مقدمة
اتّخذت إيران تاريخيًّا موقفًا براغماتيًّا تجاه أفغانستان، إذ ظلّت العَلاقة بين البلدين فاترة خلال الحرب الباردة، على الرغم من أنّ كلا البلدين كان نقطة عبور للسيّاح الغربيين الذين يزورون جنوب آسيا، ومع ذلك حدث تحوُّل ملحوظ في عام 1978م، عندما اغتال الشيوعيون الأفغان السردار داوود في عام 1979 بقيادة نور محمد تراقي. وفي عام 1979م اضطرّ شاه إيران رضا بهلوي إلى مغادرة البلاد بسبب رجال الدين الإيرانيين، الذين ثاروا ضد الملكية تحت قيادة آية الله الخميني. وقد لعبت التطوُّرات اللاحقة في أفغانستان، بما في ذلك الاحتلال السوفييتي، والحرب الأهلية، وصعود حركة طالبان، ومن ثَمّ أحداث 11 سبتمبر 2001م، دورًا مُهمًّا في تشكيل سياسات إيران تجاه أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط.
أولًا: سيناريو ما بعد طالبان
بعد سقوط طالبان، وبينما كانت تتعاون مع الولايات المتحدة لتشكيل حكومة أفغانية مؤقَّتة في مدينة بون الألمانية، بدأت إيران بحصد مزيد من الإنجازات والمكاسب في أفغانستان. وعادةً ما تتّبِع إيران إستراتيجية ذات محوريين رئيسيين في علاقتها مع أفغانستان: أوّلًا، بتفعيل ورقة الطائفية الشيعية لتثبيت أعمدة نفوذها داخل المجتمع الشيعي الأفغاني (معظمهم من الهزارة). وثانيًا، بتوظيف ورقة العِرق الفارسي لجذب مجموعات عِرقية أخرى غير الباشتون، بما في ذلك الطاجيك والأوزبك والتركمان.
منذ البداية، لم تثِق إيران الشيعية بحركة طالبان السُّنِّية، بسبب قُربها من المملكة العربية السعودية. واعتقدت طهران أنّ الرياض ستستخدم طالبان ضدّها، واعتقدت طهران أيضًا أنّ الرياض ستضغط عليها عبر الحدود مع أفغانستان.
بدأت إيران في تعزيز مكانتها في أفغانستان خلال فترة ولاية كرزاي وتعاونت مع خصومها في حركة طالبان، لدرجة أنّ طالبان بدأت تستخدم إيران كملاذ بديل. وقُتِل زعيم طالبان المُلّا منصور بقصفٍ شَنّته طائرة أمريكية مسيَّرة، حينما كان في طريقه من إيران إلى باكستان في عام 2015م. ولتعزيز نفوذها داخل أفغانستان، بادرت إيران بتقديم مبلغ 500 مليون دولار للمساعدة في إعادة إعمار البلد الذي مزقَّته الحرب.
وقد أبدت واشنطن شكوكًا حول دور إيران في أفغانستان، متّهِمةً طهران بتزويد طالبان بالأسلحة، وعلى الرغم من أنّ طهران نفت هذه الادّعاءات، فإنّ المسؤولين الإيرانيين اعترفوا بإجراء اتّصالات مع طالبان. ومما أثار استياء القيادة الأفغانية كثيرًا أنّ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، وخلال الحوار الداخلي بين الأطراف الأفغان، دعا إلى لعب دور سياسيّ لطالبان في البلاد، على الرغم من أنّه لا يُحبِّذ أن تحكُم الحركة البلاد مرَّةً أخرى.
ثانيًا: التقارُب مع طالبان
يبدو أنّ كلًّا من إيران وطالبان قد توصَّلت إلى تفاهُم مشترَك، بحيث لا تضرّ إحداهما بمصالح الأخرى، وأنّ طالبان لن تثير أي مشكلات على الحدود الإيرانية مع أفغانستان. ونتيجة لذلك، ظلَّت حدود إيران مع أفغانستان هادئةً إلى حدٍّ ما، على الرغم من عمليات طالبان الكبيرة في جميع أنحاء البلاد. وفي بداية عام 2002م، ظهرت ادّعاءات بأنّ إيران كانت تدعم الجماعات المتمرِّدة في أفغانستان، بما في ذلك عدُّوها اللدود السابق طالبان. واتّهم بعض المسؤولين الأفغان علانيةً إيرانَ بتسليح وتدريب طالبان داخل الأراضي الإيرانية. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، تجنَّبت إيران المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في أفغانستان.
وعلى صعيد المُستقبل في أفغانستان، يُفضِّل صانعو السياسات في إيران التعامل مباشرةً مع طالبان، بدلًا من مواجهة الضغوط الأمريكية على حدودهم. وبحسب مقالٍ نشرته مجلة «فورين أفيرز» فإنّ إيران، كما هي الولايات المتحدة، أصبحت تقبل التكيُّف مع طالبان، إذ تراهُ السبيلَ الوحيدة لبناء مستقبلٍ أكثر سلامًا لجارتها.
ثالثًا: العامل السعوديّ في العَلاقات الإيرانية-الأفغانية
من المهمّ أن نلاحظ أنّ إيران تعتبر الساحة الأفغانية امتدادًا للصراع في الشرق الأوسط، وتعتقد طهران أنّ المملكة العربية السعودية قد تستخدم وكلاء أفغانًا ضدّها. وأكثر ما يُقلِق طهران هو أنَّ تدخُّل الرياض في الشؤون الأفغانية سيُخرِج إيران من أفغانستان، لا سيّما إذا تسلّمت طالبان دفَّة القيادة مرَّةً أُخرى. وبالإضافة إلى ذلك، تعتقد طهران أنّ الأمريكيين والسعوديين والإماراتيين قد يشرعون في «تغيير النظام الإيراني» باستخدام أفغانستان كنقطة انطلاق للتحريض على الإرهاب عبر الحدود، لزعزعة الاستقرار في إيران. وتخشى طهران أن يكون هدف الولايات المتحدة في أفغانستان هو خلق وضع شبيه بسوريا في المنطقة، إذ قد يعُمّ العنف وتعُمّ الفوضى في إيران.
رابعًا: مصالح إيران الجيو-سياسية في أفغانستان
تدرك إيران أنّه على الرغم من أنّ أفغانستان دولة «حبيسة» فإنّها تتمتَّع بأهمِّية جغرافية هائلة، ويمكن أن تصبح جسرًا للتجارة والعبور بين جنوب ووسط آسيا، فسهَّلت إيران بالتالي من تجارة الترانزيت الأفغانية، وطوَّرت ميناء تشابهار الذي يقع على بعد 70 كم غرب ميناء جوادار الباكستاني العميق، الذي ستستثمر به الهند 500 مليون دولار في المرحلة الأُولى من التطوير.
وعلى الرغم من أنّ الميناء يشهد عمليات تطوير مستمرَّةً، فإنّ التُجّار الأفغان ما زالوا يستخدمونه في تجارتهم مع الهند، إذ غادرت أوّل شحنة من أفغانستان الميناء متوجِّهة إلى الهند العام الماضي. وقد أدَّت مرافق العبور بين البلدين إلى زيادة تجارة إيران مع أفغانستان. وتشكِّل السلع الاستهلاكية والأغذية الجزء الأكبر من الصادرات الإيرانية إلى أفغانستان، كما تبلغ قيمة التجارة السنوية بين البلدين نحو 3 مليارات دولار.
وقد عانت إيران إزاء العقوبات الأمريكية شُحًّا في العملة الصعبة، إلّا أنّها تغلَّبت على هذا العجز ولو جزئيًّا عبر إنشاء سوق سوداء للنقد الأجنبي، تعمل على طول الحدود بين أفغانستان وإيران. ويقدِّر رئيس اتحاد الصرافة في هرات، بهاء الدين رحيمي، أنّ مليونَي دولار إلى 3 ملايين دولار تدخُل إيران يوميَّا بشكل غير قانونيّ من أفغانستان.
خامسًا: نقاط الخلاف بين إيران وأفغانستان
القضية الأُولى التي تُعتبَر مصدرًا للخلاف بين البلدين هي تجنيد إيران للشباب الشيعة في أفغانستان، وضمِّهم إلى صفوف «لواء فاطميون» الذي يُقدَّر عدد مقاتليه بين 8000 و14000 مُقاتِل.
