لوح اغتيال قائد حركة المقاومة الإسلامية «حماس» إسماعيل هنية في طهران في 31 يوليو الماضي، إلى تعطُل محادثات وقف إطلاق النار، ولو مؤقتًا. أما إيران التي فشلت في حماية ضيفها هنية، تواجهه الآن موقفًا مُهينًا، وخطابها بالانتقام بدأ يتلاشى مع مرور الوقت. ومن جانبهم حذرت كلٌ من الأردن، ومصر، والمملكة العربية السعودية، كِلا الجانبين إيران وإسرائيل، تحذيرًا لا بت فيه من استخدام مجالهم الجوي لمهاجمة بعضهما البعض، مؤكدين أنهم سيعترضون المقذوفات التي تدخُل المجال الجوي السيادي لبلادهم. ومع هذه المستجدات يزداد المستنقع العسكري الذي تعيشه طهران تعقيدًا؛ فإما أن تخسر أصدقاءها في مهاجمة عدوها أو تتوصل إلى حلول تلتف حولها. ولا يزال بوسع إيران أن تستخدم الأراضي والمجال الجوي العراقي والسوري واللبناني لمهاجمة إسرائيل، أو قد تتخلى عن خيار الضربة المباشرة وتلجأ إلى عمليات تخريب خفية؛ فالاحتمالات هنا لا حصر لها، والهجمات الإلكترونية هي أحد هذه الاحتمالات.
في حين تستمر إيران في تحريك عجلة الدبلوماسية النشطة خلف الكواليس، تتفاوض أيضًا على تنازلات معينة. وتحت ستار الغضب هذا، يُقال إن إيران تطمح إلى إلغاء مجموعة من العقوبات وتخفيف حِدة المواقف الغربية من برنامجها النووي وغيره من القضايا. ومنذ اغتيال هنية، أصبحت طهران جزءًا من المحادثات بشأن غزة وفلسطين، وربما لن تحقق دبلوماسية إيران القصوى نتائجها المرجوة، ولكنها تحقق لها الاعتراف الذي تسعى إليه وبشدة.
إن مقتل هنية يجلب مكسبًا استراتيجيًا آخر لإيران، ألا وهو ترقية يحيى السنوار ليصبح زعيم الحركة. ولتبسيط تصنيفها، عادة ما تُوصف «حماس» خطأً وتصنف بأنها ميليشيا تابعة لإيران. في الواقع، الميليشيا السنية ليست متجانسة أي متفقة تمامًا؛ فالسنوار وخليل الحية متحالفان مع إيران، ولكن هنية لم يكن كذلك ولا خالد مشعل أيضًا. ومن خلال القضاء على هنية، دفعت تل أبيب الكيان المسلح الفلسطيني فعليًا إلى معسكر طهران، واختيار السنوار كزعيم جديد هو خطوة تحدي في هذا السياق.
وقالت «حماس» في بيان لها إن اختيار السنوار «من قلب قطاع غزة المُحاصر، الموجود مع إخوانه المجاهدين في الخنادق الأمامية للمقاومة وبين أبناء شعبه تحت الركام والحصار والقتل والتجويع، هو تأكيد أن الأهداف التي يتوخاها العدو من قتل القادة والمسؤولين فشلت في تحقيق مبتغاها».
أما مشعل، الشخصية الأكثر شهرة في «حماس»، يُفضل قطع العلاقات مع إيران و«حزب الله» ودعم الثورة ضد بشار الأسد في سوريا. ويرأس مشعل البالغ من العمر 68 عامًا حاليًا «مكتب الشتات» التابع للحركة، وهو سلف هنية في رئاسة المكتب السياسي. ولأنه من الضفة الغربية ونشأ في دولة الكويت، كان بإمكان مِشعل أن يقود القضية الفلسطينية بفعالية أكبر مقارنةً بالسنوار الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية إلى جانب بنيامين نتنياهو ويواف غالانت ويعيش في الأنفاق تحت الأرض. ولا يملك السنوار قنوات تواصل أو تفاهم مع القوى الكبرى في الشرق الأوسط. وفي ظل هذه التطورات ومع قيادة السنوار لحركة حماس، فإن احتمالات التوصل إلى الوحدة الفلسطينية تتضاءل أكثر فأكثر، وهذا يصب في صالح إسرائيل.
ومنذ السابع من أكتوبر 2023م، قُتل مئات الإسرائيليين وأكثر من 40 ألف فلسطيني، بينما يعيش قرابة 2.3 مليون نازح من سكان غزة تحت وطأة الخوف من الموت الوشيك. ورغم أن الولايات المتحدة وقطر ومصر أعربت عن تفاؤلها بوقف إطلاق النار بعد جولة المحادثات الأخيرة التي انتهت في 16 أغسطس الماضي، لكن الديناميكيات تغيرت تغيرًا كبيرًا؛ فلم تجلس «حماس» على طاولة المفاوضات، في ظل صعوبة التواصل مع قياداتها في أنفاق غزة. وباستثناء امتناع إيران وحزب الله عن مهاجمة إسرائيل ردًا على مقتل هنية، فلا بصيص أمل من الصراع الدائر.
ومن الجدير بالذكر أن إيران تربط ضبط النفس بتحقيق اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، ينيما يُصر نتنياهو على أن تل أبيب هي من ستدير «محور فيلادلفيا» (الاسم الذي أطلقته إسرائيل على شريط الأراضي الرابط بين غزة ومصر، بطول 17 كم)، وأن تتحكم أيضًا في الحركة بين جنوب القطاع وشماله من خلال نشر نقاط تفتيش أمنية. أما الرئيس الأمريكي جو بايدن، فهو بحاجة الآن لتحقيق انفراجة قُبيل اختتام المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي في 22 أغسطس. وفي كل الأحوال، من المُرجح أن يلغي نتنياهو أو السنوار أي اتفاق بعد التوصل إلى اتفاق أولي.
وفي حال فشلت محادثات الدوحة مرة أخرى، فمن المرجح أن تنتقم إيران ولكن رمزيًا من خلال استفزاز إسرائيل شن هجوم مضاد. وبعد سقوط مئات من القتلى، سوف تضطر إسرائيل وحماس إلى عقد محادثات مرة أخرى. وقد يعين يحيى السنوار الحيّة الذي يشاركه طريقة التفكير مبعوثًا له، وهذا سيهمش مِشعل مرة أخرى. ولا يزال من المستحيل التنبؤ بنتائج مثل هذه المحادثات؛ فمنذ بدء الصراع، عمل السنوار من الجانب الفلسطيني على نسف إمكانية وقف إطلاق النار، كما فعل نتنياهو.
ولكن إذا استمر القتال أو دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ستواجه «حماس» تحديات أكبر؛ فقد فقدت سابقًا مؤسسها وزعيمها الروحي أحمد ياسين، ومؤسسها المشارك عبد العزيز الرنتيسي، والقيادات العسكرية صلاح شحادة وصلاح العاروري وعددًا لا بأس به من القادة الآخرين، ومع ذلك تمكنت الحركة من الاستمرار والنمو. ولكن مع حملة الاغتيالات المستمرة التي أودت بحياة مروان عيسى والآن كبير المفاوضين هنية، أصبحت الحركة أضعف مما كانت عليه. والخسائر على الأرض جسيمة أيضًا، إذ تزعم إسرائيل أنها قتلت ستة من كبار قادة الألوية وأكثر من عشرين قائد كتيبة. فهل تستطيع الحركة أن تستمر وتتجدَّد بعد كل ما فقدته من قادة وأعضاء؟
ولعل شعبية حركة «حماس» في انحدار الآن لاسيما بعد سقوط 2% من غزة ضحايا لهذه الحرب، فهي تستخدم شعب غزة وقودًا للحرب التي اندلعت في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر، هذا الهجوم الذي شنته «حماس» ولم يعلم عنه الشعب شيئًا. وصرحت الحركة مرارًا وتكرارًا بأن عدد القتلى لن يردع استمرارهم في الحرب، وهو الموقف الذي لا يتفق عليه جميع الفلسطينيين. ونتيجة لهذا، يبقى سكان غزة عالقين في دوامة معاناة لا نهاية لها اشتدت عليهم منذ أن تولت «حماس» زمام السلطة في القطاع في عام 2007م. وإن كانت «حماس» تقف عند مفترق طرق من أجل البقاء، فكذلك إسرائيل تقف عند مفترق طرق أيضًا، حيث لا خيار لها سوى الخضوع لسيطرة المتطرفين العدوانيين أو قبول الحقائق القاسية على الأرض.
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد