ارتفعت قيمة الدولار أمام التومان الإيراني بنسبة ٣٧% منذ مطلع ٢٠١٨ حتى ٩ أبريل، مما أجبر حكومة حسن روحاني على اتخاذ قرارات صعبة، إذ أعلنت الحكومة عن تحديد سعر واحد لمنع هروب رؤوس الأموال من النظام المصرفي وعجلة الاقتصاد المحلي، ومنعت بيع وشراء الدولار خارج نطاق النظام المصرفي الذي تشرف الحكومة عليه، وبهذا فقد استهدفت هذه القرارات مصالح القاعدة الاجتماعية الموالية لروحاني في الشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى أكثر من غيرها، كما ستؤدي إلى ممارسة الضغوط على هذه الشريحة في ثلاثة أبعاد: الأول هو أن هذه القرارات ستمنع هذه الشريحة من أن تحافظ على أموالها من خطر الضياع من خلال الاستثمار بالعملة الصعبة. والثاني أن إفقاد العملة الصعبة تأثيرها وفق سعر السوق سيؤدي إلى الإخلال بعملية استيراد السلع التي تعدّ هذه الطبقة من مستهلكيها الرئيسيين. والثالث أنها ستؤدي إلى وضع عقبات وموانع كبيرة حول أسفار الإيرانيين إلى خارج البلاد، مما يشكل ضغطًا كبيرًا على هذه الطبقة التي تشكّل غالبية السياح الإيرانيين في الخارج.
ومن المحتمل أن تتصور حكومة روحاني، من خلال تقييمها للأوضاع، أنّ هذه الطبقة لا طريق أمامها إلا دعم روحاني، ولكن الحكومة لا ينبغي أن تستبعد أن تؤدي الأخطاء التي يرتكبها روحاني بهذه الطبقة إلى معسكر المنادين بتغيير النظام، وذلك في ضوء الآفاق المستقبلية المسدودة وانعدام أي بصيص أمل ولو بسيط لعملية الإصلاح.
لقد أخذ التومان في الهبوط منذ منتصف أكتوبر، أي عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه لا يستطيع تأييد التزام إيران بالاتفاق النووي، مما تسبب في دقّ أول ناقوس خطر للاتفاق النووي والتومان، إذ إنّ خروج الولايات المتحدة المحتمل من الاتفاق النووي يعني عودة العقوبات ونهاية شهر العسل المالي للجمهورية الإسلامية، وهذا ما يقلق السوق.
في نهاية ٢٠١٨ ولمدة ١٠ أيام عمّت موجات عارمة من الاحتجاجات الشعبية ذات الجذور والأسباب الاقتصادية أكثر من ٧٠ مدينة في إيران، مما أدى إلى مقتل عشرات المحتجّين وإصابة المئات واعتقال الآلاف منهم، ولم تؤدِّ “الاحتجاجات العارمة”، كما سمى المحتجون انتفاضتهم، إلى إسقاط نظام “الجمهورية الإسلامية” ولكنها هزّت التومان، كما أعلن ترامب في يناير ٢٠١٨ أنه سيمدد تعليق العقوبات للمرة الأخيرة، ولكنه أضاف بأنه سيخرج من الاتفاق النووي في مايو في حال لم يوافق الأوروبيون على تعديله، وهكذا استمر هبوط التومان.
في فبراير حال البنك المركزي الإيراني دون انهيار التومان لمدة أسبوعين من خلال انتهاجه سياسة العصا والجزرة، إذ تم اعتقال تجار العملة، ورفع سعر الفائدة على الودائع، والبيع بالعاجل للمسكوكات الذهبية، لكنّ وتيرة هبوط التومان تسارعت منذ مطلع مارس. ففي منتصف هذا الشهر وجّه ترامب تحذيرًا جادًّا إلى الاقتصاد الإيراني، وذلك من خلال تغييرات أجراها في فريقه على صعيد السياسة الخارجية والأمن، إذ قام ترامب في البداية بعزل وزير خارجيته تيلرسون عبر تغريدة واحدة، وعيّن محله مايك بومبيو، وهو من معارضي الاتفاق النووي، ثم ودّع ترامب مستشار الأمن القومي ماكماستر، وعيّن بدلًا منه عدوّ الملالي، جون بولتون.
لقد ارتفع الدولار أمام التومان بنسبة ٢٠ في المئة منذ أن قام ترامب بتعيين بولتون في ٢٢ مارس حتى تولى الأخير منصبه كمستشار الأمن القومي بشكل فعلي في التاسع من أبريل، وهو اليوم الذي أعلن فيه ولي الله سيف عن توحيد سعر للصرف يُلتزَم به في النظام المصرفي. كما أعلن سيف عن منع بيع العملة الصعبة وشرائها للأفراد الذين لا يملكون تراخيص حكومية، ومُنِع الاحتفاظ بمبلغ يفوق ١٠ آلاف يورو إلا بتراخيص خاصة، كما تبيع الحكومة لكلّ مسافر نحو ٥٠٠ يورو في العام إذا كانت الوجهة هي الدول القريبة من إيران، ويرتفع هذا الرقم إلى ١٠٠٠ يورو لزيارة الدول البعيدة، وذلك بسعر الصرف الحكومي.
إنّ حظر البيع والاحتفاظ بالعملة الصعبة دون الحصول على إذن حكومي يعني أن الإيرانيين سيواجهون قيودًا كبيرة لزيارة الدول الأخرى، وقد كان المسؤولون الإيرانيون منذ فترة طويلة يشعرون بالاستياء من ارتفاع حجم الزيارات الخارجية للإيرانيين، وهذه السياسة ليست مجرد صدفة.
