أثار البيان الأخير للمرشد الإيراني علي خامنئي جدلًا واسعًا حول المظاهرات الإيرانية والعراقية، نظرًا إلى سياقه. ويبدو أن البيان ما هو إلا محاولة أخرى من أجل إلقاء اللوم على الآخرين في الاحتجاجات، التي لا تزال مستمرة على مدى أسابيع، بسبب مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا على أيدي شرطة الأخلاق الإيرانية «سيئة السمعة»، فإيران معروفة باستخدام أساليب الإلهاء. وقال المرشد الإيراني في بيانه إنّ الاحتجاجات العراقية أثارت احتجاجات داخل إيران، والرابط المشترك بينهما هو «عرقلة تحرير القدس». والقصد من هذا البيان العاطفي هو اجتذاب حاضنات الحكومة الإيرانية داخل إيران، وفي جميع أنحاء المنطقة. ويعتقد كثير من المراقبين أن هذا البيان محاولة لتخفيف الضغط، وتشتيت الرأي العام العالمي المتصاعد ضد الحكومة الإيرانية منذ مقتل أميني. ليست هذه هي المحاولة الأولى التي تهدف إلى تحويل اللوم وتشتيت الانتباه إزاء الاحتجاجات، فعندما شنَّت الحكومة الإيرانية هجومًا على قواعد المعارضة الكردية الإيرانية في كردستان العراق، ألقت الحكومة الإيرانية باللائمة على المعارضين بإثارة الاحتجاجات في جميع أنحاء إيران. وبالمثل أيضًا، يُلقي الموالون للحكومة الإيرانية باللوم على المتآمرين الأمريكيين والإسرائيليين في إثارة الاحتجاجات التي اجتاحت إيران، والتي دخلت أسبوعها الخامس، وهي أطول احتجاجات تشهدها الحكومة منذ الثورة الإيرانية عام 1979م. وبالنظر إلى هذا البيان الأخير وعَلاقته بقضية مهمة للمسلمين في المنطقة، سُنَّة وشيعة، فإنه من المهم بحث انعكاسات هذا البيان في ظل تنامي الاتجاه المناهض للحكومة الإيرانية داخل إيران والعراق ودول إقليمية أخرى.
أولًا: يُنكِر المرشد الإيراني الواقع، ويرفض قبول الدوافع الحقيقية والطبيعية التي تقف وراء الاحتجاجات. والحقيقة أن وفاة أميني على أيدي شرطة الأخلاق أطلقت الشرارة اللازمة لشعب إيران لكي ينفِّس عن غضبه وإحباطه المتراكم، بسبب ما ترتكبه الحكومة من ظُلم وإخفاقات كثيرة. وعلى سبيل المثال، فقد خرجت مظاهرات في محافظة سيستان وبلوشستان للتعبير عن تضامنهم مع المظاهرات ضد مقتل أميني، لا سيما أن البلوش تحمَّلوا كثيرًا من بطش الحكومة الإيرانية، ومؤخّرًا خرجوا في مظاهرات يحتجون بها على اغتصاب فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا على يد ضابط شرطة كبير. وكانت حادثة أميني بمثابة حافز إضافي للبلوش، لتصعيد احتجاجاتهم ضد الحكومة. وبدورها ألقت الحكومة الإيرانية اللائمة على «الانفصاليين البلوش» في إشعال فتيل الاحتجاجات في سيستان وبلوشستان، فهي دائمًا ما ترمي باللوم على أي طرف، وتنأى بنفسها عن تحمُّل مسؤولية مشكلاتها، وهذا نمط شائع في الحكومات الاستبدادية لقلب الحقائق على الأرض وتجنُّب الانتقادات. ومع ذلك ليس مهمًّا على مَن تُلقي الحكومة الإيرانية اللائمة، فالاحتجاجات لا تزال مستمرة، وتشتعل يومًا بعد يوم، وتتصاعد على السطح خلافات بين الموالين للحكومة والمؤسسات إزاء ما يجب فعله في الفترة المقبلة.
ثانيًا: يُعَدّ الخطاب الديني من أدوات الحكومة لتشتيت الانتباه، ودفع عجلة مشاريعها الإقليمية. وقد بات معروفًا للجميع كيف توظِّف إيران حماية الأضرحة الشيعية في سوريا، باعتبارها ذريعة لتجنيد وتدريب ونشر الآلاف من الشباب الشيعة في جميع أنحاء المنطقة من أجل القتال إلى جانبها في سوريا، الأمر الذي أسفر عن وقوع عديد من المجازر الدموية ونزوح آلاف العائلات السُّنِّية، وأدى إلى استيلاء الشيعة من إيران ولبنان وباكستان وأفغانستان على منازل المسلمين السنّة، باعتبار هذا جزءًا من مخطَّط إيراني لتغيير التركيبة الديموغرافية للدول المناهضة للممر الإيراني إلى البحر الأبيض المتوسط. وباستخدام الخطاب والرمزية الدينية، يبرِّر خامنئي استخدام العنف المفرط للتصدِّي للمظاهرات، ليس فقط في إيران، بل في كل أنحاء المنطقة، خصوصًا إذا شكَّل المحتجون مصدر تهديد مباشر للمصالح الإيرانية، كما هي الحال في العراق. ويحمّل الشباب العراقيون إيران المسؤولية المباشرة عمّا يعانون من بؤس بسبب تدخُّلها في صُنع القرار العراقي، وانتشار الميليشيات المسلحة التابعة لها في جميع أنحاء البلاد.
