تصريحات القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي في الأول من أبريل 2023م، والتي وصف فيها القائد السابق بالحرس الثوري أحمد متوسليان بأنَّه أول شهيد في طريق تحرير القدس وفتوحات محور المقاومة، تعتبر بمثابة اعتراف رسمي بمقتله ورفاقه الثلاثة، بعد 41 عامًا من إصرار إيران بأنَّ دبلوماسييها الأربعة المختطفين في لبنان لا يزالون يقبعون في السجون الإسرائيلية. لذلك؛ سوف نتناول في هذا التقرير، أبرز الروايات الإيرانية حول اختطاف متوسليان، ودلالات إخفاء خبر مقتله لأكثر من أربعة عقود ماضية، ثم تداعيات التخبُّط في الرواية الإيرانية الأخيرة، ما بين تصريحات سلامي وسرعة تراجُع الحرس الثوري عنها.
أولًا: أحمد متوسليان.. ثِقله وتأثيره في النظام الإيراني
ولد أحمد متوسليان يزدي في أبريل 1954م، في أحد أحياء جنوب طهران، التحق بالأكاديمية الصناعية وحصل على الدبلوم عام 1972م، ثم أُرسِل إلى الخدمة العسكرية، وحصل على دورة الدبابات المتخصِّصة في لواء «شيراز 37 مدرع» بالجيش الإيراني إبان حكم الشاه محمد رضا بهلوي، ثمّ عمِل في اللواء الثالث من الجيش، وفي عام 1977م، تمّ قبوله في مجال الهندسة الإلكترونية في جامعة إيران للعلوم والتكنولوجيا.
يُعتبَر متوسليان أحد قادة الحرس الثوري الإيراني البارزين، الذين ساهموا في العديد من المجالات العسكرية الإيرانية، ابتداءً بنشاطه النضالي ضد الحُكم الملكي في إيران؛ ما أدّى إلى اعتقاله عام 1977م، وبعد الثورة ساهم في تشكيل لجان الثورة الإسلامية، قبل انضمامه للحرس الثوري، شارك في الحرب العراقية-الإيرانية برتبة جندي، حتى وصوله إلى قائد للواء «27 محمد رسول الله» التابع للحرس الثوري، وقد ذاع صيته لدى القيادة الإيرانية، بعد معركة تحرير المحمرة (خرمشهر بالفارسية) من يد القوات العراقية.
في العام 1982م، أرسلته إيران إلى سوريا مع عدد من المقاتلين، لمساعدة «حزب الله» اللبناني والقتال ضد إسرائيل في جنوب لبنان. وقبل عودته إلى إيران تمّ اختطافه مع ثلاثة آخرين هم: القائم بأعمال السفارة الإيرانية في بيروت محسن موسوي، والسائق بالسفارة تقي راستجار مقدم، بالإضافة إلى الصحافي بوكالة أنباء الجمهورية الإسلامية «إيرنا» كاظم اخوان. ومنذ ذلك الحين، ظلَّت إيران تؤكد بأنَّ متوسليان ورفاقه، اختطفتهم إسرائيل، وأنَّهم لا يزالون يقبعون في السجون الإسرائيلية.
ثانيًا: الروايات الإيرانية حول اختطافه ومقتله
تُعتبَر قضية اختفاء أحمد متوسليان واحدةً من أكثر القضايا تعقيدًا، لما اكتنفها من غموض وتناقُض وسرِّية لنحو 41 عامًا.
ومنذ اختفائه ظهرت عدّة روايات، منها أنَّ المجلس الأعلى للدفاع في إيران كلَّفه في 1982م بمهمّة عسكرية لمساعدة جنوب لبنان في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي، وقبيل عودته إلى إيران قام هو والقائم بأعمال السفارة الإيرانية إضافةً لمصوِّر وكالة «إيرنا» والسائق الذي كان يقود السيارة، بجولة في بيروت، لكن قوات حزب الكتائب اللبنانية احتجزتهم عند حاجز البربارة، وقامت بدورها بتسليمهم إلى إسرائيل، التي أودعتهم في أحد سجونها.
ثمّ ظهرت رواية أخرى، تتحدَّث عن أنَّ قوات الكتائب اللبنانية المتّهمة بالعمالة لإسرائيل، قامت بتصفية الإيرانيين الأربعة بعد أيام من اختطافهم. هذه الرواية تحديدًا، وعلى الرغم من أنَّها الأقرب إلى الحقيقة، إلا أنَّ النظام الإيراني ظل على مدى السنوات الماضية يخفيها، ويُصِرُّ على عدم صحتها، بل أكد مسؤولوه مرارًا وتكرارًا بأنَّ الإيرانيين الأربعة لا يزالون أحياء في السجون الإسرائيلية.
مواقف وتصريحات المسؤولين الإيرانيين خلال العقود الأربعة الماضية، كشفت بجلاء أنَّ متوسليان ورفاقه الثلاثة قد اُغتيلوا منذ عام 1982م. على سبيل المثال، زيارة القائد الأسبق للحرس الثوري محسن رضائي لوالدة أحمد متوسليان في 2016م، وتعبيره لها عن أمله في عودة ابنها في أقرب وقت ممكن، لكنه في نهاية الزيارة أهداها مصحفًا، وكتب عليه عبارة «إهداء إلى والدة الشهيد أحمد متوسليان». مثال آخر؛ ما كشف عنه الباحث الإيراني في تاريخ الحرب الإيرانية-العراقية حميد داود آبادي، الذي ألَّف حتى الآن ثلاثة كُتُب عن أحمد متوسليان؛ قال داود آبادي في هذا الصدد، إنَّه كان يعتقد أنَّ الشخص الوحيد الذي بإمكانه الكشف عن خيوط هذه القضية الشائكة، هو القائد السابق لـ«فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني، الذي لقي حتفه في غارة جوِّية أمريكية قُرب مطار بغداد الدولي مطلع يناير 2020م، لذا ذهب إليه في مارس 2019م، وقال لسليماني إنَّه يعتقد أنَّ الإيرانيين الأربعة المختطفين في لبنان تمَّ اغتيالهم في نفس اليوم، الذي اُختطِفوا فيه، فما كان من سليماني إلّا أنَّ أكد له صحة ذلك، بل أضاف له أنَّ إيران تبادلت رُفاة عدد من جنود قوات الكتائب اللبنانية برُفاة الإيرانيين الأربعة، لكن تحليل الحمض النووي كشف عن عدم وجود تطابُق.
رغم كل هذه الروايات، التي تُثبِت مقتل متوسليان، إلّا أنَّ النظام الإيراني لم يعترف رسميًا بذلك طيلة السنوات الماضية، وحتى قبل وقت قريب، أي في يوليو 2019م، قالت وزارة الخارجية الإيرانية إنَّ «الأدلَّة تشير إلى أنَّ الدبلوماسيين المختطفين في لبنان تمّ تسليمهم لقوات الاحتلال الإسرائيلي، وتمّ نقلهم بعد ذلك إلى الأراضي المحتلة، وهم الآن في سجون هذا النظام». وفي يونيو 2021م، أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانًا بمناسبة مرور 39 عامًا على اختفاء متوسليان ورفاقه، قالت فيه إنَّ متابعة هذه القضية للكشف عن مصير هؤلاء الإيرانيين الأربعة، ستظلّ دائمًا من أولويات الوزارة. كما سبق للأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله، القول إنَّ هنالك مؤشِّرات على وجود الدبلوماسيين الإيرانيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
حتى بعد التصريحات الأخيرة للقائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء حسين سلامي، التي كشف فيها بوضوح عن استشهاد متوسليان بعد وصفه إياه بأنَّه «أول شهيد إيراني في سبيل تحرير القدس»، يبدو أنَّ النظام الإيراني مُصِرٌّ على مواصلة سياسة التناقض في التعاطي مع هذه القضية، بعدما أعلن المتحدِّث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف، أنَّه لا تُوجَد معلومات موثوقة حول مصير أحمد متوسليان ورفاقه المختفين، وأنَّ تصريحات القائد العام للحرس الثوري، لم تُفهَم بشكل صحيح؛ لأنَّه أراد منها الإشادة بأحمد متوسليان، ودوره القيادي في فتح الطريق أمام تحرير القدس وتحرير شعب فلسطين.
لكن هذا التراجع السريع ومحاولات الحرس الثوري لتقديم تفسيرات تبدو غير منطقية، قد يكون نتيجة لوجود امتعاض في الدوائر الضيقة للنظام، من تصريحات سلامي التي كشف فيها مصير متوسليان، لأن تراجع فرص نظرية المؤامرة التي اعتمد عليها النظام لمدة أكثر من أربعين عامًا في تمرير سياساته الداخلية والخارجية، قد تؤدي إلى تعميق أزمة الثقة الشعبية والاستياء والاحتقان الشعبي والتي وصلت لحد الانفجار وأعادت لأذهان النظام مرحلة ما قبل اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979م، كما أن الاعتراف الإيراني باستشهاد متوسليان من شأنه تعزيز مصداقية الرواية الإسرائيلية تجاهه مقابل إضعاف الرواية الرسمية الإيرانية.
ثالثًا: لماذا أخفت إيران حقيقة مقتل متوسليان طيلة 41 عامًا؟
بالنظر إلى الغموض الذي مارسته إيران بشأن مصير متوسليان، ثمّ التراجع السريع عن تصريحات سلامي بخصوص استشهاده، هناك العديد من الاحتمالات، التي قد تكون أخفت إيران بسببها مقتله طيلة الأربعين عامًا الماضية، من أبرزها:
1. التورُّط في الإعلان المبكِّر في اتّهام إسرائيل: الاحتمال الأول أن تكون إيران في وقت الحادث، قد تورَّطت في الإعلان بأنَّ إسرائيل قد اختطفته؛ وبالتالي فإنَّها لم تُرِد أن تتراجع عن ذلك؛ حتى لا تهزّ صورة النظام أمام الرأي العام، لاسيّما أنَّ متوسليان كان أحد مفردات خطاب خامنئي في معظم الاحتفالات، خاصةً خلال لقاءاته مع أُسر شهداء حرس الثورة الإسلامية.
2. توظيف الحادث: هناك احتمال ثانٍ، أنَّ إيران كانت على علم بتفاصيل الحادث، لكنّها حاولت توظيفه من أجل خدمة تطلُّعاتها في ترسيخ العداء لإسرائيل. إذ في خلال تلك الفترة، كانت إيران في صراع مفتوح مع دول المنطقة في إطار مشروعها الخارجي، وكانت في مواجهة مع إسرائيل على الساحة اللبنانية تحديدًا، ومن ثمَّ فإنَّها أرادت أن توظِّف الحادث لحشد شعبي لجهودها في لبنان، وترسيخ مشروعها شعبيًا. فإيران طالما استخدمت شهداءها كرمزية مهمة؛ من أجل التعبئة الداخلية، واستقطاب الأنصار والمؤيِّدين.
3. إخفاء مؤامرة داخلية خلف الحادث: أمّا الاحتمال الأخير، فهو أنَّ متوسليان ورفاقه قد كانوا عُرضةً لمؤامرة من داخل الحرس نفسه، خاصةً بعد ظهور بعض الروايات، التي تتحدَّث عن نشوب خلافات بينه وبين عدد من قادة الحرس الثوري، فضلًا عن قلق بعض القيادات من احتمالية فقدان مكانتها في حال عودة متوسليان إلى إيران؛ لكفاءته العسكرية العالية وتفوُّقه على أقرانه. وتمّ الاستناد في هذه الرواية إلى تسريبات لجلسة جرت بين قادة الحرس الثوري في 1984م، كشفت عن خلافات بينهم، خصوصًا بين قادة مقرَّبين من متوسليان ومنافسيهم على المراكز القيادية في الحرس، وأنَّ إرسال متوسليان إلى لبنان كان استبعادًا له: بسبب معارضته إدارة الحرب مع كبار قادة الحرس الثوري، على رأسهم القائد السابق محسن رضائي، وعلي شمخاني الذي كان حينها نائبًا لقائد الحرس. وفي تلك الجلسة وصف شمخاني؛ الأمين الحالي للمجلس الأعلى للأمن القومي، متوسليان بأنَّه «ضرس مسوِّس تمّ خلعه». وبكل تأكيد، فإنَّ استمرار هذا الملف مفتوحًا سيجعله محل اهتمام ومتابعة إعلامية، وقد يتحوَّل إلى أداة إدانة للنظام الإيراني، ورُبما اتّهامه بالتورُّط في اغتياله؛ لذلك بات من الأفضل غلقه، خاصةً أنَّ الأسماء، التي لها علاقة بالقضية، باتت لها أدوار مهمّة، وهي مرشَّحة للقيام بأدوار أكبر في النظام السياسي.