إنّ ما نسبته ٤٣% من السلع كانت تُستورَد إلى إيران بالسعر التبادلي، أي السعر الحكومي الرخيص، وذلك قبل توحيد سعر الصرف، ومعظم هذه السلع المستوردة سِلع استراتيجية تستخدمها كل شرائح المجتمع، وتشتمل النسبة المتبقية من السلع المستوردة، أي الـ57%، على سلع تستخدمها الشرائح الأكثر ثراءً، ومن المستبعَد أن تقوم حكومة روحاني بتخصيص عملة صعبة بالسعر الحكومي الرخيص لشراء هذه السلع، مما يعني نقصًا حادًّا في هذه السلع وارتفاعًا جنونيًّا في أسعارها.
وكما أوضحنا سابقًا، فإنّ التعيين الإجباري لسعر عملة موحّد سيؤدي إلى ظهور مشكلات اقتصادية ويؤثر سلبًا على الشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى في إيران، التي كانت جزءًا من القاعدة الشعبية الموالية لحسن روحاني خلال السنوات الأخيرة، والموالية للإصلاحيين قبل ذلك، وافترقت منذ فترة طويلة بطريقها عن طريق خامنئي والحرس الثوري والأصوليين، ونزلت إلى الشارع بأعداد كبيرة في ٢٠٠٩ للتعبير عن معارضتها لمحمود أحمدي نجاد، وعلى ضوء غياب مخرج وبديل، وغياب برنامج للانتقال من هذا النظام، قامت هذه الطبقة، التي تمُارَس عليها ضغوط كبيرة وتملك أشياء كثيرة لتخسرها، بمساومة وعقد صفقة مع روحاني، فهي تدعمه أمام المنادين بإسقاط النظام والمنادين بمقاطعة النظام، وكذلك أمام خامنئي والحرس الثوري، وفي المقابل فتح روحاني المجال أمام بيع النفط، مما أدى إلى تحسين الظروف المعيشية لهذه الطبقة، كما أن روحاني يقوم بإيجاد متنفس وأجواء مفتوحة نسبيًّا على المستوى المحلي والدولي من أجل أن تستفيد هذه الطبقة من الظروف لكي لا تختنق في ظروف الاحتقان.
إنّ الشريحة العليا من الطبقة الوسطى ليست هي “الشباب الطهرانيين الأثرياء”، وإنما هي شريحة تتمتع برفاه نسبي بسبب عوائد الإيرادات النفطية إلى الاقتصاد الإيراني، وفي الوقت الذي يسجل التومان بوضوح أداء غير مستقر، تسعى هذه الطبقة إلى حماية رأسمالها المحدود من خلال الاستثمار في العملة الصعبة، ويعدّ السفر إلى خارج البلاد بالنسبة إلى هذه الشريحة بمثابة استنشاق الحرّية ولو لفترة قصيرة، وتشعر من خلال استخدام سلع أجنبية فاخرة بأنها لم تنقطع عن العالم المتمدّن وهي تعيش في سجن “الجمهورية الإسلامية”، والآن أصبح التوفير والثروة والشؤون الترفيهية والزيارات الخارجية والسلع الاستهلاكية التي تستخدمها هذه الطبقة في مهبّ الريح وعرضة للزوال بسبب سياسة حكومة روحاني بخصوص العملة الصعبة.
إنّ احتجاجات ديسمبر ويناير والاحتجاجات المستمرة التي تلتها أظهرت أن “الجمهورية الإسلامية” فقدت قاعدتها الجماهيرية بين شرائح كبيرة من الفقراء والعمال والفلاحين والموظفين الذين لا يزالون في الشوارع للتعبير عن سخطهم، وتتوارد الأخبار يوميًّا حول احتجاجات شعبية في مناطق مختلفة من البلاد، وطيلة هذه المدة لم تشارك الشريحة العليا من الطبقة الوسطى في هذه الاحتجاجات.
إنّ ظهور الشرخ بين هذه الطبقة وحكومة روحاني لا يشكّل تهديدًا كبيرًا لحكومة الأخير فحسب، بل لـ”الجمهورية الإسلامية” بأكملها، فالتحالف بين الفقراء والأثرياء هو مفتاح سقوط “الجمهورية الإسلامية”، وعلى ما يبدو فقد أصبحت عودة العقوبات الأمريكية التي تشل إيران، وخصوصًا البنك المركزي، خلال الأشهر المقبلة واقعًا، وهذا قد يوصل فئات كثيرة من الطبقات الأكثر انتفاعًا إلى نتيجة مفادها أن إعمال إصلاحات في نظام “الجمهورية الإسلامية” ما داموا على قيد على قيد الحياة أمرٌ مستحيل، ليس ذلك فحسب، بل إنّ وضعية “لا حرب ولا سلام” خامدة بين إيران وأمريكا، لتضمن استمرار تدفق الإيرادات النفطية، باتت مجرّد وهم ومن نسج الخيال، وفي هذه الظروف قد تصل الشرائح الأعلى في الطبقة الوسطى إلى نتيجة مفادها أنه من الأفضل لها أن تجازف بالمشاركة في عملية تغيير النظام.
والآن أمام المجتمع الدولي فرصة تاريخية لاستغلال الشرخ المتنامي بين جميع شرائح المجتمع الإيراني من جهة و”الجمهورية الإسلامية” من جهة أخرى، وقد يستطيع المجتمع الدولي أن يكتب نهاية نظام “الجمهورية الإسلامية” من خلال وقوفه إلى جانب الشعب الإيراني ومعارضي “الجمهورية الإسلامية”. لا نعلم إلى متى قد تكون هذه الفرصة متاحة على الطاولة، لأن حكام طهران أثبتوا بأنهم أساتذة في فن صراع البقاء، وكما يقول مايكل ليدين، زميلي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: “بشكل أسْرَع رجاءً!”.