تستهدف كلٌّ من روسيا وإيران تحقيقَ مزيد من التقارب على مستويات عدَّة، من بينها المستوى الاقتصادي، بما يشمله من زيادة في التبادل التجاري والاستثمارات المباشرة، خاصَّةً في مجال الطاقة واتفاقيات التبادل المالي والمصرفي، وحتى الإعلان عن توقيع اتفاقية إستراتيجية شاملة في القريب العاجل، باعتبارها ستكون انطلاقةً لتعميق العلاقات فيما بين البلدين بمجالات عدَّة، من بينها الاقتصادية. لكن تظلّ هناك عدَّة أسئلة مهمَّة، بعيدًا عن التناولات الإعلامية للموضوع؛ وهي: ما هو واقع العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وكيف كانت فيما مضى، وكيف يمكن أن تتّجِه في ضوء هذا الواقع؟ سيكون هذا محور حديثنا.
بالرجوع إلى الماضي البعيد نسبيًا؛ أي ما قَبل قيام «الجمهورية الإيرانية»، نجِد أنَّ العلاقات الاقتصادية بين إيران وروسيا -الاتحاد السوفيتي سابقًا- كانت محصورةً في إطار ضيِّق يشمل تبادُلًا تجاريًا محدودًا، مقارنةً مع الدول الغربية مثل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان؛ وذلك مع وجود مساعدات روسية محدودة لإيران في نقْل بعض الصناعات الثقيلة، كإنشاء مصنع الصُلب في أصفهان، في مقابل استيراد الغاز الإيراني ذلك الوقت.
بينما في عصر ما بعد ثورة 1979م، تكشف لنا الحقائق الإحصائية عن تواضُع حجم التجارة بين البلدين، خلال الأربعة عقود الماضية عامَّةً، حتى مع زيادتها بدرجةٍ طفيفة خلال العقد الأخير، لكنّها مع ذلك لا تمثِّل وزنًا نسبيًا مهمًّا في تجارة أيٍّ من البلدين مع أكبر الشركاء التجاريين لهما، أو تجارتهما مع العالم الخارجي، خاصَّةً بالنسبة لروسيا، التي قاربَ إجمالي تجارتها مع العالم مستوى 800 مليار دولار في عام 2022م، في حين لم يصِل إجمالي حجم التبادل التجاري بينها وبين إيران لمستوى 3 مليارات دولار في ذات العام.
فمنذ عام 1992م وحتى عام 2018م، لم تصِل صادرات إيران إلى روسيا لمستوى نصف مليار دولار في العام الواحد، وكان أقصى ما وصل إليه حجم صادرات إيران لروسيا حوالي 920 مليون دولار في عام 2021م. ولم يختلف الوضع كثيرًا مع صادرات روسيا إلى إيران، التي سجَّلت عام 1993م أقلّ من 190 مليون دولار، ثمَّ 730 مليون دولار في عام 2006م، ثمَّ ما يزيد قليلًا عن مليار دولار في عام 2010م، ثمَّ تراجعت مرَّةً أُخرى إلى قرابة 750 مليون دولار في عام 2013م. وكان أقصى ما وصلت إليه وفق بيانات صندوق النقد الدولي، قرابة مليار و700 مليون دولار في عام 2021م خلال جائحة كورونا وزيادة اعتماد إيران عليها، خاصَّةً في استيراد الحبوب، قبل أن تتراجع صادراتها إلى إيران مرَّةً أخرى في عام 2022م إلى مليار و150 مليون دولار فقط.
وعلى الرغم من التقارب السياسي بينهما في كثير من الحقَب الزمنية، خلال العقود الأربعة الماضية، إلّا أنَّ إجمالي حجم التجارة بين البلدين تاريخيًا كان ولا يزال ضعيفًا، وكان أقصى ما وصلوا إليه ما هو مسجَّل وفقًا لبيانات صندوق النقد الدولي في عام 2021م، الذي لم يصِل إلى مستوى 3 مليارات دولار، بينما في عام 2023م تراجع حجم التبادل التجاري بينهما، ولم يصِل إلى مستوى 2 مليار دولار، واحتلَّت إيران بذلك المرتبة 41 في قائمة الشركاء التجاريين لروسيا. وللمقارنة وتقريب الصورة، فإنَّ حجم تجارة إيران مع الهند وصل إلى قرابة 17 مليار دولار في عام 2018م؛ ومع هذا فهي ليست من بين أكبر 3 شُركاء تجاريين لإيران (وهُم الصين والإمارات وتركيا)، بينما بلغ إجمالي حجم تجارة إيران مع العالم الخارجي قرابة 80 مليار دولار في عام 2022م. في حين قاربت تجارة روسيا مع العالم الخارجي في ذات العام، 800 مليار دولار، وهو رقمٌ ضخم، لا تمثِّل تبادلاتها التجارية مع إيران نسبةً تُذكَر فيه.
