات بخلاف الولايات المتحدة[31]. وأصدرت الدول العربية، بما في ذلك تلك المُعادية لأيديولوجية حماس، بيانات تُدين إسرائيل بشدَّة. وهكذا يبدو أنَّ ديناميكيات المنطقة والتصوُّرات عن دور الولايات المتحدة تغيَّرت بشكل جذري، وبحسب مروان المعشر، وزير الخارجية الأردني الأسبق: «لقد تمَّ تحطيم كل هذه الأساطير، وتجِد الولايات المتحدة نفسها في موقف لا تتمتَّع فيه بالنفوذ، الذي كانت تتمتَّع به من قبل»[32]. إذن، التغير الجوهري والمهم، وهو أنَّ بعض حُلفاء واشنطن الإقليميين غير مستعدّين للانخراط معها في المهام المشتركة التي تقودها، وذلك حفاظًا على ما تحقَّقَ من تهدئة واستقرار خلال الفترة الماضية، ورغبةً في عدم التورُّط في دعْم غير مباشر للحرب الجارية على غزة، مع ما يحمله ذلك من عواقب وتهديدات داخلية وخارجية. وهُنا يبدو أنَّ الدبلوماسية الأمريكية لا تزال تواجه صعوبات في إقناع حلفائها بسياساتها في المنطقة، ويبدو أكثر من أيّ وقتٍ مضى أنَّها لم تعُد قادرةً على طرْح مبادرة للتسوية، كما جرى خلال التسعينيات، ورُبّما الملمح الأهّم في التطوُّرات، التي أعقبت حرب غزة، هو أنَّه بدلًا من عرقلة العلاقات بين إيران السعودية، يبدو أنَّ حرب غزة أدَّت إلى تعزيز هذه العلاقات، كما أنَّ حرب غزة وحَّدت مواقف القُوى العربية الرئيسية، فيما ظلَّ نفوذ الصين وعلاقاتها بحُلفاء الولايات المتحدة في المنطقة مسارًا غير مرتبط بواشنطن، وما يؤكِّد أنَّ المنطقة قد تغيَّرت دينامياتها لتؤكِّد حدود نفوذ واشنطن[33].

4. تعريض المكانة الدولية للخطر في وقت حرج:

يبدو أنَّ الولايات المتحدة لم تعُد هي نفسها تلك القوَّة المؤثِّرة في الشرق الأوسط قبل عقدين من الزمن، ويبدو هذا واضحًا من تعثُّرها دبلوماسيًا وعسكريًا، في مواجهة مجموعات مسلَّحة من غير الدول، تخوض حروبًا غير متماثلة في جبهات عدَّة، مستخدمةً تكنولوجيا عسكرية جديدة، بعضها خارج السيطرة وقادرة على الإيذاء، والأهمّ دون دعْم إقليمي على غرار ما تمَّ في السابق في مواجهة تنظيم داعش، أو خلال حرب تحرير الكويت في 1990م، أو الحرب على العراق في 2003م. ولا شكَّ أنَّ هذا سيكون له تداعياته على المواجهة التي تخوضها واشنطن مع روسيا في أوكرانيا، ومع الصين في تايوان، فالولايات المتحدة قد تجِد من الصعوبة خوْض حروب في آنٍ واحد على جبهات متعدِّدة ومتباعدة[34]، وفي وقت تبدو غير قادرة على حشد الحُلفاء، على غرار ما حدث ضدّ روسيا بعد حربها على أوكرانيا؛ فحُلفاء الولايات المتحدة في شرق وجنوب آسيا لديهم وجهات نظر متباينة حول الصراع في فلسطين المحتلَّة، بل هذه التباينات موجودة داخل المعسكر الغربي نفسه.

كذلك، فإنَّ مجريات الصراع في الشرق الأوسط وما تواجهُه الولايات من تحدِّيات مضافًا إلى فشل الهجوم الأوكراني المضاد، قد يشجِّع مزيدًا من القُوى الدولية على التمرُّد، وقد يكون انتشار العنف والصراعات على هذا النحو مقدِّمةً إلى حروب أوسع نطاقًا غير قابلة للسيطرة، على غرار ما حدث قبل الحرب العالمية الأولى والثانية، ولا يفوت التنويه إلى أنَّ خصوم الولايات المتحدة كالصين وروسيا، يستفيدون من الموقف الأمريكي في هذا الصراع. ففي حين أنَّ الولايات المتحدة تشوِّه سمعتها لدى دول الجنوب العالمي من خلال دعمها غير المشروط على ما يبدو لإسرائيل، فقد قامت بكين بمعايرة استجابتها للحرب بعناية، مع إيلاء اهتمام وثيق للرأي العام في العالم النامي، وقد كسبت مقابل ذلك دبلوماسيًا عندما كانت مقصدًا لوزراء الخارجية العرب، وكسبت شعبيًا عندما أظهرت استطلاعات الرأي أنَّ الشعوب العربية الآن تفضِّل الصين على الولايات المتحدة. وإذا اتّخذ شي جين بينج، في مرحلةٍ ما في المستقبل، القرار المصيري بغزو تايوان، فمن المؤكَّد أنَّه يأمل أن يكون موقفه من حرب غزة سببًا في زيادة احتمالات اصطفاف الجنوب العالمي خلف بكين بدلًا من واشنطن[35]. إنَّ هذا الواقع يشرح بعضًا ممّا تواجهُه الولايات المتحدة من تحدِّيات بعد عملية طوفان الأقصى، لكن قراءة الصورة كاملة تؤكِّد ما قاله بايدن: «تواجه الولايات المتحدة اليوم واحدة من تلك اللحظات النادرة، والتي لا تقِلّ أهمِّية عن فجر الحرب الباردة، أو فترة ما بعد 11 سبتمبر»[36].

5. عسكرة الممرّات البحرية والتأثير المُحتمَل على نمو التجارة العالمي: 

لقد قاد الموقف الأمريكي غير المتوازن من الحرب على غزة، إلى اتّساع نطاق الصراع إلى منطقة البحر الأحمر، ونظرًا لأنَّ البحر الأحمر ساحة تنافُس دولي كبير نظرًا لوجود 11 قاعدة عسكرية متاخمة لمدخله من جهة الجنوب، تخُصّ القُوى الكبرى المتنافسة تتبع العديد من الدول المتنافسة إقليميًا ودوليًا، فإنَّ نشْر الولايات المتحدة لمزيد من القوّات وتشكيل تحالُف واسع من حلفائها، بالإضافة إلى عمليات مشتركة مع بريطانيا، قد يحرِّك التنافس الدولي إلى المنطقة، ويؤثِّر على أمنها واستقرارها.

بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ التهديدات، التي واجهتها الولايات المتحدة بسبب الهجمات البحرية التي شنها الحوثيون على السفن المتجهة لإسرائيل والسُفُن الأمريكية وكذلك والهجمات على القطع البحرية الأمريكية في البحر الأحمر وخليج عدن، أثَّرت على حركة السُفُن عبر مضيق باب المندب، واضطرَّت الشركات إلى تغيير وجهة قوافلها نحو طريق رأس الرجاء الصالح، وهو ما زاد من تكلفة الشحن. وإذا ما استمرَّ هذا الوضع، فسوف تتأثَّر سلاسل الإمداد، ورُبّما يتراجع نمو التجارة العالمي. ولا شكَّ أنَّ الاستمرار في تبنِّي نهْج القوَّة قد يدفع الأمور نحو مزيد من التدهور، فقد تنتقل الأزمة إلى ممرّات بحرية أخرى ذات أهمِّية، فإيران قد سبق وهدَّدت بغلق مضيق جبل طارق، كما أنَّ لديها إمكانية التأثير على حركة التجارة عبر مضيق هرمز، والذي يمُرّ عبره خُمس إنتاج النفط العالمي. ويتوقَّع المحلِّلون أن يؤدِّي تصعيد الحرب على نطاق أوسع على هذا المنوال، إلى رفْع أسعار النفط إلى 150 دولارًا للبرميل. وهذا من شأنه أن يضمن حدوث انكماش اقتصادي عالمي جديد، مع ما يترتَّب على ذلك من عواقب سياسية في مختلف أنحاء العالم[37].

6. العُزلة وفقدان المصداقية:

رُبّما لأول مرة منذ عقود طويلة، تحتلّ القضية الفلسطينية مكانةً بارزةً دوليًا، وهو ما يسهم في عزْل الولايات المتحدة؛ بسبب الدور الفريد الذي تلعبه في دعْم إسرائيل عسكريًا، حيث إنَّها متَّهمة بالمسؤولية غير المباشرة عن إلحاق إسرائيل أضرارًا مدمِّرة بالمدنيين وانتهاكات للقانون الإنساني الدولي؛ فالاعتقاد السائد بأنَّ الولايات المتحدة جزء من هذه الحملة العسكرية، ويؤكِّد ذلك ما قالته المتحدِّثة باسم «البنتاغون» سابرينا سينغ، في 30 أكتوبر 2023م: «إنَّ الولايات المتحدة لا تضع أيّ قيود على كيفية استخدام إسرائيل للأسلحة، التي تقدِّمها الولايات المتحدة في حربها ضدّ حماس»[38]، وفقًا لذلك، فقد أضرَّت الولايات المتحدة بأهليتها للدفاع عن نظام دولي قائم على القواعد، وقد ظهر ذلك جليًا في القرار الأولي للمحكمة، الذي دحض ادّعاء إدارة بايدن بأنَّ القضية «لا أساس لها من الصحة»، إذ ثبُت من قرار المحكمة الجنائية الدولية أنَّ الولايات المتحدة غير متّسِقة مع ذاتها؛ لأنَّها متَّهمة بدعم إبادة جماعية مُحتمَلة في غزة. وبينما أخفقت الولايات المتحدة بإقناع إسرائيل بتعديل نهجها، فإنَّ مشاهد الصراع، التي نجحت حماس والمتعاطفين معها في ترويجها من خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أثَّرت على صورة الولايات المتحدة دوليًا وداخليًا. والملفت في هذه المعركة عن سابقتها تعاطُف الأجيال الجديدة داخل الولايات المتحدة وعلى الصعيد العالمي مع مأساة الفلسطينيين، إذ أظهرت استطلاعات الرأي تراجُع شعبية بايدن في الداخل، واستغلَّ خصومه موقفه لقلب الرأي العام عليه، وقد تعرَّض بنفسه لهجوم وانتقادات خلال جولاته الانتخابية، وهو ما يُشير إلى التأثير واسع النطاق للحرب على الولايات المتحدة داخليًا وخارجيًا[39].

7. تحفيز التنظيمات المتطرِّفة على شن هجمات على الولايات المتحدة وحلفائها:

لا شكَّ أنَّ الحرب الإسرائيلية على غزة وموقف الولايات المتحدة منها، منحت فُرصةً كبيرة للجماعات المتطرِّفة لتعزيز حضورها، إذ إنَّ هذه الجماعات قد وظَّفت الحرب لإعادة تنظيم صفوفها والترويج لخطابها المتشدِّد، بل لشحن مقاتليها من أجل شن مزيد من الهجمات، ناهيك عن تجنيد مقاتلين جُدُد. لقد ظهر ذلك بوضوح في البيانات المتتالية، التي أعلنتها أفرع هذه التنظيمات بمختلف المناطق، والتي أعلنت فيها مواقفها من الأحداث وطريقة التعاطي معها، والتي كان من بينها ما قام به تنظيم داعش تحت عنوان الحملة العالمية «اقتلوهم أينما وجدتموهم». ولقد شهِدَت بعض المناطق بالفعل مردودًا لهذا التأثير، إذ أعلن «داعش» مسؤوليته عن تنفيذ 35 هجومًا في سبع محافظات سورية، خلال الأيام العشرة الأولى من عام 2024م، من أصل 100 هجوم في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أنَّ تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال بعيدًا عمّا كان عليه في عامي 2013 و2014م، لكن مكمن الخطر أنَّ الحرب في غزة والأزمة الإقليمية المتصاعدة تخلق فُرَصًا للجماعة الإرهابية لاستغلال الوضع لمصلحتها الخاصَّة، وإذ ما ربطنا ذلك باحتمال انسحاب الولايات المتحدة من سوريا أو العراق تحت وطأة الضغوط، فإنَّ المنطقة قد تعود للمربَّع، الذي كانت عليه في عام 2014م، عندما أعلن التنظيم دولتَهُ المزعومة على بعض أراضي سوريا والعراق[40]، ورُبّما تعود هجمات «الذئاب المنفردة» في الدول الغربية المتحالفة مع إسرائيل والولايات المتحدة. وقد التفتت بعض الدول الغربية لهذه المخاطر، فرفعت من إجراءاتها لمواجهة هجمات مُحتمَلة، وذلك استجابةً لتوصيات المؤتمر الذي نظَّمه مكتب التحقيقات الفيدرالي في كاليفورنيا في 17 أكتوبر 2023م، وشارك فيه قادة مخابرات أستراليا وكندا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، حيث أصدروا تحذيرًا مشترًكا حول الارتفاع المُحتمَل في الهجمات المحلِّية في أعقاب الأحداث بغزة[41].

