صرّح المرشد الإيرانيّ على خامنئي في الثالث من نوفمبر 2019 أمام آلاف الطلاب بمناسبة الذكرى الأربعين لاقتحام السفارة الأمريكيَّة في طهران، بأن «أحد سبل الحدّ من نفوذ أمريكا رفض إجراء أي محادثات معها. هذا يعنى أن إيران لن ترضخ لضغوط أمريكا. من يعتقدون أن المفاوضات مع العدو ستحلّ مشكلاتنا مخطئون مئة بالمئة»، وأكَّد كذلك أن مشكلة بلاده مع الولايات المتَّحدة تعود إلى فترة مصدق في منتصف الخمسينيات.
ويبدو أن لقاء المرشد جاء ردًّا على لقاء الرئيس الإيرانيّ حسن روحاني في 16 أكتوبر 2019، أمام جمع من الطلبة بمناسبة بدء العام الدراسي في الجامعات الإيرانيَّة، وتصريحاته خلال هذا اللقاء بضرورة إجراء استفتاء لحسم «قضايا مصيرية تتعلق بالوضع الداخلي والخارجي للبلاد»، معتبراً أنه «منذ 40 سنة لم نصل إلى إجابة صريحة وحازمة في هذا الشأن، فالبعض يريد التعامل البنّاء مع العالَم، وآخرون يدعون إلى مواجهة مستمرَّة، كما أن بعضهم يقول إنه يجب أن نكسر العدو، وبعضهم يرى أنه من الممكن أن نحل كثيرًا من المشكلات (معه)… إنَّ القضية الأساسية هي هل نتّبع استراتيجية التعامل أم المواجهة؟»، وهو ما فهم منه أنه نوع من الضغط على المرشد والمتشددين داخل النِّظام، لتغيير وجهة نظرهم بتغيير خيار المقاومة والمواجهة، بسياسةٍ أكثر انفتاحًا تجاه الجهود والوساطات الداعية للتفاوض مع الولايات المتَّحدة.
هذا السجال بين جناحَي السُّلْطة يشير إلى مدى الخلافات الداخلية حول مسألة التعاطي مع الضغوط الأمريكيَّة، ومِن ثَمَّ يُثير التساؤل عن السياق الذي جاءت فيه دعوة روحاني، وهل يعني تصريح خامنئي أنه أغلق الباب أمام أي رؤية سياسية مغايرة للتعاطي مع الضغوط الأمريكيَّة باستثناء خيارا الصبر الإستراتيجي أو المواجهة المحسوبة التي ينهض بها المتشددون اقتصاديًّا وعسكريًّا.
أولًا: ضغوط اقتصادية متزايدة
رغم تواتر الحديث عن تراجع تأثير إستراتيجية الضغوط القصوى التي تتبعها الولايات المتَّحدة تجاه طهران، فلا يمكن بحال من الأحوال إنكار ما تركته مِن آثارٍ اقتصادية متعددة، باتت تؤثر على حياة المواطنين في إيران، حيث يتزايد باطّراد معدَّل التضخُّم، ويتراجع سعر العملة إذ وصلت قيمة الدولار الأمريكيّ الواحد إلى 115 ألف ريال إيرانيّ خلال أكتوبر 2019، فيما كان الدولار الأمريكيّ الواحد يساوي 30.000 ريالًا إيرانيًّا قبل عامين. وقد وصل سوء الأوضاع الاقتصادية إلى التأثير على مستويات الانفاق الحكومي واتجاهاته، فانخفض الإنفاق العسكري الإيراني بمقدار 29%، وتراجع تمويل طهران لميليشياتها في المنطقة، وخلال الشهور الأخيرة بعد العقوبات الأمريكيَّة التي طالت صناعات البتروكيماويات والمعادن الإيرانيَّة خسرت إيران 10 مليارات دولار وانكمش اقتصادها بنسبة 6%. وقد عبَّر صندوق النقد الدولي عن توقعاته لاقتصاد إيران في تقرير له في أكتوبر 2019 أشار فيه إلى أن عام 2019/2020 سيكون الأسوأ لإيران منذ عام 1983 إبان الحرب الإيرانيَّة العراقية. وفنَّد تقرير صندوق النقد الدولي توقعاته من خلال الإشارة إلى احتمال تراجع النموّ الاقتصادي في إيران في عام 2019 بنسبة 9.5%، خلافًا لتوقعات سابقة في أبريل من العام نفسه قدَّرت معدَّل الانكماش بـ6%، كما أشار التقرير إلى تراجع صادرات إيران من النِّفْط الخام بنسبة تقارب 80% منذ استعادة العقوبات الأمريكيَّة على قطاعيّ النِّفْط والتعاملات المالية في نوفمبر 2018.