ثالثًا: ما من أساسٍ لاستخدام إيران للخطاب الديني في هذه المظاهرات، فعلى الرغم من خطابها المعادي لإسرائيل والاحتفال بيوم القدس سنويًّا، فهي لم تقدِّم عمليًّا أي شيء لمساعدة الشعب الفلسطيني. ولم يكُن اتفاق ترسيم الحدود البحرية الأخير بين لبنان وإسرائيل ليحدث لولا توجيه إيران وكيلها «حزب الله» بقبول المقترح الأمريكي. هُنا كان للبراغماتية الإيرانية أولوية على خطابها الأيديولوجي والديني، ما عرَّى نفاقها وازدواجية معاييرها.
رابعًا: يدرك المرشد الإيراني تمامًا حقيقة أن الاحتجاجات الإيرانية الحالية تختلف بشكلٍ ما عن الاحتجاجات السابقة، من حيث نطاقها الجغرافي وحدّتها وشعاراتها المناهضة للحكومة. بالإضافة إلى ذلك، أدّت الاحتجاجات إلى نشوب خلافات غير مسبوقة بين الموالين للحكومة ومؤسساتها. فقد أشاد الموالي السابق للحكومة علي لاريجاني مؤخرًا بعصر الشاه، لتسامحه وحريته الدينية، وطالب مؤسس البحرية الإيرانية العميد المتقاعد حسين علوي، في رسالة مكوَّنة من 14 نقطة، بإغلاق المؤسسات الإيرانية، مثل شرطة الأخلاق، بسبب الضرر والمشكلات التي تسبِّبها. وامتنع عديد من رجال الدين في قُم عن إدانة الاحتجاجات الإيرانية، وأبدى بعضهم تعاطفًا مع المحتجين. ونظرًا إلى هذه التصدُّعات، لجأ خامنئي إلى استخدام الخطاب والرمزية الدينية لتوحيد البلاد، بإظهار الاحتجاجات على أنها محاولات لإفشال هدف الثورة الإيرانية المُعلَن، وهو تحرير القدس. ولكن من المُستبعَد أن تنجح محاولة خامنئي هذه المرة، لأن الحكومة خلقت لها أعداء بنبذها للموالين السابقين. وفي المقابل، نشرت الحكومة الإيرانية عناصر الجيش الإيراني لقمع الاحتجاجات، لكن من المرجح ألا يستجيب عديد من الجنود لأوامر إطلاق النار على المتظاهرين. وتدور إشاعات -غير مؤكدة بعد- بأن الحكومة جلبت مرتزقة شيعة من سوريا وأفغانستان لقمع الاحتجاجات الداخلية. وإن حصلت فهذه ليست بخطوة غير مسبوقة، لأن رجال الدين الشيعة تدارسوا فكرة قمع الاحتجاجات في حال تعرُّض النظام السياسي لولاية الفقيه لخطر الانهيار في عام 2019م. وتواجه الحكومة أزمة شرعية هائلة، وتتعرَّض أركانها لمزيد من الاضطرابات يومًا بعد يوم، ويبدو أن النظام برمّته على وشك الانهيار، خصوصًا إذا اتّسع نطاق الاحتجاجات خلال الأسابيع القليلة المقبلة. ولن يكون أمام الحكومة خيار سوى نشر المرتزقة والوكلاء بدافع اليأس، الأمر الذي سيؤدي إلى مزيد من إراقة الدماء، فلا يرحم هؤلاء المقاتلون أي شخص يهدد الحكومة الإيرانية.
وفي الختام، فإن تصريح المرشد الإيراني ليس سوى محاولة أخرى للتغطية على الدوافع الحقيقية وراء الاحتجاجات الإيرانية، وتبرير استخدام العنف المفرط لقمعها، ليس فقط في إيران ولكن في أماكن أخرى أيضًا. ويعكس تصريح المرشد ما ينتابه والنخبة الإيرانية من يأس ومخاوف، في ظل تشبُّث المتظاهرين بمطالبهم. وخرجت فتيات ونساء كثر علانيةً دون حجاب، تعبيرًا عن رفضهم القاطع لتضليل الحكومة الدينية وتمثيلها وتفسيرها الخاطئ للإسلام. أيام حالكة بانتظار الحكومة الدينية، لا سيما أنها تُعِدّ العُدّة لمرحلة توريث الحُكم في حقبة ما بعد خامنئي. ولم يعُد مستقبل الحكومة واضحًا مع استمرار الاحتجاجات في جميع أرجاء البلاد، وفشل الخيار الأمني في كبحها. وأي بادرة تسوية ستكون بمثابة دقّ مسمار في نعشها، ويبدو أن هذا هو الخيار الوحيد أمام الحكومة، التي يتعيَّن عليها مواجهته إذا أرادت البقاء على سدّة الحكم في الوقت الحالي.