حرية التعبير والأمن القومي.. اعتقال مؤسس «تلغرام» بافيل دوروف وأكثر

https://rasanah-iiis.org/?p=36325

نعم؛ «قُتِلت الخصوصية برصاص وسائل التواصل الاجتماعي»، قالها بيت كاشمور؛ رجل أعمال ومفكِّر مؤثِّر في مجال الإنترنت في 2009م. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت وسائل التواصل الاجتماعي أملًا للتغيير، لكن بعد عقد من الزمن أصبحت هذه الأدوات الشاملة ومتعدِّدة الاستخدامات والضرورية أيضًا تمثِّل تهديدًا للأمن القومي؛ إذ تحوَّلت وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «إكس؛ تويتر سابقًا» و«تلغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك»، إلى محرِّكات شرّ؛ أكان ذلك من منظور الديمقراطيات الغربية أو الأنظمة الاستبدادية الشرقية. ولم يعُد الحق في الاتصالات المشفَّرة انعكاسًا لحِّرية التعبير، سواءً في فرنسا أو البرازيل. وتطوَّر تصنيف منصَّات التواصل الاجتماعي، وخرَجَ من تصنيف شركات التكنولوجيا إلى تصنيفٍ أكثر تعقيدًا؛ ودار شدٌّ وجذْب بين عمالقة وسائل الإعلام التكنولوجية والحكومات، بشأن الضرائب والقيود القانونية، التي يجب أن تُفرَض عليهم، وما يخلقونه من مخاطر تهدِّد الأمن القومي للدول.  وفي هذا الصدد، يريد الحُكّام المستبِدُّون أن تمتثِل شركات وسائل التواصل الاجتماعي لأوامرهم، أو سيخسرون عائدات الإعلانات، ومن جانبها تعطي الجمهوريات الديمقراطية الأولوية للمخاوف الأمنية على حرِّية التعبير.

وفي عالم غارق بالتناقضات، يدَّعي كلٌّ من المدير التنفيذي لــــ«التلغرام» ومالك «إكس»؛ إيلون ماسك، أنَّهما تحرُّريان يدعمان الحرِّية المُطلَقة، لكن كلاهما لا يولِي أيّ اهتمام للآراء المعارِضة، ودائمًا ما يتجاهلان نصائح فِرَق عملهم. أمّا مالك «ميتا» و«فيسبوك» و«إنستغرام»؛ مارك زوكربيرغ، فهو يصُبُّ جُلّ اهتمامه في ريادة الأعمال بمجال التكنولوجيا والإنترنت.

فوضى رقمية مع محاولات تنظيمية

بعد فترةٍ وجيزةٍ من شرائه منصَّة «إكس؛ تويتر سابقًا» مقابل 44 مليار دولار، طبَّق ماسك نهجه المتساهِل في تعديل المحتوى والخفْض، إن لم يكُن رفَعَ تمامًا كل القيود، التي تمنع نشر الأخبار المزيَّفة وخطاب الكراهية والتطرُّف. وبالنسبة لنصف مليار مشترك، بدأ إيلون ماسك في تنفيذ وعوده السابقة؛ إذ منَحَ ماسك العلامة الزرقاء لأكثر من 800000 حساب بارز، وفتَحَ الباب على مصراعيه للحصول على علامة التوثيق الزرقاء لكُلِّ من يستطيع دفْع رسوم الاشتراك الشهرية. ومن عجيب المفارقات أنَّ أول من بدأ بتوثيق المستخدمين البارزين، هي منصَّة «إكس؛ تويتر سابقًا»، وسرعان ما تبِعتها منصَّة «جوجل بلس» في عام 2011م، ثمَّ «فيسبوك» في عام 2012م، و«إنستغرام» في عام 2014م. لكن تمكُّن منتحلي الشخصية من شراء العلامة الزرقاء، قد أضعف موثوقية هذه المنصَّات.

وفي خِضَمّ أعمال الشغب الطائفية، التي اندلعت بعد طعْن ثلاثة أطفال في 30 يوليو في ساوثبورت في بريطانيا، تحوَّلت منصَّة «إكس» إلى نافخ كير. وكأنَّ تخفيف معايير تعديل المحتوى وإعادة المتطرِّفين المحظورين، مثل: تومي روبنسون، وأندرو تيت لم يكُن كافيًا، فقد غرَّد ماسك قائلًا: «الحرب الأهلية أمرٌ لا مفرّ منه». وفي وقت سابق، أعرب ماسك علنًا عن دعمه لحزب اليمين المتطرِّف الألماني «البديل من أجل ألمانيا|AFD». واعترضت وزارة الخارجية الألمانية على إحدى تغريداته، حول تمويل المنظَّمات غير الحكومية لإنقاذ المهاجرين في البحر الأبيض المتوسِّط، وغرَّد قائلًا: «نعم… وهذا يُسمَّى إنقاذ الأرواح». وعلى الضفَّة الأخرى، حظَرَ ماسك، الذي تبلغ ثروته 250 مليار دولار، حسابات الصحافيين المنتقدين لإسرائيل على منصَّته.