ويتوقع الصندوق أن يختم الاقتصاد الإيرانيّ السنة المالية 2019/2020 بحجم يقل 90% عما كان عليه قبل عامين، كما يتوقع صندوق النقد أن يبلغ التضخُّم السنوي معدَّل 35.7% العام القادم، وأن يتزايد انهيار العملة، لا سيما أن سعر الصرف الرسميّ للريال الإيرانيّ خلال أكتوبر 2019 بلغ 42 ألف ريال مقابل الدولار، في حين أن سعر السوق السوداء بلغ نحو 115 ألفًا. ولا يزال الاقتصاد الإيرانيّ معرَّضًا لتحديات عميقة مع تهديد الإدارة الأمريكيَّة بفرض مزيد من العقوبات، وتواجه الدول والشركات والبنوك الأجنبية صعوبات في التعامل مع إيران، بما فيها الشركات الصينية والروسية.
ثانيًا: سياسة غير مجدية
في حين يقع على عاتق حكومة روحاني مواجهة التداعيات الاقتصادية التي سبقت الإشارة إليها، فإنهم مُجبَرون كذلك على قبول خيارات المرشد والمتشددين بمواصلة المقاومة والتصعيد المحسوب، أملًا في إحباط الاستراتيجية الأمريكيَّة، لكن هذه السياسة فيما هو واضح لا تقدِّم حلًّا للأزمة الراهنة على المدى الطويل، فيومًا بعد يوم تتآكل قدرة النِّظام ويحرق أوراقه واحدة بعد أخرى، بما يعني أن النِّظام سوف يكون في الزاوية في نهاية المطاف، وقد يتعرض لضغط لم يسبق له مثيل، مِمَّا يعني أن التنازلات مؤجَّلة وحسب، وهذه هي رؤية روحاني وفريقه الذي يبدو أكثر انفتاحًا على خوض مفاوضات مع الولايات المتَّحدة.
فبجانب الأوضاع الداخلية التي سبق وقال عنها روحاني إنها كارثية وإنها الأسوأ في تاريخ إيران منذ الثورة، فإن عددًا من المؤشّرات والشواهد يشير إلى أن هامش المناورة خارجيًّا يضيق مع الوقت. من أبرز تلك الشواهد الموقف الأوروبيّ، الذي تَغيَّر إلى حدّ بعيد، بل باتت بعض الدول الأوروبيَّة بطريقه إلى تنسيق أوسع مع الولايات المتَّحدة فيما يخصّ مواجهة خطر إيران، لا سيما بعدما مثَّلَت ضربات منشآت النِّفْط في السعوديَّة في سبتمبر 2019 تهديدًا أمنيًّا واقتصاديًّا دوليًّا غير مسبوق، بل تضغط الولايات المتَّحدة على الصين وروسيا لتغيير مواقفهما.
كذلك تمارس مجموعة العمل المالي الدولي FATF ضغوطًا متواصلة على إيران، وسيؤدى عدمُ التزامِ طهران شروطَها إلى فرض تحديات دولية إضافية فيما يتعلق بالتعاملات المالية مع بنوك العالَم، خصوصًا أن إيران بالأساس تواجه صعوبات كبيرة في هذا المجال بفضل العقوبات الأمريكيَّة على التعاملات المالية.
هذا فضلًا عن تداعيات الاعتداءات الإيرانيَّة على الملاحة في الخليج العربي وضد دول المنطقة ومنشآتها النِّفْطية، التي جلبت ترتيبات أمنية ترعاها الولايات المتَّحدة بالتنسيق مع بعض القوى الدولية، مِمَّا حدّ فعليًّا من قدرة القوات الإيرانيَّة على الإيذاء والاستمرار في سياسة التصعيد والاستهداف.
ولا يفوت التنويه بالضغوط الإقليمية في سوريا ولبنان والعراق، لا سيما بعد الاحتجاجات الواسعة في بعض هذه البلدان ضدّ الوجود الإيرانيّ وما يمثله ذلك من تَحَدٍّ لمشروع إيران الإقليمي ونفوذها، لا سيما أن هذه الاحتجاجات ذات طبيعة شعبية وتشارك فيها الطوائف الشيعية.
حتى عندما يفكر النِّظام ببدء المرحلة الرابعة من خفض التزاماته النووية ربما كورقة ضغط أخيرة بيده، فإن هذا التصعيد النووي بقدر ما سيكون ورقة ضغط على الأطراف الدولية لحل الأزمة، فإنه قد يأتي بنتائج عكسية غير متوقعة لإيران، لأن الاتجاه نحو التصعيد النووي سوف يخلق حالة إجماع دولي ضدّ إيران، ولن يُلتفت إلى مدى مشروعية خطواتها تلك ردًّا على العقوبات الأمريكيَّة وتعطيل الاتفاق بقدر النظر إلى خطر هذه الخطوة.
