تشهد الطوابير الطويلة على أبواب السفارات، وتنامي أعداد المراجعين من شركات تسهيل السفر إلى الخارج، على أن «الهجرة» أصبحت هدفًا أساسيًّا لبعض المواطنين، مع وجوب توضيح أن هجرة الإيرانيّين قبل ما يقرب من عشرة أعوام كانت تشمل النُّخبة، ومن هنا أصبح مصطلح «هرب العقول» متداوَلًا على الألسنة، وخلال هذه السنوات كان بإمكان الطبقة المرفَّهة من المجتمع الهجرة إلى الدول الأوروبيَّة والأمريكيَّة، لكن انكشف الآن الوجه الآخر من العملة، فلم تعُد تشمل النُّخبة أو الأغنياء فقط، بل انضمّت إليهم الشريحة المتوسطة من المجتمع، التي أخذت تبحث عن مستقبلها خارج حدود إيران.
القضية الأخرى هي الهجرة الداخلية، فقد تسببت البطالة، والجفاف، والمشكلات الصحيَّة، وعدم التوزيع العادل للثروة، وانعدام الاستثمارات المطلوبة، وشحّ المياه، وعدم الاستفادة من أنظمة الزراعة الحديثة، في أن يواجه بعض المحافظات ظاهرة الهجرة الداخلية، بحيث يترك بعض المواطنين موطنهم الذي وُلدوا وترعرعوا ودرسوا فيه، ويذهبون إلى مدن أخرى في إيران من أجل العمل والحصول على حياة أفضل. صحيح أنه من الممكن أن تقرِّب الهجرة المهاجرين من هدفهم، سواء بمغادرة إيران أو الانتقال بين مدنها، لكن المشكلات الناتجة عن ذلك تجعل من هذه الهجرة حلمًا لا يتحقق.
لمحة عن هجرة الإيرانيّين خلال العقود الأخيرة
«الهجرة» ليست كلمة غريبة على أسماع الإيرانيّين، وقد كانت الرغبة في الهجرة حاضرة دائمًا بينهم خلال العقود الأخيرة، لكنَّ هذه الرغبة شهدت تغيرات كثيرة خلال هذه المدة بسبب ظروف الدولة، وإذا ما تجاهلنا الهجرات التي حدثت في السنوات البعيدة، وأخذنا الهجرات على مرّ العقود الأخيرة بعين الاعتبار، فسنصل إلى قبل 40 عامًا، أي موجة الهجرة التي حدثت بالتزامن مع استقرار النِّظام الإيرانيّ بعد الثورة، فقد حزم عدد كبير ممَّن لديهم مصالح تتناقض مع النِّظام الجديد، أو من لم يتمكنوا من التعايش مع الظروف الجديدة، أمتعتهم وغادروا إيران، ويمكن القول إنَّ الفترة التي ازدهرت فيها هجرة الإيرانيّين إلى خارج الدولة هي السَّنةُ التي انتصرت فيها الثورة وسنتان تقريبًا بعدها.
لقد تَسبَّبَت حرب السنوات الثماني مع العراق في تغيير ديموغرافي، سواء في داخل إيران أو خارجها، وهاجر بعض من كان يبحث عن الأمان من الحرب، لكن موجات الهجرة تراجعت بعد انتهاء الحرب وحدوث استقرار نسبي في الدولة، وفي زمن حكومة الإصلاحات، ونظرًا إلى الانفتاح السياسي الذي حصل، شاهدنا في بعض الحالات هجرات عكسيَّة، إذ عاد إلى إيران بعض المهاجرين الذين كانوا يرون أنَّ الظروف الحاليَّة مناسبة للاستقرار.
خلال العقدين الأول والثاني من القرن الجديد
بعد انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا لإيران، ازدهرت الهجرة إلى خارج إيران مجدَّدًا، وأقدم كثير من الصحفيين والنُّشطاء السياسيين وكذلك من المواطنين الأثرياء أو المتعلمين، على مغادرتها، إذ كانوا يرون أنَّ الأوضاع السياسية والاجتماعية في الدولة غير مستقرَّة، وزادت حِدَّة هذه الموجة في عهد أحمدي نجاد، لأن الأوضاع كانت غير مطمئنة، وتُشير إلى احتمال نشوب حرب، لكن بعد انتخاب حسن روحاني تراجع معدَّل الهجرة من إيران، وأصبح بعض الإيرانيّين المهاجرين يتشوقون إلى العودة إلى الوطن.
اتّقد الأمل من جديد في قلوب الإيرانيّين على أثر وصول حكومة «التدبير والأمل» إلى السُّلْطة، ورفعِها شعارات ركّزت في أغلبها على تحسين الظروف المعيشية والاجتماعية والاقتصادية، وبالنظر إلى النجاح الذي حققته حكومة روحاني في فترتها الأولى، بخاصَّة على صعيد السياسة الخارجية، التي تُوجَّتَ بتوقيع الاتِّفاق النووي، أصبح الناس يرون أنَّ بانتظارهم مستقبلًا مشرقًا… لكنَّ الحظ لم يكُن حليف روحاني.
وبعد وصول الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى السُّلْطة في أمريكا، ومعارضته الاتِّفاق النووي، التي أدت في النهاية إلى خروج أمريكا منه، ساءت الأمور، وخلال فترة قصيرة بدأت أسعار العملة الصعبة والذهب والعملات الذهبية الارتفاع، بل والتنافس في ذلك، وأسهم ارتفاع أسعار هذه العناصر الثلاثة، التي لا يخفى تأثيرها على الاقتصاد الإيرانيّ بأكمله، في أن تصبح المعيشة يومًا بعد يوم أكثر صعوبة في إيران، وفي ظلّ الظروف الحالية، يستعدّ للهجرة بعض مَن تسمح لهم ظروفهم المالية والاقتصادية، ومن كانت ظروفهم غير مناسبة للهجرة فإما يتحسرون على ذلك، وإما ينظرون إلى المستقبل بأعين ملؤها القلق.
البطالة.. السبب الرئيسي للهجرة بين المحافظات
في هذه الأثناء، أجرى بعض المحققين في إيران دراسة في مارس الماضي، يبحثون خلالها معدَّل الهجرات بين المحافظات اعتمادًا على نتائج التعداد السكاني الرسميّ في إيران، وحاولوا الإجابة فيها عن بعض الأسئلة المطروحة بهذا الخصوص، وقد أجريت هذه الدراسة عن طريق التحليل الثانوي للبيانات الناتجة عن التعداد السكاني الذي أجراه مركز الإحصاء الإيرانيّ، وذلك بتحليل بيانات معدَّل البطالة، ومتوسط سنوات التعليم وتأثيرها على معدَّل الهجرة، وذلك باستخدام البرامج الإحصائية.
تشير نتائج هذه الدراسة إلى أنَّ نسبة المهاجرين من مجموع السكان خلال الفترة ما بين عامي 1996 و2006 بلغت 17.2 شخصًا مقابل كل 100 شخص، ووصلت هذه النسبة إلى 7.4 شخص مقابل كل 100 خلال الفترة ما بين 2006 و2011، وكانت البطالة هي السبب الأبرز للهجرة بين المحافظات.
يقول المتخصص في الديموغرافيا بمعهد الدراسات والإدارة الشاملة والمتخصصة في السكان، قربان حسيني: « في عام 2011 كانت النسبة الكبرى من عدد المهاجرين الداخليّين مقارنة بعدد السكان الأصليين من نصيب محافظات خراسان الجنوبية، والبرز، وبوشهر، وأشارت النسب إلى تغيرات كبيرة في تعداد سكان هذه المحافظات، وكانت النسبة الأقل من نصيب محافظات لرستان، وسيستان وبلوشستان، اللتين هما أساسًا من المحافظات المصدّرة للمهاجرين، أو بعبارة أخرى يغادرها عدد كبير من المهاجرين إلى مناطق أخرى».