وقد أصبح تقاسُم مياه نهرَي هريرود وهيلماند مصدرًا للخلاف بين إيران وأفغانستان، إذ خفَّض «سدّ الصداقة بين أفغانستان والهند» -الذي شيَّدته الهند بتكلفة 290 مليون دولار، والمعروف سابقًا بسدّ سلمى، في مقاطعة هرات الأفغانية- مستوى اعتماد كابول على جيرانها في مجال الطاقة الكهربائية، لا سيّما أنّ السدّ يروي نحو 75000 هكتار من الأراضي. ومع ذلك، تشكو إيران من أن السدّ قلَّل من تدفُّق المياه إلى أراضيها، إذ كان يرِدُها نحو 30% من مياه نهر هريرود، بينما تحصل الآن على 13% فقط بعد بناء سدّ الصداقة. وقد يؤدِّي ذلك إلى تحوُّل أراضي هامون الرطبة إلى مناطق جافّة مليئة بالغبار، ما يؤثِّر على حياة وسُبُل معيشة عشرات الآلاف من الناس الذين يعيشون هناك، وسوف يكون لتوسيع أفغانستان لسدّ كمال خان على نهر هلمند نتيجة مشابهة على إيران.
وتُعتبَر المخدِّرات مشكلة رئيسية أُخرى أدَّت إلى الاحتكاك بين البلدين، إذ تُنتِج أفغانستان أكثر من 90% من الأفيون غير المشروع في العالَم، وأكثر من نصف هذه الكمِّية يُهَرَّب عبر الحدود الإيرانية الأفغانية، إذ يُهَرَّبُ ما يقرُب من 30% من الهيروين عبر إيران إلى الشرق الأوسط وأوروبا ودول أُخرى. وعلاوةً على ذلك، فإنّ نحو 2.8 مليون إيرانيّ، معظمهم من الشباب، مدمنون على الأفيون.
منذ الغزو السوفييتي لأفغانستان، استضافت إيران نحو 3 ملايين لاجئ أفغانيّ، معظمهم من الطاجيك والهزارة الأفغان. ويؤكِّد المسؤولون الإيرانيون أنّ في إيران مليون لاجئ مسجَّل بينما يعيش الباقون بشكل غير قانوني، أو لديهم تأشيرات عمل قصيرة إلى متوسِّطة الأجل. وقد أجبرت إيران آلاف اللاجئين على العودة إلى أفغانستان خلال العقدين الماضيين، ووصف مسؤولون أفغان عمليات الطرد هذه بأنّها من أساليب الضغط التي تستخدمها إيران ضد حكومة كابول وداعميها الأمريكيين والأوروبيين.
سادسًا: الموقف الإيراني من اتفاقية السلام بين الولايات المتحدة وطالبان
تُوِّجَت مفاوضات السلام التي امتدت إلى سنوات طويلة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان باتفاق سلام تاريخيّ في 20 فبراير 2020. ونظرًا إلى الطبيعة الثنائية للاتفاقية فقد رفضتها طهران على الفور، قائلةً إنّها استبعدت الحكومة الأفغانية وغيرها من الأطراف الأفغانية. وبالإضافة إلى ذلك، أبدت طهران شكوكها تجاه اتفاقية السلام هذه، معتقدةً أنّها ستُضفي الشرعية على وجود القوّات الأمريكية في البلاد. وشدَّدت إيران على الحوار بين الأفغان باعتباره السبيل الوحيدة لإحلال السلام في البلاد، تحت إشراف الأُمم المتحدة. ويتعارض هذا الموقف الإيراني مع اتفاقية السلام بين الولايات المتحدة وطالبان، ويشير ذلك إلى الكيفية التي تريدها إيران لتحقيق السلام في البلاد، لكن بشروطها الخاصَّة التي تضمن مصالحها في البلاد.
خلاصة
إنّ الشاغل الرئيسي لجيران أفغانستان هو السلام، الذي عانوا بسبب غيابه حالةً من عدم الاستقرار عمَّت البلاد على مدار أربعة عقود، وزادت وطأتها في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. وإيران لا ترغب بأفغانستان «مُضطَربِةً» على حدودها، فهي تشاركها حدودًا شاسعةً وسهلة الاختراق بطول 938 كيلومترًا؛ هذا الواقع الجغرافي يزعزع الأمن الإيراني ويفتح باب المخاطر من جبهات متعدِّدة، في وقت ترزح فيه البلاد تحت وطأة العقوبات الأمريكية، بينما تُهدِر الحكومة الإيرانية موارد الدولة الثمينة في تعزيز أطماعها التوسُّعية في العراق وسوريا ولبنان واليمن.