ثالثًا: خيار مؤجَّل
لا شكَّ أنَّ دعوة روحاني للاستفتاء على العَلاقة مع الولايات المتحدة بمثابة إعادة طرح واختبار لخيار التفاوض داخل النظام، كمسار بديل للخروج من المأزق الراهن وإعادة تفكير في التداعيات الخطرة لاستمرار انتهاج سياسة المقاومة والتصعيد التي يصرّ عليها المرشد، والتي قد تؤدي إلى مواجهة غير متوقعة مع الولايات المتحدة وحلفائها. كما أنها ورقة ضغط من جانب روحاني على المتشددين بوضعهم أمام الشعب الذي يعاني من تبعات خياراتهم ومواقفهم من مسألة التفاوض مع الولايات المتحدة، إذ يستغلّ الرئيس الوضع الراهن الذي يضيِّق فيه الخناق أمام النظام وتتراجع قدرته على مواصلة سياسة المقاومة والتحدي.
ولا شكَّ أنَّ ردَّ فعل خامنئي على تصريحات روحاني ونقدها بصورة كُلّية، يشير إلى مسألتين مهمّتين: الأولى هي عودة السجال من جديد حول مسألة التفاوض مع الولايات المتحدة بعدما أغلقها المتشددون في إطار خيار المقاومة والتصعيد المحسوب الذي تبنَّوه خلال العام الماضي، والثانية أن الضغوط الأمريكية يبدو أنها بدأت تُرهِق النظام وتُدخِله في حالة من الارتباك والتخبط، وهذا قد يعني أن صنّاع القرار الإيراني باتوا على مقربة من خيارات حدّية ومصيرية فيما يتعلق بالعَلاقة مع الولايات المتحدة، إما الانفتاح مع ما يفرضه هذا الخيار من فرص، وإما استمرار العداء وما قد يفضي إلى تضييق الخناق على إيران وإنهاك قدرة النظام وحرق بدائله.
الإشكالية تبدو أن هناك تيارًا متشددًا يصرّ على المواجهة بناءً على توجهات آيديويوجية وعقائدية تتوافق مع طبيعة المشروع الإيراني، التي من ركائزها تبنّي مبدأ الاستقلالية على المستوى الخارجي، وعدم التبعية للولايات المتحدة، والعداء الدائم لها، وهذا التيار لا يزال يصرّ على خيار المقاومة والمواجهة، وهذا التيار يملك صلاحية كاملة في تحديد وجهة السياسة الإيرانية.
وهناك تيار إصلاحيّ براغماتيّ، يرى أهمية التعاطي مع الواقع ورؤية العالم بمنظور حداثيّ يتجاوز المنطلقات التاريخية التي حددت وجهة علاقات إيران مع الأمريكيين والعالم، لا سيما أن النظام الإيراني يواجه خطرًا حقيقيًّا في ظلّ العقوبات الأمريكية التي لا تتوقف، لكن هذا التيار ليس لديه صلاحية ليضع رؤيته محل التطبيق.
ومع هذا لا يُستبعَد أن يوفِّق النظام بين اتجاهاته وتياراته كما حدث مع المفاوضات النووية التي بدأت سرًّا قبل سنوات من توقيع الاتفاق النووي، فعملية توزيع الأدوار بين جناحَي السلطة مسألة معتادة في إيران، وتوظَّف لتهيئة المجتمع لتقبُّل أيِّ تحوُّل محتمَل في العَلاقة مع الولايات المتحدة.
وفي الأخير ورغم هذه السجالات ورغم تباهي النظام بقدرته على مواجهة التحديات التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران، ورغم تشكيك البعض في جدوى العقوبات الأمريكية، فإنّ الجانب الأمريكي يرى أن استراتيجية الضغوط القصوى تناسب الأهداف التي يتطلعون إليها، ولا شك إذا ما استمرت الضغوط الأمريكية أو تكثفت فإنّ النظام الإيراني على الأرجح سيذهب إلى خيار التفاوض وربما بتوجيه غير معلن من المرشد، قد يحول دون ذلك الآن أن شروط التفاهم بين الطرفين الإيراني والأمريكي غير متاحة خلال اللحظة الراهنة، نظرًا إلى أنّ كل طرف لديه بعض من أوراق المناورة التي لم يستنفِدْها بعدُ، لكن الاستراتيجية الأمريكية تبدو أكثر تماسكًا وتأثيرًا، وهناك إصرار على المضيّ قُدمًا لتحقيق أهدافها، بينما يبدو أنّ أوراق إيران تتآكل مع الوقت، وربما الضغوط المتزايدة واستشعار عمق الأزمة قد غيرت موقف روحاني، وقد يلحق به المرشد، لكن قد يكون ذلك بعد أن يختبر ما تبقى له من أوراق.