اتّضح من هذه الدراسة أنَّ محافظة بوشهر جذبت القوى العاملة النشيطة من المحافظات المجاورة وغيرها من المحافظات، بسبب المكانة الاقتصادية، ووجود الشركات النِّفْطية الكبرى فيها، كما أن 44% من مجموع المهاجرين داخل إيران كانوا من نصيب محافظات طهران، وخراسان رضوي، وأصفهان، وفارس، ويوضّح حسيني في جزء آخر من هذه الدراسة أنَّ «ما يقرب من 50% من المهاجرين داخل المحافظة نفسها كانوا من نصيب محافظات طهران، وخراسان رضوي، وفارس، وأصفهان، والأحواز، ومازندران على الترتيب، كما أنَّ 50% من المهاجرين من محافظات إيران الأخرى نزلوا في محافظات البرز، وأصفهان، وخراسان رضوي، وجيلان، ومازندران، ومن أسباب الهجرة إلى هذه المحافظات وجود المركزية السياسية والإدارية فيها، فضلًا عن فرص العمل، والإمكانيات التعليمية والصحية، وخصوصًا الاقتصادية، ووجود الأماكن المذهبية، وتمتُّعها بمناخ جيد».
70% متعلمون ومتخصصون
من جهة أخرى، يشير ما يتداوله الناس إلى أنه على الرغم من جميع المشكلات التي تتسبب فيها الهجرة من إيران، فإن كثيرين منهم لديهم دافع قوي لمغادرة إيران خلال السنوات القادمة للعيش والدراسة والعمل في بلد متقدّم، وعلى الرغم من أنَّ المسؤولين يعلنون بين فينة وأخرى أنَّ معدَّل الهجرة بين صفوف الشريحة المتعلّمة من إيران ليس مرتفعًا، فإنَّ الإحصاءات الداخلية تشير إلى أنَّ 60 ألف شخص يهاجرون من إيران سنويًّا، في حين أنَّ إحصاءات الأمم المتَّحدة وصندوق النقد الدولي تشير إلى رقم بين 150 و180 ألف مهاجر، نسبة المتعلمين والمتخصصين منهم تصل ما بين 70% و80%، فضلًا عن ذلك تشير إحصاءات البرلمان ووزارة التربية والتعليم وغيرها من المؤسَّسات إلى أنَّ 70% من الحاصلين على المعدَّلات الأعلى في الثانوية العامَّة، والحائزين على جوائز في الأوليمبيادات العلمية قد غادروا إيران.
فقدان الأمل
مع أن عوامل مختلفة لعبت دورًا في هذه الظاهرة، فإنه لا يمكن استبعاد حدوث مثل هذه الهجرات عندما لا يكون بين المصادر والإمكانيات توازن، كما أنَّ وجود المشكلات الاقتصادية والسياسية من الأسباب الأخرى التي جعلت من يرغب في الهجرة يصرّح بها على أنها من دوافعهم الأساسية لاتّخاذ هذا القرار، ولنضِفْ إلى هذه الدوافع تَلوُّث الهواء في المُدن الكبرى، والمشكلات البيئية.
إنَّ مَن يرصد أوضاع إيران باستمرار يعلم أنَّ مشكلات كثيرة تهدِّد مستقبل إيران، لذا فهم لا يرون أن مستقبلهم سيُبنى في أرض آبائهم وأجدادهم، وهذا هو المصير المرّ الذي ينتظر كلّ من يحبّون المستقبل المشرق لإيران، لكنهم بالطبع فقدوا الأمل. والسؤال هو: كيف نجد الأمل من أجل إعمار هذا البلد؟
مادة مترجمة عن صحيفة «همدلي» الإيرانيَّة