أمّا تطبيق «تلغرام» صاحب المليار مشترك، الذي غالبًا ما يُطلَق عليه اسم «الشبكة المظلمة الجديدة»، يتمتَّع بشعبية كبيرة بين الساسة وموظَّفي الخدمة المدنية وعامَّة الناس، وأيضًا بين العصابات الإجرامية والجواسيس من كل حدَبِ وصوب. ويواجه الرئيس التنفيذي ومالك التطبيق بافيل دوروف، وهو مُحتجَز الآن في فرنسا بكفالة قدرها 550 مليون دولار، اتّهامات بعدم التعاون في قضايا جنائية، تشمل أيضًا تجارة الجنس مع الأطفال، ويواجه احتمالية الحُكم عليه بالسجن لمدَّة 10 سنوات إن ثبُتت إدانته. كما اتُّهِم دوروف بتجاهُل طلبات إنفاذ القانون، وهي تُهمة شائعة منذ فترة طويلة لدى وكالات إنفاذ القانون في جميع أنحاء العالم.

إنَّ الشكوك في تطبيق «تلغرام» متجذِّرة في فرنسا، لا سيّما أنَّ الهجمات «الإرهابية» في باريس عام 2015م، جرى تنسيقها باستخدام هذه المنصَّة. وعلى الرغم من المخاوف الأمنية المتزايدة حول هذا التطبيق، دائمًا ما يستخدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المنصَّة للتواصل مع متابعيه.

ويُقال إن تطبيق «تلغرام» المناهِض للسُلطة، قد أرسل هويّات نُشطاء المعارضة الروسية إلى الكرملين. وقُبيل وصوله باريس، يُعتقَد أنَّ الرئيس التنفيذي لتطبيق الــ«تلغرام» التقى بالرئيس الروسي في باكو؛ عاصمة أذربيجان. كما تشير التقارير الإعلامية الروسية إلى أنَّ دوروف زار روسيا أكثر من 50 مرَّة، على الرغم من تصريحاته أنَّه شخص غير مرغوب فيه في روسيا. ولكن لم يُثنِ كل هذا الأوكرانيين ورئيسهم فولوديمير زيلينسكي من استخدام التطبيق. الجدير بالذكر أنَّ تطبيق «تلغرام» لديه نشاطان رئيسيان: شبكات اجتماعية مفتوحة غير مشفرة مثل الدردشات الجماعية والرسائل الفردية، والدردشات السرية المشفرة. ومنذ فترة طويلة اعتمد الجيش الروسي على «التلغرام» كوسيلة آمنة، وسهلة وغير مكلفة للتواصل. ومع اعتقال دوروف في فرنسا، لا بُدّ للجيش الروسي الآن العودة إلى شبكات عسكرية آمنة وسط الصراع الدائر مع أوكرانيا. وعلى خلاف تطبيق المراسلات «سغنال»، لا يوفر الـــ «تلغرام» تشفيرًا مفتوح المصدر (أي التشفير المُتاح للعامة؛ وهذا يعني أنَّه يمكن لأيّ شخص عرْض واستخدام وتعديل الكود المصدري لبرنامج التشفير للتحقق من فعالية التشفير وتحديد أيّ ثغرات مُحتمَلة)، ويبقى أن نرى ما إذا تمكَّن القراصنة أو الوكالات الأجنبية، من اختراق التشفير في تطبيق «التلغرام». أمّا فيما يتعلَّق بالمحتوى المشفَّر، يولِّي تطبيق «التلغرام» اهتمامًا ضئيلًا بهذا الجانب، لا سيّما أنَّه يوظِّف فقط 30 إلى 40 فردًا للمراقبة المحتوى وتنظيمه بينما نجِد أكثر من 40 ألف موظف يعملون على هذا الجانب في منصَّات «ميتا» (فيسبوك، إنستغرام والواتساب).

وفي ظل استمرار الجدل الدائر في بريطانيا ما إذا كان ماسك قد حرَّض فعلًا على العُنف، أصبح دوروف الآن يُصنَّف من ضمن أهمّ روّاد الأعمال التقنيين، على شاكلة روس أولبريخت مؤسِّس موقع «سيلك رود» للتجارة غير المشروعة في الإنترنت وتشانغ بينغ تشاو مؤسِّس موقع « بينانس» لبيع وشراء العملات المشفَّرة، اللذين قد وُجِّهت إليهما اتّهامات بارتكاب جرائم ارتكبها مستخدمون من خلال الخدمات، التي يوفِّرونها على مواقعهم.

والمفارقة أنَّ أشدّ الدول انتقادًا لاحتجاز دوروف مع تقييدها حرِّية التعبير، كانت إيران وروسيا. متى دافعت طهران وموسكو عن حرية التعبير؟

العِلَّة في التفاصيل

من غير المرجَّح أن تتراجع «المحكمة العُليا» في البرازيل عن حظرها المفروض على منصَّة «إكس»، ومن المُحتمَل أن يجعل الاتحاد الأوروبي تطبيق «التلغرام» عِبرةً لبقية التطبيقات؛ بسبب ممارساته المنفلِتة. ورُبَّما تفتح منصَّات التواصل الاجتماعي مكاتب تمثيلية وطنية في مختلف أنحاء العالم، كما فعلت تركيا وباكستان. ويبدو أنَّ المعضلة المتمثِّلة في العمل تحت قوانين متباينة في مختلف أرجاء العالم معقَّدة جدًّا كتعقيد هدف الوصول إلى انبعاثات صفرية في 200 دولة.

وتعود أسباب الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي ومراقبتها إلى الجدل، الذي أُثير حول جائحة كورونا، وما تبعه من معلومات مضلِّلة؛ إذ كشفت الجائحة عن حجم التحدِّيات الخطيرة، التي ستستمِرّ منصَّات التواصل الاجتماعي في توليدها. وقد هزَّت إساءة استخدام خدمات الرسائل، وبعضها المشفَّر -من قِبَل الجماعات المتطرِّفة العنيفة والمحتالين- وكالات الاستخبارات والأمن الوطنية. وعندما قرَّر ماسك التراجع عن إتاحة علامة التوثيق الزرقاء، انتاب مكتب التحقيقات الفيدرالي القلق الشديد، لدرجة أنَّ فريقًا زار مقرّ «إكس». وقال الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، بعد أن حظرت المحكمة العُليا في البلاد منصَّة «إكس»: إنَّ «مجرد امتلاكه لكثير من المال، لا يعني أنَّ بإمكانه عدم احترام [القانون]»، في إشارة إلى بداية عصر الاستثنائية الرقمية (هذا المصطلح يُشير إلى أنَّ الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية لها حالة استثنائية تمتِّعها بحصانة من القوانين والمحاسبة).

وفي عام 2021م، اجتمع الرئيس الفرنسي ماكرون بالرئيس التنفيذي لتطبيق الــ «تلغرام» لتناول طعام العشاء، وعرَضَ عليه حينها الجنسية الفرنسية، التي قبلها لاحقًا إلى جانب الجنسية الإمارتية. وحتى أبوظبي، استثمرت 75 مليون دولار في «تلغرام»، بعدما وافق دوروف على نقْل مكتبه الرئيسي إلى الإمارات.

لماذا التسبُّب بأزمة دبلوماسية ذات أبعاد عالمية في حين يمكن تجنُّبها؟ لما يجب على رائد الأعمال في مجال التكنولوجيا الاستثمار في دولة أخرى إن لم تأتِ لإنقاذه؟

وعلى النقيض ممّا سبق، قد لا تنجح الولايات المتحدة في مشروع القانون، الذي يقضي بسحب استثماراتها من منصَّة «التيك توك» أو حظره. فما يبدو أنَّه قانون مشروع ذو دوافع سياسية، تصِفه الشركة الأُم لتطبيق «التيك توك» بايت دانس، ومقرّها بكين، بأنَّه «غير دستوري»، وأنَّ سحْب الاستثمارات «غير ممكن». ونظرًا للحقوق المنصوص عليها في «التعديل الأول»، فمن المُرجَّح أن تلغي المحكمة العُليا الأمريكية مشروع القانون هذا. وقد يغادر دوروف فرنسا، دون ثبوت اتّهامات عليه. لكن لن ينجح هذا مع قادة التكنولوجيا، ممَّن يُصِرُّون على تجاوزاتهم في منصّاتهم الرقمية القوية والمجرمين المتمرِّسين في مجال التكنولوجيا. وفي عالم اليوم المُستقطَب، ستدفع التشريعات التعسُّفية والضبابية والانتقامية إلى سيناريو لعبة القط والفأر بين الحكومات من جانب وأصحاب المثالية الخيالية أو المشاغبين في عالم التكنولوجيا.

المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
المعهد الدولي للدراسات الإيرانية
إدارة التحرير