ويُعَدُّ قطاع الطاقة وتحديدًا الغاز، من أبرز المجالات التي تهتمّ بها روسيا في إيران، وتحتاج الأخيرة لتطويره بشكل كبير، إذ يتطلَّب استمثارات ضخمة. وتحتاج إيران إلى استثمارات أجنبية لتطوير صناعة النفط والغاز، لا تقِلّ عن 200 مليار دولار، ناهيك عن المجالات الأخرى التي في أمسّ الحاجة للتطوير، كالصناعة والزراعة والبنية التحتية والطيران والسيارات والبتروكيماويات. ولا تأتي روسيا عادةً من بين كبار المستثمرين الأجانب في إيران، إلّا في بعض الأعوام، مقارنةً بدول مثل الصين وأفغانستان وتركيا والهند والإمارات، كأكبر خمس دول يتكرَّر ضخّها للاستثمارات في إيران، ولا يعني هذا ضخّهم لمئات ولا حتى عشرات المليارات، بل بِضع مليارات تُعَدُّ على أصابع اليد الواحدة، وصلت إلى 4 مليارات دولار فقط خلال العام المالي الإيراني 2023/2024م. ولم تكُن روسيا من ضمن الخمسة الكبار، على الرغم من كونها جاءت في المرتبة الأولى كاستثناء في عام 2022/2023م، وضخَّت حوالي 2.8 مليار دولار فقط في هذا العام. وكان هذا استثناءً لا يُعوَّلُ عليه، وبالطبع كان قطاع الطاقة والتعدين هو القطاع الجاذب لهذه الاستثمارات، نظرًا لما تمتلكهُ روسيا من خبرات واسعة في مجال استثمارات النفط والغاز. لكن، لا تزال إيران في حاجة لأضعاف هذه الاستثمارات؛ لتطوير هذين القطاعين تحديدًا، إلّا أنَّ العقوبات المالية والمصرفية تبقى عائقًا في تحقيق هذا الهدف أمام البلدين.
كما أنَّ العزم على إعلان توقيع البلدين لاتفاقية إستراتيجية شاملة ليس بالأمر الجديد، إذ سبق أن وقَّعت روسيا وإيران اتفاقيةً إستراتيجية مدَّتها 20 عامًا في 2001م، تهدُف إلى التعاون في مجالات الأمن ومشاريع الطاقة، وتمَّ تمديدها تلقائيًا عام 2020 لمدَّة 5 سنوات، وفقًا لتقارير وكالة «تاس» الروسية للأنباء. واتّفق الجانبان أيضًا في 2020م، على العمل على اتفاقية جديدة تحِلّ محلّ الوثيقة القديمة. ولم تنجح هذه الاتفاقية في تعميق حجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين، على العكس تمامًا بالنسبة لوضع العلاقات العسكرية بينهما. كما وقَّعت شركة «غازبروم» في يوليو 2022م مذكِّرةً بشأن التعاون في قطاع الطاقة مع الشركة الوطنية الإيرانية للغاز، بنحو 40 مليار دولار، لكن لم تخرج أيّ صفقات ملموسة من تلك الاتفاقية إلى النور.
لذا، ففي ضوء الحقائق السابقة، فإنَّ الإعلان عن توقيع اتفاقية إستراتيجية شاملة جديدة مستقبلًا، قد لا يعني الكثير بالنسبة لمستقبل البلدين الاقتصادي، خاصَّةً أنَّهما يواجهان عقوبات تجارية ومالية أمريكية ودولية، حدَّت من قُدرتهما بدرجةٍ واضحة على زيادة التبادل التجاري، وحتى على نقْل التكنولوجيا على نحوٍ مكثَّف، خلال السنوات الماضية، حتى مع محاولة البلدين لتفعيل نُظُم دفْع مالية مشتركة. لكن على الجانب الآخر، يحاولُ البلدان الخروج من عُزلتهما الدولية الجبرية، عبر الاجتماع في منظَّمات واتحادات ذات أهداف أمنية وسياسية في المقام الأول، واقتصادية في المقام الثاني، مثل منظَّمة شنغهاي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي وتكتُّل «بريكس»، مع وجود الصين؛ على أمل خلْق تكتُّلات اقتصادية تساعدُهما في تقليل تأثير العقوبات الغربية عليهما مستقبلًا. وأخيرًا، تَظهر الخلافات السياسية بين إيران وروسيا بين الفينة والأخرى، خاصَّةً في الجوانب الجيوسياسية، والثقة بين الجانبين رُبَّما ليست متينة، بل هي مجرَّد «تعاون تخادُمي» في أفضل الحالات. وقد نجِد أنَّ إيران تحاولُ مغازلةَ الغرب، مقابل التوقُّف عن التعاون مع روسيا، لكن هذا يعتمدُ على متغيِّرات كثيرة تستحق مقالًا منفصلًا.
المصدر: عرب نيوز
الآراء الواردة في المقال تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولاتعكس بالضرورة رأي المعهد