شكّل قرار أذربيجان بفرض رسومٍ جمركية على الشاحنات الإيرانية التي تعبُر أراضيها في طريقها إلى أرمينيا، فضلًا عن المناورة الأخيرة التي أجرتها كلٌ من أذربيجان وتركيا وباكستان والردّ الإيراني بمناورةٍ مُمَاثلة، نقطةَ خلافٍ شديدة بين طهران وباكو وأفضت إلى تبادل الاتهامات والتهديدات بين البلدين.
تُتَّهم إيران بأنها شرَعت في إجراءات استفزازية ضد جارتها أذربيجان خلال الفترة الأخيرة بالتعاون مع أرمينيا وذلك عبر إرسال المساعدات إلى الأرمن القاطنين في إقليم قرة باغ الذي استعادته أذربيجان من أرمينيا بعد الحرب الدموية الأخيرة بين البلدين والتي استمرت لأكثر من 40 يومًا وانتهت في نوفمبر 2020م.
وبعد أيامٍ من قضية فرض الرسوم الجمركية على الشاحنات الإيرانية العابرة لأرمينيا، اتَّخذت الأزمة بين البلدين مسارًا جديدًا عندما أجرت كلٌ من أذربيجان وتركيا وباكستان مناورةً في بحر قزوين، اعتبرتها طهران تهديدًا لأمنها القومي وبرَّرت هذا الامتعاض بأنَّ الاتفاقيات بين الدول الخمس المطلة على بحر قزوين تنصُ على عدم شرعية أيّ وجودٍ عسكري على ضفّتيه. ودون إعلانٍ مُسبق حشدت إيران قواتها على الحدود مع أذربيجان وأجرت مناورةً بالأسلحة الثقيلة والمروحيات في 19 سبتمبر. هذه المناورة حملت معها ملامحُ تصعيدٍ جديد في العلاقات بين طهران وباكو بعدما انتقدتها أذربيجان وتساءل رئيسها إلهام علييف عن دلالات إجرائها في هذا التوقيت بالذات وكذلك عن أسباب عدم إجراء أيّ مناورةٍ على حدود بلاده طيلة الثلاثين عامًا الماضية والتي كان فيها إقليم قرة باغ تحت سيطرة أرمينيا.
التحشيد العسكري بين البلدين، رافقه تصعيدٌ من قِبل الأوساط السياسية والإعلامية الإيرانية ضد أذربيجان وتركيا وسط ظهور مطالب راديكالية من بعض نواب البرلمان بإعادة ضمّ جمهورية أذربيجان إلى بلادهم بحُجة أنها كانت جزءًا من الأراضي الإيرانية وانفصلت عنها بعد هزيمة إيران من الإمبراطورية الروسية في القرن التاسع عشر. وبالمقابل، هاجم محتجون غاضبون السفارة الإيرانية في باكو احتجاجًا على التهديدات الإيرانية، كما أغلقت السلطات في أذربيجان مكتب مُمثّل المرشد علي خامنئي وأكبر حسينية في العاصمة باكو، ثُم تطورت ردود فعل أذربيجان على التصعيد الإيراني ببدء مناوراتٍ واسعة وجديدة مع تركيا في منطقة نخجوان الحدودية، تستمر لمدة 4 أيام.
الأسباب المعلنة وراء التصعيد الإيراني ضد أذربيجان هي فرضُ رسومٍ جمركية على الشاحنات وما تبعها من زيادة الإجراءات الأمنية والمتابعة الدقيقة للجيش الأذربيجاني للشاحنات الإيرانية-ولا سيَّما بعد الاتهامات التي وُجهت لسائقي بعض هذه الشاحنات بإخفاء هُوياتهم واستخدام لوحات أرمينية للشاحنات-، أما السبب الآخر هو «مناورة الإخوة الثلاثة» التي أجرتها كلٌ من أذربيجان وتركيا وباكستان.
لكن هناك أسبابًا غير معلنة قادت إيران لتصعيد لهجتها ضد أذربيجان خلال الأيام القليلة الماضية، أهمها: أنَّ إيران تشعر بقلقٍ شديد من احتماليَّة قيام أذربيجان بإجراء تغييراتٍ جيوسياسية بالتنسيق مع أرمينيا وبمساعدة تركيا وإسرائيل تتمحور حول سيطرة أذربيجان على إقليم سونيك وهو عبارة عن شريط حدودي بين إيران وأرمينيا ويعَدُ الممر التجاري الرئيس لإيران نحو أوروبا، مقابل منح أرمينيا بعض المناطق في إقليم قرة باغ. هذا القلق الإيراني يفسّره البيان الذي أصدره البرلمان الإيراني والذي جاء فيه: «أنَّ أيّ تغييراتٍ في حدود الدول المجاورة يُعَد خطًا أحمر بالنسبة لإيران». هذه التهديدات تبعتها إيران بخطوات عمليَّة للبحث عن طريق بديل في حال تأزمت العلاقات مع جارتها أذربيجان، حيث شرعت في التشاور مع أرمينيا حول إنشاء طريق -آغواني تاتيف- ليربطها بأرمينيا وأوروبا دون الحاجة إلى المرور بأذربيجان.