رابعًا: التداعيات المُحتمَلة لإعلان مقتل متوسليان على الداخل الإيراني
من شأن تصريح سلامي عن استشهاد متوسليان، بعد أربعة عقود من ترديده رواية بقاء الإيرانيين الأربعة وبينهم متوسليان على قيد الحياة في السجون الإسرائيلية، ثمّ التراجع السريع للحرس الثوري وإعلانه أنَّ تصريحات سلامي فُهِمت بصورة خاطئة، قد يترتَّب عليها عدد من الانعكاسات على الداخل الإيراني، نُجملها على النحو التالي:
1. تراجُع فرص تأثير نظرية المؤامرة: في ظل هذا الانكشاف الدعائي، يُتوقَّع تراجُع فرص تأثير نظرية المؤامرة، التي لطالما يروِّج لها النظام في الداخل الإيراني، منذ نشأته قبل أكثر من أربعين عامًا، حيث اعتمد النظام طيلة هذه المدة الطويلة على هذه النظرية، في تمرير سياساته الداخلية القمعية ضد أبناء الشعب الإيراني وسياساته الخارجية التوسعية ضد الدول الوطنية المستقرّة، بترديده أنَّ أعداء النظام -حدَّدهم بالولايات المتحدة وإسرائيل- لا يريدون بقاء الدولة الإيرانية تحت حكم النظام الديني، ويتدخَّلون في الشؤون الداخلية لإيران، ويسعون لضرب مقدراتها ومواطن قوتها الاقتصادية والعسكرية، واستهداف قاداتها ورموزها، ويهدفُ النظام من وراء هذه النظرية تحقيق هدفين رئيسيين:
أ.خلق ظهير شعبي كبير يؤمن بسياسات وأهداف وطموحات النظام في الداخل والخارج.
ب.تسخير مقدرات الدولة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والجغرافية لصالح مخطَّطات ومشاريع الحرس الثوري المذهبية، وأذرعه المسلحة في الدول المستهدفة.
2. تعميق أزمة الثقة الشعبية في النظام: من شأن إعلان الجنرال حسين سلامي مقتل متوسليان، أن يؤدِّي إلى مزيد من تراجُع مصداقية النظام، وتعميق أزمة الثقة الشعبية -القائمة بالفعل- من جموع الشعب في النظام بإيران، التي تشهد تردِّيًا كبيرًا ملحوظًا، على خلفية سياسات النظام الداخلية والخارجية، التي تسبَّبت في عودة العقوبات الاقتصادية الضاغطة والعُزلة الدولية والحصار الشديد لإيران؛ ما أدى إلى تراجع كبير في المؤشِّرات الاقتصادية والمعيشية بانهيار قيمة العملة الإيرانية، وتراجع مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات الجريمة، وارتفاع نسبة الفقر، وتفاقم أزمة البطالة على نحو غير مسبوق في إيران، على نحو دفع الإيرانيين إلى الخروج للشارع في جولات احتجاجية حاشدة عديدة في الآونة الأخيرة، وقد يضيف هذا التصريح مزيدًا من الاستياء الشعبي ضد النظام.
خاتمة
تصريحات قائد الحرس الثوري حسين سلامي، التي وصف فيها متوسليان بـ«شهيد القدس»، أنهت عقودًا من النقاشات الحادة، حول ما إذا كان متوسليان على قيد الحياة أم تمّت تصفيته، وشكَّلت إعلانًا رسمًيا من النظام الإيراني حول مقتله، وربما محاولة لإغلاق التحقيق في هذا الملف. أمّا تراجع الحرس الثوري عن تصريحات قائده وتبريراته غير المقنعة للشارع الإيراني، تكشف بوضوح أنَّ هنالك تيارًا داخل النظام يخالف الاعتراف بمقتله في الوقت الراهن، رُبما لاعتبارات تتعلَّق بمصداقية النظام الإيراني، في ظل حالة السخط والاحتقان الشعبي المتصاعد.