خلاصة

تُعتبَر عملية طوفان الأقصى زلزالًا إستراتيجيًا وجيوسياسيًا ضرَبَ الشرق الأوسط، وقد وجدت الولايات المتحدة نفسها بعدهُ أمام تطوُّرات دراماتيكية لا تصُبّ بالضرورة في صالحها، بل خلقت العملية واقعًا معقَّدًا ومتشابكًا بصورة غير مسبوقة، إذ عكست «طوفان الأقصى» مسار الاستقرار الإقليمي، الذي كان مهمًّا لتركيز الجهود الأمريكية على احتواء الصين، كما وضعت التطوُّرات واشنطن في مواجهة واسعة النطاق مع إيران بدلًا عن احتوائها. وتخوض الولايات المتحدة هذه المواجهة دون حلف إقليمي متماسك، كما كان في السابق، ولا حتى حلف دولي على غرار التحالف المنعقد ضدّ روسيا في حربها ضد أوكرانيا، إضافةً إلى ذلك فإنَّ العملية عطَّلت مسار أبراهام، ناهيك عن تدهور سمعة واشنطن في المنطقة.

وعلى الصعيد الدولي، وتوفير فُرصة لخصومها الصين وروسيا في إطار المنافسة الدولية، بمعنى أدقّ، عطلَّت «طوفان الأقصى» الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، وفرضت عليها تحدِّيات متزايدة على الصعيد الدولي، وإن كانت الولايات المتحدة تظن أنَّها من خلال هذه الحرب يمكن أن تعود للشرق الأوسط وتستعيد نفوذها، دون الوضع بالاعتبار أهمِّية تسوية القضية الفلسطينية، ودون التعامل مع حلفائها الإقليميين كشُركاء حقيقيين يجدُر الاستماع لهم، فإنَّها عودة من الطريق الخطأ وتكرار لأخطاء الماضي، ورُبّما تكون عواقب ذلك دفْع تكلفة أكبر من أيّ وقتٍ مضى، فقط للحفاظ على ما بقِيَ من نفوذها ومصالحها.


[1] للمزيد: راجع، محمود حمدي أبو القاسم، تحوُّلات السياسة السعودية تجاه إيران.. الدوافع والسِّمات ونتائج السياسات، المعهد الدولي للدراسات الإيرانية، (20 أغسطس 2023)، https://2u.pw/vIIqIjz

[2] Sheikh Nawaf Bin Mubarak Al-Thani, America’s Role in the Middle East: The View from the Gulf, (August 10, 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/zxIyiKR

[3] Mark Leonard, The Post-American Middle East, European Council on Foreign Relations, (19 June 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/AurACuj

[4] Washington, white house, National Security Strategy, (OCTOBER 2022), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/IHimgJG

[5] Marwan Muasher, The Greater Goal in Gaza For Lasting Peace, Israel Must End Its Occupation of Palestinian Land, (January 15, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/IYuEtzA

[6] Nadeen Ebrahim, New US-backed India-Middle East trade route to challenge China’s ambitions, CNN, accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/fHDohlF

[7] Atlantic Council, Brett McGurk sets out the ‘Biden doctrine’ for the Middle East, February 15, 2023, accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/CEjIUMs

[8] Mathias hammer, What to Know About U.S. Military Support for Israel’s Gaza Offensive, The time (Nov 3, 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/SjCmdIR

[9] Joe Biden, The U.S. won’t back down from the challenge of Putin and Hamas, The Washington post, November 18, 2023, accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/hm19DyX

[10] Mohammad Ali Thamer, Betul Dogan-Akkas, Red Sea Hostilities: Local, Regional, and International Implications, Carnegie Endowment for International Peace, (January 30, 2024), accessed: Feb 1, 2024, https://carnegieendowment.org/sada/91500

[11]  Loveday Morris, Mustafa Salim and Mohamad El Chamaa, U.S. strikes in Syria and Iraq kill dozens of militants, Washington post, (February 3, 2024), accessed: Feb 4, 2024, https://2u.pw/CK6UmtU

[12]  Loveday Morris, Mustafa Salim and Mohamad El Chamaa, U.S. strikes in Syria and Iraq kill dozens of militants, Washington post, (February 3, 2024), accessed: Feb 4, 2024, https://2u.pw/CK6UmtU

[13] Joe Biden, The U.S. won’t back down from the challenge of Putin and Hamas, Ibid.

[14] Alexandra Stark, Don’t Bomb the Houthis: Careful Diplomacy Can Stop the Attacks in the Red Sea, foreign affairs, (January 11, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/c5cImH7

[15]  Emma Ashford &Matthew Kroenig, Can the U.S. Prevent a Wider War in the Middle East?, foreign policy (Jan 19, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/GbOSF0g

[16] مركز الإمارات للسياسات، كسْر قواعد الاشتباك في لبنان: احتمالات انزلاق حزب الله إلى حرب مفتوحة مع إسرائيل، (19 يناير 2024)، تاريخ الاطلاع: 30 يناير 2024، https://2u.pw/8tOFuZl

[17] Roula Khalaf, Biden’s vast diplomatic challenge in the Middle East, The Financial Times, (Oct 20 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/ZCJAIz4

[18] Melanie Lidman &Wafaa Shurafa, Saudi Arabia won’t normalize relations with Israel absent path to Palestinian state, top diplomat says, (January 22, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/Sdw4Uyr

[19] Marwan Muasher, The Greater Goal in Gaza, foreign affairs, (January 15, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/IYuEtzA

[20]   Roula Khalaf, Biden’s vast diplomatic challenge in the Middle East, Ibid.

[21] Jamie Dettmer, We are once again at war in the Middle East, politico, (Dec 23, 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/wnHgEyB

[22] Jim Garamone, U.S. Continues Protection Mission in Middle East, Convenes Ukraine Defense Group Meeting, (Jan. 22, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/xJlUNz0

[23] سي إن إن عربي، سفينة حربية إيرانية تدخل إلى البحر الأحمر بعد يوم من إغراق 3 زوارق حوثية، (01 يناير 2024)، تاريخ الاطلاع: 25 يناير 2024، https://2u.pw/xNeiut4

[24] Tom Crean &Chris Gray, Conflict In Middle East Creates New Challenges For US Imperialism, Socialist alternative, (Nov 26, 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/GmMji8R

[25] Ivo Daalder, Biden’s foreign policy headache in 2024, politico, (Jan 2, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/2xGYJCc

[26] Narges Bajoghli and Vali Nasr, How the War in Gaza Revived the Axis of Resistance, foreign affairs, (January 17, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/vs6xukL

[27] Jack Detsch 3 Options for How Biden Could Respond to Iran,  foreign policy, (Jan 29, 2024), accessed: Jan 31, 2024, https://2u.pw/dYTvulD

[28] Amberin Zaman, Pentagon floats plan for its Syrian Kurd allies to partner with Assad against ISIS, al-monitor, (January 22, 2024), accessed: Jan 31, 2024, https://2u.pw/ydsa27X

[29] الحرة، العراق يشكل لجنة ثنائية لإنهاء مهمة التحالف الدولي، (05 يناير 2024)، تاريخ الاطلاع: 31 يناير 2024، https://2u.pw/ANAhVSH

[30] Ivo Daalder, Biden’s Middle East challenge, (Oct 20, 2023), accessed: Jan 29, 2024, politico, https://2u.pw/TcnmLYQ

[31] Mark Leonard, China’s Game in Gaza, foreign affairs, (January 8, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/O2iysrL

[32] Marwan Muasher, The Greater Goal in Gaza, foreign affairs, Ibid.

[33] Dalia Dassa Kaye and Sanam Vakil, Only the Middle East Can Fix the Middle East, foreign affairs (February 1, 2024(, accessed: Feb 4, 2024, https://2u.pw/AKOzRGb

[34] Kathryn Levantovscaia, Overstretched and undersupplied: Can the US afford its global security blanket?, (January 5, 2024), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/HCsB9k5

[35]   Mark Leonard, China’s Game in Gaza, Ibid.

[36] William J. Burns, Spycraft and Statecraft: Transforming the CIA for an Age of Competition, (January 30, 2024), ccessed: Jan 31, 2024, https://2u.pw/YTvxwRf

[37] Mohammad Ali Thamer, Betul Dogan-Akkas, Red Sea Hostilities, Ibid.

[38] Mathias hammer, What to Know About U.S. Military Support for Israel’s Gaza Offensive, Ibid.

[39] Leslie Vinjamuri, President Biden’s Middle East visit reveals the challenges for US diplomacy – and the cost of American withdrawal from the region, Chatham house (18 Oct 2023), accessed: Jan 29, 2024, https://2u.pw/5d9OQYY

[40] تقى النجار، “طوفان الأقصى”.. بين “القاعدة” و”داعش”، المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية، (21 أكتوبر 2023)، تاريخ الاطلاع: 31 يناير 2024، https://ecss.com.eg/37405/

[41] Sherine Fahmy, The Gaza War and the Danger of Extremism, Carnegie Endowment for International Peace, (January 25, 2024), accessed: Feb 1, 2024, milafaty.com/#wyo2t2ny?

د. محمود حمدي أبو القاسم
د. محمود حمدي أبو القاسم
مدير تحرير مجلة الدراسات الإيرانية