ونتيجةً للدعم الكبير الذي قدَّمته كلٌ من تركيا وباكستان وإسرائيل لأذربيجان في حربها الأخيرة ضد أرمينيا، فضلًا عن مشاركة كلٍ من تركيا وباكستان في المناورات التي رتَّبت لها أذربيجان وتمَّ إجراؤها في بحر قزوين، رأت إيران أنَّ هناك تحالفاتٍ إقليمية جديدة في طور التشكّل وأنها لن تكون جزءًا منها، فضلًا عن أنَّ هذه التحالفات والترتيبات الجديدة سوف تعزز مكانة ونفوذ منافسيها في تلك المنطقة (تركيا وباكستان وإسرائيل)، وذهب بعض المحلّلين الإيرانيين إلى أنَّ الحرب الأخيرة بين أذربيجان وأرمينيا لعبت دورًا مؤثّرًا في تغيير موازين القوى في المنطقة، وأنَّ الانتصارات التي حقَّقتها أذربيجان على أرمينيا، قادت باكو للاستجابة لتنفيذ مخطَّطات بعض القوى الإقليمية والدولية، الرامية لفرض معادلاتٍ وتوازناتٍ جديدة على طهران. لذا؛ أرادت من تصعيد لهجتها ضد أذربيجان، إيصال رسائل عدم رضا من هذا الوضع الجديد الذي تسعى أذربيجان لفرضه عليها.
كما تشكّلُ علاقات أذربيجان الوطيدة مع إسرائيل هاجسًا أمنيًّا كبيرًا لإيران، ظهر بصورة جلية من خلال تصريحات المسؤولين الإيرانيين على مدى الأيام القليلة الماضية والتي تحدثت في مجملها عن عدم تسامح إيران مع أيّ وجود إسرائيلي بالقرب من حدودها وأنها سوف تتَّخذ أيّ إجراءٍ تراه ضروريًّا لأمنها. وينبع القلق الإيراني من الوجود الإسرائيلي على حدودها الشمالية الغربية، من الاهتمام الإسرائيلي الكبير بأذربيجان واعتبارها أنها واحدةٌ من الدول المهمَّة جدًّا في العلاقات الإستراتيجية الإسرائيلية، وتمتّعها بعلاقات عسكرية وإستراتيجية عميقة مع أذربيجان لدرجة أنَّ إسرائيل لديها خط إنتاج طائرات دون طيار ووجود عسكري واستخباراتي واضح، وبالتالي، ترى طهران أنَّ أذربيجان باتت حلقة مهمَّة في الرؤية الإستراتيجية الإسرائيلية لمحاصرة إيران، وهو ما يقلق النظام الإيراني من أنْ تكون أذربيجان واحدةً من الخِيارات التي قد تلجأ إليها إسرائيل لشنّ هجومٍ على منشآتها النووية. وظهرت هذه المخاوف بشكلٍ أوضح بعد التحذيرات المتكررة للمسؤولين الإيرانيين لأذربيجان من مغبّة السماح لأيّ دولة أخرى باستعمال أراضيها منطلقًا للهجوم على إيران.
من ناحيةٍ أخرى، تعَدُ أذربيجان حليفًا للولايات المتحدة في منطقة القوقاز، ويمثّل إغلاق الطرق أمام الشاحنات الإيرانية المتجهة إلى أرمينيا ضغطًا كبيرًا على إيران في ظل العقوبات المفروضة عليها، كما تشكّل أزمة الشاحنات تهديدًا لإستراتيجيتها التي تعتمد على التحايل على العقوبات الأمريكية والقيود المفروضة على صادراتها. هذا الوضع يخدمُ الأهداف والسياسات التي تتّبعها الولايات المتحدة للضغط على إيران وإجبارها على العودة إلى طاولة المفاوضات في فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي.
وفيما يتعلق بالتداعيات المتوقَّعة على إيران جرَّاء هذا التصعيد، يمكن القول: إنَّ التصعيد مع أذربيجان يفرضُ على إيران المزيد من العزلة الدولية التي يتوقَّع أن تزيد من تعقيد الواقع الاقتصادي المزري الذي تمرُ به إيران نتيجةً للعقوبات الأمريكية المفروضة عليها منذ انسحاب الإدارة الأمريكية السابقة من الاتفاق النووي في 2018م.
خلال الحرب الأذرية الأرمينية الأخيرة، وُجهت أصابع الاتهام لإيران بدعم الجيش الأرميني، وعلى وقع الانتصارات التي حقّقتها أذربيجان وخروج الأذريين الإيرانيين في تظاهراتٍ مؤيدة لجمهورية أذربيجان، وجدت طهران نفسَها مرغمة لإعلان تأييدها حقّ باكو في استعادة أراضيها في قرة باغ؛ ما يعني أنَّ استمرار الصراع بين إيران وجارتها في الشمال الغربي، قد يوقظ النزعة العرقية للأقلية الأذرية التي تشكل نسبةً مقدَّرة من الشعب الإيراني، ويزيد من حجم التحديات الداخلية التي تواجهُها إيران، وقد تستغل القوى المناوئة هذه الورقة للضغط على إيران بُغية إضعافها ونقل المعركة معها إلى الداخل.
في الختام، يمكن القول: إنَّ إيران التي ظلت لسنواتٍ تعتدي على حدود دول الجوار وتعبث بأمنها واستقرارها، تشرب اليوم من نفس الكأس بعدما أضافت لنفسها عدوًا جديدًا على حدودها الشمالية وباتت تُطوَّق بدائرة من الأزمات والصراعات. فعلى الخليج العربي تشهد علاقاتها توترًا كبيرًا مع عددٍ من الدول العربية بوصفها نتيجةً طبيعية للتدخلات الإيرانية السافرة في شؤونها الداخلية، وعلى حدودها الشرقية تقفُ أفغانستان بوصفها ساحةً جديدة للصراع الإقليمي والدولي منذ الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وسيطرة حركة طالبان على الحُكم.
المصدر: Arab News
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد